ألبرتو مانغويل.. «لنبتكر العالم يا أخي»

*رامي طويل

«دعني أقل إنّ مزاعم ببيلاكوا بأنّه ليس كاتباً لا تخلو من الحقيقة. كان يفتقر إلى الشرارة الخلّاقة الضرورية للرواية، أي ذاك التغاضي عمّا هو موجود، وذاك الاغتباط بما يمكن أن يكون. لم يكن يتخيّل. كان يرى ويوثّق الأشياء، وشتّان ما بين كليهما». بهذه الطريقة يصف ألبرتو مانغويل (كواحد من شخوص الرواية) بطل روايته «كل الناس كاذبون»، وبهذه الطريقة يعود الروائي الأرجنتيني ـ الكندي للتأكيد على أنّ الرواية فنّ بحث واستنباط للممكنات اللامرئية من الحياة الواقعية، وليست تسجيلاً للواقع كما هو.

يؤكّد مانغويل، في هذا العمل، على أنّه قارئ إلى جانب كونه كاتباً وروائياً، فمؤلف «تاريخ القراءة» يعود مجدداً لكتابة روايته بمزاج قارئ، لنراه يخلق عديد أصوات تروي حكاية أليخاندرو ببيلاكوا، الأرجنتيني المهاجر إلى مدريد هرباً من قمع الديكتاتورية، من دون السماح لروايته أن تقع في فخ الرواية السياسية، برغم إضاءتها على تفاصيل الحياة البائسة التي عرفها الأرجنتينيون إبّان وصول الديكتاتور فيديلا إلى الحكم في 1976. وهي ليست رواية سجون أيضاً برغم ما يسرده رواتها عن الفترة التي أمضاها ببيلاكوا في السجن، والتعذيب الذي تعرّض له. كما لا يمكن اعتبارها رواية عن اللاجئين، الذين كان ببيلاكوا وحداً من عشرات الآلاف منهم، اجتمع عدد لا بأس به منهم في العاصمة الإسبانية مدريد. ورغم توفّر حبكة بوليسية منسوجة بحرفة عالية، ومكتملة العناصر، من حادثة موت غامضة، إلى الشهود الذين يتوزّع عليهم السرد، إلى الصحافي الفرنسي جان لوك تراديوس، الذي يعمل على جمع الشهