الثورة التلسكوبية: المعارف الفلكية ما بعد “هابل”

خاص- ثقافات
*
عبد الحميد العـلاقي  

لا أحد يمكنه أن ينسى الجملة الشهيرة لرائد الفضاء الأمريكي نيل أرمسترونغ عندما وضع قدمه لأول مرة في تاريخ البشرية على أرض القمر ذات صيف من سنة 1969 بقوله ” خطوة صغيرة لإنسان خطوة عظيمة للإنسانية”، غير أنّ تلك الخطوة الإنسانية لا تُعدّ اليوم ذات بال قياسا بكمّ المعارف الفلكية الجديدة التي أُنجزت بعد أرمسترونغ وهي معارف أغنت الانسان عن تكلّف السفر إلى كواكب المنظومة الشمسية أو أقمارها فضلا عن استحالة تحقيق هذا الأمر في الوقت الراهن على الأقل فحتى الرحلة المأهولة للقمر بعد تجربة أبولو  لم تعد أمرا جذابا أو مهمّا من الوجهة العلمية لذلك كفّت وكالة الفضاء الأمريكية ناسا عن ارسال بعثات بشرية إلى سطح القمر، وحتى البرامج الفضائية المختلفة لبعض الدول الرائدة مثل روسيا والصين لم تر جدوى في اتخاذ هذه الخطوة.

وقد حتّم هذا الاختيار منذ أواخر ستينيات القرن الماضي التوجه إلى سبل مختلفة أكثر فاعلية وأقلّ كلفة ومنذ ذلك التاريخ بدأ العهد التلسكوبي الفضائي يحقق تطوره اللافت في المعارف الفلكية إلى الحدّ الذي صارت فيه أهم مصدر للحقائق العلمية الفلكية الجديدة وبقطع النظر عن التلسكوبات الأرضية وما قدّمته فإنّ التلسكوبات الفضائية استطاعت أن تضيف حقائق مذهلة فتحت عينيّ الانسان على عوالم أكثر دهشة وغرابة وغيرت نظرتنا لعالمنا الأرضي ومنظومتنا الشمسية ومن تلك التلسكوبات مرصد روسات ROSAT الذي أطلق العام 1990 وتلسكوب “بيبوصاكس BeppoSax  (1996) وغيرهما كثير واهتمّ معظمها برصد الأجرام السماوية ودقة قيس المسافات بين المجرّات أو النجوم والثقوب السوداء والأصوات المنبعثة من الفضاء الخارجي.

ويُعدّ تلسكوب “هابل” Hubble الذي أرسل إلى الفضاء عام 1990 نقلة حقيقية في عالم الرصد الفضائي إذ استطاع أن يصوّر المجرات البعيدة والأجرام السماوية بدقة متناهية وأن يقدّم صورا نقية لم يكن لها أن تكون على المراصد الأرضية، والمميز في هابل أنه التلسكوب الوحيد الذي خضع لإصلاحات كثيرة وهو في مداره الذي يبعد عن سطح الأرض مسافة 593 كلم أولها كان سنة 1993 وآخرها سنة 2009.

 لقد استطاع “هابل” أن يرصد أكثر من مليون جسم فضائي وأن يقدّم معلومات كثيرة ودقيقة عن اصطدام المجرّات وموت النجوم (السوبرنوفا) وأن يفتح عيون علماء الفلك على عصر جديد صار فيه الانسان يتطلّع بشكل أكبر إلى ما وراء المنظومة الشمسية باحثا عن منظومات نجمية أخرى وعن حياة ممكنة خاصة في مجرة “درب التبانة”، فقد أطلقت ناسا في 6 مارس 2009 تلسكوبا لهذه المهمّة أسمته كيبلر kepler على اسم العالم الفلكي  الألماني يوهانس كيبلر وقد حقق هذا التلسكوب نتائج مهمّة حتى الآن برصده لأكثر من 2700 كوكبا خارج المجموعة الشمسية ويتمّ تصنيف هذه الكواكب انطلاقا من حجمها وكثافتها ومتوسط بعدها عن النجم الذي تنتمي إليه وكذلك من خلال حركتها المدارية و تحدّد هذه المسائل جميعها ما إذا كان الكوكب ترابيا أم غازيا، ويتبيّن كيبلر هذه المعلومات من خلال مستويات التظليل التي يُحدثها الكوكب للنجم عند مروره المداري بجانبه. ومن ضمن هذا الكم من الكواكب يصنّف الخبراء المسؤولين عن مهمة كيبلر أكثر من خمسين كوكبا لها خصائص قريبة من الأرض ويقع مدارها في النطاق القابل للسكن habitable zone the وهو النطاق الذي يظلّ فيه الماء المكون الأساسي للحياة سائلا. إنّ كيبلر الذي فَقَد اليوم الكثير من قدراته التقنية ما يزال يقدّم الاكتشافات النجمية الباهرة رغم أنّ الناسا حدّدت العام 2012 نهاية مهمته غير أنّها عملت على اصلاح بعض العطب الذي حلّ به لإطالة أمد تلك المهمة إلى أواخر سنة 2016 لأنّ الكثير من كواكب النجوم ما تزال محل بحث وأمام كيبلر أكثر من 145000 نجما تستحق الدراسة الطويلة للوقوف عند حركة كواكبها والنطاق المداري الذي تقع فيه والنظر في اضطراب حركتها أو استقرارها وهو أمر يتطلب سنوات من البحث لإدراك النتائج النهائية ويبدو الأمر في الحقيقة أكبر من قدرة كيبلر الذي أشرفت مهمته على الانتهاء، غير أنّ مشروعا آخر لا يقلّ أهمية ينتظر التنفيذ وهو التلسكوب الفضائي “جيمس ويب” James Webb  المزمع إطلاقه في أكتوبر 2018 ويُعدّ هذا التلسكوب وريثا لمرصد “هابل” غير أنّ قدرته التقنية تفوقه بخمس مرّات وتتلخص مهمة “جيمس ويب” في أربعة مجالات هي:  أولاً البحث عن الضوء المنبعث من النجوم والمجرات الأولى بعد الانفجار العظيم (البيغ بان)، ثانياً دراسة نشأة المجرات وتكوينها وسلسلة تطورها ، ثالثاً دراسة نشأة النجوم والكواكب ، رابعاً دراسة أصل الحياة. ويعتمد التلسكوب “ويب” الأشعة تحت الحمراء لرصد أضعف الاشعاعات النجمية خاصة وأنّ هذه التقنية قد أثبتت نجاعتها في ميادين فلكية أخرى. والمنتظر من “جيمس ويب” هو أن يحقّق قفزة نوعية للإنسانية قد تخبرنا فيها أنّنا لسنا وحدنا في هذا الكون الفسيح وأنّ كائنات ذكية ممكنة تقتسم معنا الوجود في ركن بعيد من أركان الوجود الممتدّ.

مراجع البحث:

  • Bergin، “James Webb Space Telescope hardware entering key test phase”. NASASpaceflight.com.

  • Spitzer، Lyman S. (March 1979). “History of the Space Telescope”. Quarterly Journal of the Royal Astronomical Society 20: 29–36.

  • Ciel & espace, juillet /Aout 2015, numéro 542, p24-28.

  • Science & Avenir, Novembre 2010, No 765, p65-69.

  • Andersen، The telescope: its history, technology, and future. Princeton University Press.

  • https://www.nasa.gov/موقع وكالة الفضاء الأمريكية

    ____________

*باحث وكاتب تونسي.

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *