بين طه حسين وأستاذه «ناللينو»

*إيهاب الملاح

تمهيد

بعض الأفراد تتجاوز آثار أعمالهم سيرة حياتهم، بمعنى أنها تتجاوز النطاق الضيق المحدود بالعمر الذي أمضوه في هذه الدنيا، لضخامة الإنجاز وبعد الأثر وحيوية الإسهام، تصبح السيرة أطول من العمر، تُستدعى السيرة وتُفحص جوانبها وتُستعاد مراحلها بثراء التجربة وتعدد المناحي التي شارك فيها صاحب هذه السيرة، نعم. صدق من قال «إن السيرة أطول من العمر».

تمثل حياة الدكتور طه حسين (1889-1973)، الملقب بعميد الأدب العربي، والملقب أيضاً بعميد الفكر العربي المعاصر، سعياً متجدداً لتجاوز التخلف وتأصيل قيم التقدم على أساسٍ من الانتماء الثقافي والتفاعل الحضاري في أبهى وأزهى صوره، وأكثرها نضارة وتألقاً وتأثيراً. كانت حياة طه حسين منذ طفولته الباكرة زاخرة بالصعوبات والتحديات، لكن كان تغلبه عليها وتخطيها بعد ذلك مثالاً فذاً وناصعاً أمام الأجيال، كل الأجيال التي تلته، بلا استثناء، يقدم لهم الأمل في الحياة الراقية، وفي التطلع إلى مستوى من التفكير العقلي والنشاط الذهني والفاعلية الثقافية والمجتمعية يندر أن يحققها شخص بمفرده مهما كان.

ولهذا، فإن الاحتفال بذكرى رحيل عميد الأدب العربي، في الثامن والعشرين من أكتوبر من كل عام، يصبح مناسبة حافزة وضرورية على إعادة تمثل وتأمل سيرة طه حسين، والبحث في جانب أو أكثر من جوانب إنجازاته الضخمة ومسيرة حياته العامرة.

في الذكرى الثالثة والأربعين لرحيل طه حسين، تعيد «الاتحاد الثقافي» التنقيب في بعض تراث العميد، تلقي أضواء على مراحل شديدة الأهمية في تكوينه ومسيرته العلمية والثقافية، تعيد قراءة نصوص ومحاضرات نادرة، لم تلق الاهتمام والعناية اللازمة من مجمل تراث العميد..هنا في هذا الملف.. نبحث عن علاقة طه حسين بأستاذه الأول المستشرق الإيطالي الكبير كارلو ناللينو الذي ترك أعمق الأثر وأكبره على تفكير ومنهجية طه حسين في دراسة تاريخ الأدب العربي والثقافة العربية في مجملها، ونلقي أضواء كاشفة على هذه العلاقة، وكذلك نعيد التنويه بذلك النص النادر الذي كتبه طه حسين تقديما لكتاب أستاذه المعنون ب «تاريخ الآداب العربية من الجاهلية حتى عصر بني أمية» الذي صدرت طبعته الأولى عام 1955 (وإن كان نشر على حلقات في سنة 1915,1916 بمجلة الهلال) ولم يطبع هذا الكتاب القيم منذ أكثر من نصف قرن حتى الآن.

(1)

في العام 1964، أصدر المعهد الجامعي الشرقي في مدينة نابولي الإيطالية، مجلداً تكريمياً مُهدى من مدرسة المستشرقين الإيطالية إلى عميد الفكر العربي المعاصر، الدكتور طه حسين، بمناسبة بلوغه الخامسة والسبعين. جاء هذا المجلد لتكريم طه حسين، وأيضاً لتكريم مدرسة الاستشراق الإيطالية، ولم يكن هذا بغريب على الاستشراق الإيطالي، فقبل خمسين سنة من هذا التاريخ، كان المستشرق الإيطالي الكبير كارلو ناللينو قد اختتم سلسلة محاضراته التي ألقاها في الجامعة المصرية القديمة سنة 1910 عن «علم الفلك عند العرب» بعبارة تحية وشكر من أنبل وأقيم ما يُقرأ لأستاذ غربي يخاطب الشرقيين، حسب عبارة محرري هذا المجلد القيم.

هذا الكتاب عبارة عن مجموعة دراسات عن طه حسين وترجمات لبعض آثاره اشترك فيها كل المستشرقين الإيطاليين من الشيوخ من طبقة الأعلام المخضرمين إلى الشباب المحدثين. ويبدأ الكتاب بعبارة تحية وتقدير لطه حسين كتبها عميد المستشرقين الإيطاليين آنذاك «فرانشيسكو جابريللي».

ولم يكن من الممكن أن يصدر هذا المجلد الضخم، الثري، عن طه حسين، لولا تلك العلاقة الإنسانية والعلمية والمنهجية الفريدة التي ربطت بينه وبين أستاذه الإيطالي «كارلو ناللينو»، الذي كان شاهداً على أهم حدث فكري وثقافي في تاريخ مصر الحديثة وهو افتتاح الجامعة في العام 1908.. وكانت بينه وبين طه حسين علاقة إنسانية وعلمية، وعلاقة أستاذية وتلمذة «مثالية» أثمرت أحسن وأطيب ما يمكن أن تثمره هذه الشجرة الوارفة.

(2)

أنشئت الجامعة المصرية العام 1908 وعملت منذ بدايتها (برئاسة الأمير أحمد فؤاد آنذاك) على استدعاء مجموعة من كبار المستشرقين (من إيطاليا خاصة) لتدريس تاريخ الأدب العربي، وفقاً لمناهج البحث الحديثة، وكان هؤلاء الأساتذة بمثابة جسور علمية وفكرية وحضارية وصلت الطلاب والباحثين بالتيارات الفكرية الحديثة.

كان أبرز هؤلاء المستشرقين، الأستاذ والفلكي الإيطالي المرموق كارلو ألفونسو ناللينو (1872-1938) Carlo Alfonso Nallino الذي كان علامة بارزة في مجال دراسة تاريخ علم الفلك عند العرب والمسلمين، فضلاً عن دوره الكبير في تأصيل المناهج الحديثة في درس الأدب العربي، من خلال تدريسه وإلقائه المحاضرات في الجامعة المصرية الوليدة.

افتتح ناللينو محاضراته في الجامعة بتدريس مقرر «تاريخ الفلك عند العرب»، في الموسم الدراسي (1908/‏‏ 1909)، وهي التي جمعت في ما بعد في كتابه العمدة «علم الفلك تاريخه عند العرب في العصور الوسطى»، ثم قام في العامين التاليين (1910/‏‏ 1911) بتدريس مقرر «تاريخ آداب اللغة العربية»، وكان أكثر ما يتميز به ناللينو أثناء شرحه «النقد التاريخي»، وهو من أوائل المستشرقين الذين تحدثوا عن أسبقية الشعر التاريخي وعمره الحقيقي، أيضاً كتب ناللينو عن أشعار الوليد بن يزيد الذي كان من أشهر شعراء المجون، وتوقف أمام إمكانية الاعتماد عليها أو الاطمئنان التام لما ورد في مصادر الثقافة العربية بشأنها، ودعواه في ذلك أن هذه الأشعار دُونت في العصر العباسي الذي كان يكره الوليد وعصره. تتلمذ على يدي ناللينو خلال هذين الموسمين الدراسيين كثير من الطلاب النوابغ، كان أظهرهم وأبرزهم طه حسين.

ولعل هذه الحكاية التي يرويها طه حسين في كتابه (الأيام) عن أستاذه «ناللينو» تكشف عن مدى الأثر الذي أحدثه هذا الأستاذ في حياته:«وينفق الفتى الإجازة كلها مفكراً فيما سمع، ومشوَّقاً إلى ما سيسمع في العام المقبل، ومتسائلاً عمن يبقى من الأساتذة الذين عرفهم ومن يُدْعَى من أساتذة لم يعرفهم. ثم لا يلبث أن تستأثر الجامعة بعقله كله وجهده كله، وأن تشغله عن كل شيء آخر، فقد أقبل أساتذة جُدُد ملكوا عليه أمره واستأثروا بهواه، فهذا الأستاذ كارلو ناللينو المستشرق الإيطالي يدرِّس باللغة العربية تاريخ الأدب والشعر الأمويِّ.. وكان تحرُّقه إلى درس اليوم الثالث أشدَّ وأقوى من تحرُّقه إلى الدرسين اللذيْن سبقاه، فسيكون الأستاذ إيطاليٍّا، وسيتحدَّث باللغة العربية، إيطاليٌّ يتحدث إلى المصريين»..

ولا ينسى طه حسين أن يشير إلى هذه الواقعة ذات الدلالة الكبيرة في حياة الجامعات وأهل العلم والمعرفة، فبسبب الأحداث السياسية في ذلك الوقت، تعرض الأستاذ ناللينو لموقف غريب يرويه طه حسين قائلاً:

«ولم ينسَ الفتى يوماً قرر فيه الطلاب أن يُضربوا عن درس الأستاذ ناللينو الإيطالي، لأن إيطاليا أعلنت الحربَ على تركيا، وأرسلت سفنها غازية لطرابلس، فأزمع الطلاب أن يجتمعوا في غرفة الدرس، حتى إذا أقبل الأستاذ وارتقى إلى مجلسه خرجوا من الغرفة وتركوه فيها وحيداً. وقد أتمَّ الطلبة ما قرروا، فتركوا الأستاذ وحيداً في غرفة الدرس، ووقفوا أمام الغرفة ينتظرون ما يكون من أمره، ولبث الأستاذ في الغرفة دقائق ثم خرج، فأقبل على تلاميذه وقال لهم في لهجة عربية صحيحة فصيحة، يلتوي بها لسانه بعض الشيء: مَثَلُكُمْ مَثَلُ الرَّجُلِ الذي أَرادَ أَنْ يَغِيظَ امْرَأَتَهُ فَخَصَى نَفْسَهُ! وكان السهم صائباً، وكان أثره لاذعاً ممضّاً».

(3)

تأثر طه حسين بشدة، بأستاذه المستشرق العلامة «ناللينو» خصوصاً في ما يتعلق بدراسة الشعر الجاهلي، والنظر في قضاياه وموضوعاته، وكانت أفكار ناللينو هي المادة الخام التي نسج منها طه حسين في ما بعد نظريته المثيرة للجدل حول زيف أو انتحال أغلب ما وصلنا من الشعر الجاهلي، وشهدت السنوات، 1910,1911,1912، زيادة ملحوظة في عمق العلاقات بين طه حسين والاستشراق الإيطالي عموماً، وكارلو ناللينو خصوصاً. ويمكن القول إن السنة الثالثة في حياة الجامعة المصرية الوليدة، تعد لحظة أساسية في تاريخ الفكر العربي الحديث، ونقطة تحول حاسمة وذات شأن في تاريخ الثقافة المصرية، فخلال الموسمين الدراسيين 1910، و1911، بدأ ناللينو في إلقاء دروسه (محاضراته) عن تاريخ الأدب العربي في سنة 1910، والسنة التي تليها، وكان تأثير هذه المحاضرات كبيراً وعميقاً في نفوس شباب المتعلمين المتحمسين، وعلى رأسهم طه حسين.

يقول طه حسين «كان ناللينو على دراية كاملة بالموضوع. عندئذ بدأت حقاً -وبصحبة ناللينو- دراسة الأدب العربي. إن ناللينو هو الذي علمنا ما هو تاريخ الأدب وكيف نقيم الأسلوب ونصنف المدرسة الأدبية أو المؤلف وما إلى ذلك. وكان ناللينو هو الذي علمنا كيف نشأ الأدب العربي، وكيف تطور وما هي العلاقات التي قامت منذ القرون الأولى بين الأدب والسياسة وبين الأدب والبيئة».

من هذه الدروس التي ألقاها ناللينو، تبدت للطلاب رؤية كاملة جديدة للحضارة العربية، وكانت تلك الرؤية كشفاً جديداً بالنسبة لهم. بعبارة أوضح وأكثر تفصيلاً، مثلت هذه المحاضرات نقطة تحوُّل بالغة الأهمية، لأنها كانت الأساس الذي تشرب منه الطلاب، في ذلك الوقت، مناهج البحث التاريخي، وكان ناللينو ذا طابع تاريخي، فقد أشاد بدراسة التاريخ، وأكد على أهميتها (أي دراسة التاريخ) للتقدم، ومما زاد من فاعلية أقواله في هذا الصدد أنها كَانَت تَمَسُّ الاهتماماتِ المباشرة لمستمعيه، وهم أصحاب الميول الأدبية، فقد كان مما ألقاه عليهم مثلاً في هذه المحاضرات: «إِن الاعتناء بآداب لغة ما وتاريخها أمر ضروري لنهضة الأمة المعنية وتقدُّمها ووحدتها، ورُبَّ أُمَّةٍ نزلت بِهَا الهزيمة في الحرب ولكنها سَلِمَت من الفناء لتمسُّكها بحفظ آداب لغتها والعناية بتخليد ذكر مآثر قدمائها العلمية والأدبية».

وقد لاحظ ناللينو أن الحضور مهتمٌّ ومنصت له وهو يؤكد هَذَا المنهج النقدي في دِرَاسَة التَّارِيخ، فمن الضروري -في ما قال- امتحان آراء السلف واختيار جميع ما يَسَعُنا من تجارِبهم ومعارفهم بِدِقَّة، فقد قدَّم ناللينو تصوُّراً مقابلاً لِمَا يجري في الأزهر عندما عرض عَلَى مستمعيه مفهوماً مختلفاً عَن عمليَّة البحث بوصفها سعياً لا ينتهى لفهم حقائق الأمور واستكشاف أسرار الكون.

ثم خطا ناللينو خطوة أُخرى جديدة تماماً عندما تناول التراث التاريخي في الثقافة العربية بالنقد، وأثار الكثير من علامات الاستفهام حول الشعر الجاهلي: أكَانَت لغة الشعر الجاهليّ لغة واحدة؟ وكيف تكوَّنت؟ وعلى أيّ نحوٍ وصلَتْنا؟ أيجوز لنا أن نثق بصحَّة روايتها؟ إِلخ. ثم زاد ناللينو في بحثه فتناول بحثُه النقدي الرواةَ. كانت هذه نقطة البدء التي أثارت فضول وحماسة الطالب طه حسين، استقبل طه حسين هذه الأسئلة كما تتلقى الأرض الجافة ماء الأمطار، فكرة طرح السؤال/‏‏ رغم بديهيتها وبساطتها، لكنها لم تكن كذلك لطه حسين، الذي أحس شعوراً جديداً وغريباً، وأبصر بعين ذهنه المتوقد شعاع النور الذي اخترق روحه ووجدانه، من هنا، كان لهذه (الدروس/‏‏ المحاضرات) تأثيرها الفائق والحاسم على تاريخ مصر الحديثة كلها، ذلك لأن «الفضل في تحقيق التقدم في كل هذه المجالات يرجع أساسا إلى تأثيره».

(4)

تخرج طه حسين في الجامعة المصرية عام 1914، وحصل على درجة الدكتوراه في شعر أبي العلاء المعري، تحت إشراف ناللينو، (الإشراف هنا بمعناه الأدبي التوجيهي، وليس بالمعني النظامي الرسمي، فلم يكن نظام الإشراف الجامعي على الماجستير والدكتوراه قد نشا بعد)، وقد عرض طه حسين في مقدمة رسالته هذه آراء جريئة عن الشعر العربي القديم، والتاريخ العربي القديم، بتأثير مباشر للدروس التي كان يلقيها ناللينو.

ومضت السنون وطبقت شهرة طه حسين الآفاق، وصار في طليعة المثقفين المصريين والعرب الذين يبنون الجسور بين الثقافتين العربية والغربية. توفي كارلو ناللينو في العام 1938، وجمع نص محاضراته التي ألقاها بالجامعة المصرية، في كتاب مطبوع بالعربية، اعتنت بنشره ابنة المستشرق الإيطالي «مريم ناللينو»، صدرت طبعته الأولى العام 1955 عن دار المعارف بعنوان «تاريخ الآداب العربية من الجاهلية حتى عصر بني أمية»، بتقديم تلميذه النجيب طه حسين. أصبحت تلك الدروس في مأمن من الاندثار بعدما نشرتها ابنة ناللينو «مريم أو ماريا» مع تعليقات وحواش إضافية وفهارس عدة، وكان تقديم طه حسين لهذا الكتاب في طبعته الصادرة عن دار المعارف أشبه ما يكون بشهادة/‏‏ وثيقة للتاريخ، سجل فيها طه حسين بعضاً من ذكرياته وامتنانه للأستاذ الكبير، وقدم بأسلوبه المعروف وتحليليته المدهشة قراءة للكتاب (في الأصل محاضرات ألقيت على الطلبة في الجامعة) يذكر فيها تأسيسيته المنهجية وما فتحه من آفاق في درس الأدب العربي، وتاريخه، وأعلامه، وقضاياه ليكون بذلك هو الكتاب الرائد الذي يستهل طريقاً جديداً في حياتنا الثقافية والأدبية.

ورغم أن ناللينو إيطالي المنشأ واللغة والثقافة، إلا أنه تعمق في دراسة العربية ببراعة منقطعة النظير، وتغلب على كل الصعوبات التي واجهته، وصارت لغته العربية سالمة من كل شائبة لفظاً ومبنى. ويوضح طه حسين أن ناللينو -أثناء محاضراته عن تاريخ الأدب العربي- بدلا من أن يجري على المألوف فيدرس الأدباء تبعاً لترتيب الحروف الأولى من أسمائهم كما جرت عادة الأزهريين والقدماء، نسّق تاريخهم وقسمه لما طرأ على علم الأدب من تطورات جوهرية في عصوره الجاهلي والمخضرم والأموي والعباسي، ودرس كلا من هذه الحقب مبيناً الخاصية الأدبية والفنية التي تميزت بها عن سابقتها ولاحقتها، متقصياً في كل حقبة النتاج الفكري الذي تفردت به نظماً ونثراً، مما أنزله (أي ناللينو) في الأوساط الأدبية منزلة لا ينازعه فيها منازع وجعله ذا أثر بين في التقدم العجيب الذي أحرزته اللغة العربية في الربع الأول من هذا القرن. ويكفي للتدليل على الأثر المذهل الذي تركه ناللينو في الحياة الثقافية المصرية أن كان بين تلامذته المعدودين الدكتور طه حسين، زعيم المدرسة المصرية الحديثة في التاريخ والآداب والثقافة العربية، وهو ما كان طه حسين يذكره دائماً ويعترف به ويقول في كل مناسبة وفرصة إنه مدين لأستاذه نالينو بثقافته الأدبية ونضجه الفكري.

مقدمة طه حسين لكتاب المستشرق الإيطالي كارلو ناللينو

مقدمة الدكتور طه حسين التي كتبها للطبعة الأولى من كتاب «تاريخ الآداب العربية من الجاهلية حتى عصر بني أمية» لأستاذه المستشرق الإيطالي كارلو ناللينو.. وهي نص المحاضرات التي ألقاها في الجامعة المصرية في الموسمين الدراسيين (1910/‏‏ 1911)، و(1911/‏‏ 1912)..

صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب العام 1955، وكانت الأستاذة «ماريا/‏‏ مريم» ابنة كارلو ناللينو قد قامت بجمع تراث والدها ونشره في عدة مجلدات حول ذلك التاريخ، وذكرت في تصديرها للكتاب تحت عنوان «تنبيه» أن: «لا يكون هذا الكتاب إلا نص الدروس التي ألقاها المرحوم الأستاذ كارلو ناللينو (المتوفى سنة 1938) في الجامعة المصرية سنة 1910-1911 دراسية، فقد كان المرحوم ناللينو ألف نص الدروس باللغة العربية، ولكنه كتب الحواشي بالإيطالية بتشديد الإيجاز والاختصار، فاعتنيتُ بنقل الحواشي إلى اللغة العربية وأضفتُ إليها ما عثرت عليه من الأخبار المفيدة الموجودة في بعض الكتب التي طُبعت بعد إلقاء هذه الدروس، وإنما وضعت هذه الإضافات بين نصفي مستطيل [ ]».

ثم وجهت «ماريا/‏‏ مريم ناللينو» الشكر الجزيل إلى الدكتور طه حسين على عنايته واهتمامه بتكريم وإحياء ذكر الأستاذ ناللينو والعمل على نشر هذا الكتاب الذي لم ينشر من قبل، تقول «ماريا/‏‏ مريم ناللينو»: «ومن الواجبات عليّ أن أشكر الدكتور طه حسين شكراً جزيلاً لإرادته أن يؤسس ذكرى للمحبة الخالصة بينه وبين الراحل ناللينو بنشر هذا النص غير المطبوع حتى الآن».

جاءت مقدمة طه حسين في ثلاث عشرة صفحة (الصفحات 5 – 12)، من طبعة دار المعارف، وتكاد تكون هذه المقدمة من النصوص النادرة لطه حسين، ولم يعد نشرها منذ ظهورها الأول العام 1955 وحتى الآن.. وفيها يستعيد طه حسين أطرافاً من ذكرياته أيام الطلب الأولى، لكن الاستدعاء هنا ليس مطلق السراح ولا على عواهنه، فقد أراد أن يجلي صفحة من تاريخه الذاتي امتزج واختلط بلحظة مفصلية من تاريخ الثقافة المصرية. لقد أراد طه حسين أن يصور عبر هذه المقدمة كيف كانت طرائق التعليم والتلقي قبل ظهور الجامعة المصرية، وما أحدثه ظهورها من انقلاب هائل وتطور مذهل في طرائق التعليم ومناهج البحث، وأراد ثانياً أن ينوه ويشيد ويذكر دور هؤلاء الأساتذة من الأجانب الذين استقدمتهم الجامعة المصرية الوليدة للتدريس بها، وعلى رأسهم أستاذه الكبير «كارلو ناللينو»، وأن يكتب على رؤوس الأشهاد ما أسداه هذا الأستاذ من فضل ومعرفة ليس فقط إلى الأدب العربي وتاريخه وليس فقط إلى الجامعة والثقافة المصرية الحديثة، بل في مجمل حركة الفكر العربي الحديث؛ ذلك لأنه كان الأستاذ الأول الذي قدم طرائق البحث الحديثة والمناهج العلمية بمعناها الاصطلاحي في درس الأدب العربي والثقافة العربية بصفة عامة..

وأخيراً فقد أراد طه حسين من هذه المقدمة المرجعية الممتازة أن يرسي تقليداً إنسانياً وجامعياً وعلمياً أصيلاً في المجتمعات المتقدمة، وهو الإقرار بالوفاء والعرفان للأساتذة المتقدمين، أولاً بإحياء ذكرهم وذكراهم، وثانياً بإخراج وإظهار ما لم يخرج إلى النور من أعمالهم المهمة، وثالثاً تقديم الطلاب النجباء لأعمال أساتذتهم الكبار تقديماً يليق بقيمة الأستاذ ومكانة الطالب ومن ثم تتجاوز قيمتها وأهميتها لحظة التاريخية وتكتسب أبعاداً أخرى، لا تتصل بسياقها الزمني وحده بل بالأفكار المضمنة فيها والأسلوب الذي كتبت به والإشارات التي تعرضت إليها.

تقديم الدكتور طه حسين..

(هذا كتابٌ في تاريخ الأدب العربي، قرأته كما تعودت أن أقرأ أمثاله من الكتب التي تعرض للأدب العربي وغيره من الآداب الأخرى. ولكني لم أقرأه بعقلي وحده، كما تعودت أن أقرأ كتب التاريخ الأدبي، وإنما قرأته بعقلي وقلبي وشعوري، وبهذه العواطف الكثيرة المختلفة التي تثور في نفس الشيوخ حين يستحضرون أطرافاً من حياتهم في عصر من عصور شبابهم الأول.

عواطف هذا الحنين إلى شيء لا سبيل إليه، أو إلى أشياء لا سبيل إليها. وعواطف هذا الحب لما لا سبيل إلى بلوغه، ولا مطمع في تحقيقه. وعواطف هذا الحزن على هذا الحرمان الذي لا سبيل إلى استدراكه، ولا إلى اتقاء ما يثيره في النفس من المضض واللوعة والأسى.

ثم عواطف الأنس بتلك الآمال العذاب التي طالما تعلقت بها النفس واثقة مطمئنة، والتي صدقت ولم تكذب، وتحققت ولم تخب، فملأت القلب غبطة وبهجة وسروراً، وأعانت على العمل والجد والكد والنشاط، وأتاحت لكثير من المنى أن تتحقق ثم انقضت وانقضت أيامها، فأصبحت وكأنها حلم رائع رائق مضى مع تلك الليلة الجميلة التي أثارته وأثارت الرضى به، ثم مضت إلى غير رجعة ومضى معها حلمها ذلك السعيد.

نعم هذا كتابٌ يتجه إلى العقل؛ لأنه يؤرخ عصراً من عصور الشعر العربي القديم. ولكنه بالقياس إليّ وإلى نفر من رفاقي في ذلك الجيل الذي مضى، يتجه إلى القلب أيضاً لأنه قطعة من شبابنا، ولأنه يصور لنا لوناً من ألوان تلك الحياة التي كنا نحياها في أول هذا القرن، والتي لا يحياها الشباب الآن بعد أن تغيرت الحياة المصرية، وذهبت معالم تلك الحياة القريبة البعيدة، وأصبحنا لا نستحضرها إلا بالذكرى حينما تتيح لنا الحياة الحاضرة وأعمالها وأثقالها أن نخلو إلى نفوسنا ونفرغ لذكرياتنا. وما أقل ما تتاح لنا الخلوة إلى النفوس وما أندر ما يتاح لنا هذا الفراغ إلى الذكريات.

هذا كتاب في تاريخ الأدب العربي، سمعناه في أول شبابنا في تلك الجامعة المصرية القديمة من أستاذنا الإيطالي العظيم «كارلو ناللينو» منذ أربعة وأربعين عاماً (1911-1955). في ذلك الوقت، كنتُ طالباً في الأزهر أقيم في ذلك الحي الذي وصفتُه في كتاب (الأيام)، والذي زرته منذُ حين لأحدث به عهداً، ولأظهر عليه صديقاً لي من أساتذة مدريد ترجم كتاب (الأيام)، وشاقه هذا الحي فأراد أن يراه.

كنت أعيش في ذلك الحي، أخرج منه مصبحاً إلى الأزهر فأسمع فيه دروس الأدب من الأستاذ العظيم السيد علي المرصفي، وأخرج منه مع المساء إلى الجامعة المصرية فأسمع فيها دروس الأدب من الأستاذ العظيم «كارلو ناللينو». وكانت دروس الأدب تلك التي كنت أسمعها في الأزهر حين يرتفع الضحى تردني إلى حياة الطلاب القدماء الذين كانوا يختلفون إلى العلماء في مساجد البصرة والكوفة وبغداد. وكانت دروس الأدب التي أسمعها في الجامعة حين يقبل المساء تدفعني إلى حياة الطلاب الذين يختلفون إلى الجامعات في روما وباريس وغيرهما من المدن الجامعية الأوروبية الكبرى. فكنت أعيش مع الماضي البعيد وجه النهار، وأعيش مع الحاضر الأوروبي الحديث آخر النهار، وتشغلني خطوب الحياة المصرية الراكدة الممضة بين ذينك الوقتين. وكان الرفاق يجدون من هذه الحياة مثل ما كنت أجد، يسعدون حين يعودون إلى الماضي، ويسعدون حين يدفعون إلى الحياة الغربية التي كانوا يتطلعون إليها، ويشقون بين ذلك بالركود والجمود.

ويجب أن يتصور القراء من الشباب المعاصرين حياة أولئك الشيوخ الشباب من طلاب الأزهر في أول القرن، حياتهم المادية وحياتهم العقلية أيضاً. وأن يقدروا ما كان يملأ قلوب بعضهم من الرضى والغبطة، وهذا الغرور الحلو البريء الذي كان يمازج نفوسهم تلك الغضة المتواضعة حين كانوا يدفعون من حي الأزهر إلى حي قصر النيل، وحين كانوا يتحلقون مصبحين حول أعمدة الأزهر متربعين على الحصر البالية، ثم يجلسون إذا جاء المساء إلى أساتذتهم في غرفات الجامعة لا يتربعون على الحصر، وإنما يجلسون على الكراسي إلى تلك الموائد الصغار. وحين كانوا يسمعون من شيوخهم وجه النهار أحاديث الفقه والنحو كما كانت تلقى في تلك الأوقات، وبأيديهم ملازمهم تلك العتيقة، يتبعون فيها ما يقرأ الشيوخ عليهم من الكتب، ويسمعون لما يلقي عليهم الشيوخ من التأويل والتعليل والتحليل، فيفهمون قليلاً ويعجزون عن فهم كثير مما كانوا يسمعون.

فإذا كان المساء جلسوا إلى أساتذتهم أولئك من الأوربيين، فسمعوا منهم أحاديث لا عهد لهم بمثلها تلقى عليهم باللغة العربية الفصحى مع شيء من التواء الألسنة بهذه اللغة، فتقع تلك الأحاديث من آذانهم موقع الغرابة، ومن قلوبهم مواقع الماء من ذي الغلة الصادي، فإذا خلوا إلى أنفسهم بعد ذلك وازنوا بين ما يسمعون وما يرون أول النهار، وما يسمعون وما يرون آخر النهار.

فأثارت هذه الموازنة في نفوسهم عواطف وأهواء وميولاً أقل ما توصف به أنها كانت تصور لهم هذه الآماد البعيدة إلى أقصى غايات البعد، بين قديم سقيم سئموه وضاقوا به، وبين جديد أحبوه وتهالكوا عليه.

ووازنوا كذلك بين شيوخهم أولئك الذين كانوا لا يعربون إلا حين يقرؤون في الكتب، فإذا تكلموا غرقوا وأغرقوا طلابهم في اللغة العامية إلى أذقانهم أو إلى آذانهم، وبين أساتذتهم أولئك الأوروبيين الذين كانوا يعربون حين يقرؤون وحين يفسرون وحين يخوضون معهم فيما شاء الله من ألوان الحديث. وكانوا يسألون أنفسهم كيف أتيح لهؤلاء الأوروبيين ما أتيح لهم من العلم بأسرار اللغة العربية ودقائق آدابها، وكيف لم يتح هذا النوع من العلم لشيوخهم أولئك الأجلاء.

وكانت هذه الموازنات تثير في قلوبهم فنوناً من التمرد وتدفع نفوسهم إلى ضروب من الثورة والجموح، وكان هذا كله يعرضهم لكثير من الشر. وحسبك أنهم كانوا مقسمين بين الأزهر القديم والجامعة الجديدة.

وكان هذا يجعل حياتهم قلقاً كلها. وأي شيء أجدى على النفوس الشابة من هذا القلق الخصب الذي هو الأساس المتين لكل تطور منتج في الحياة العقلية والمادية جميعاً. وما أظن حياة الشباب «المطربشين» الذين كانوا يختلفون إلى الجامعة إلا مشبهة من كثير من الوجوه لحياة زملائهم المعممين. من أجل هذا كله يستطيع القارئ المعاصر أن يقدر ما كان للجامعة المصرية القديمة من أثر بعيد فيما طرأ من تغير خصب على حياة ذلك الجيل من أجيال الشباب.

أما أنا فقد سجلت غير مرة، وأسجل الآن، أني مدين بحياتي العقلية لهذين الأستاذين العظيمين: سيد علي المرصفي، الذي كنت أسمع دروسه وجه النهار، و«كارلو ناللينو» الذي كنت أسمع دروسه آخر النهار. أحدهما علمني كيف أقرأ النص العربي القديم، كيف أفهمه، وكيف أتمثله في نفسي، وكيف أحاول محاكاته.

وعلمني الآخر كيف أستنبط الحقائق من هذا النص، وكيف ألائم بينها، وكيف أصوغها آخر الأمر علماً يقرؤه الناس فيفهمونه ويجدون فيه شيئاً ذا بال. وكل ما أتيح لي بعد هذين الأستاذين العظيمين من الدرس والتحصيل في مصر وفي خارج مصر فهو قد أقيم على هذا الأساس الذي تلقيته منهما في ذلك الطور الأول من أطوار الشباب. بفضلهما لم أحس الغربة حين أمعنت في قراءة كتب الأدب العربي القديم، وحين اختلفت إلى الأساتذة الأوروبيين في جامعة باريس، وحين أمعنت في قراءة كتب الأدب الحديث.

فلا غرابة إذن في أن تكون حياتي كلها براً بهذين الأستاذين وإكباراً لهما واعترافاً بفضلهما وشكراً لما أهديا إليّ من معروف وما أسديا إليّ من جميل.

وشهد الله، ما قرأتُ في كتاب قديم ولا حديث ولا حاولتُ كتابة في الأدب إلا ذكرتُ أحدهما أو كليهما وأرسلتُ إليهما من أعماق نفسي تحية الحب والإعجاب والشكر والوفاء.

أما أنا فلم أُملِ هذه الصفحات إلا لأسجل برّي بأستاذي العظيم، وشكري لابنته الكريمة ولدار المعارف على ما أتاحتا لي من أن أرى لوناً من ألوان حياتي في طور من أطوار الشباب.

طه حسين

1955

نهضة الأمم وفناؤها

«إِن الاعتناء بآداب لغة ما وتاريخها أمر ضروري لنهضة الأمة المعنية وتقدُّمها ووحدتها، ورُبَّ أُمَّةٍ نزلت بِهَا الهزيمة فِي الحرب ولكنها سَلِمَت من الفناء لتمسُّكها بحفظ آداب لغتها والعناية بتخليد ذكر مآثر قدمائها العلمية والأدبية».

كارلو ناللينو

_________

*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *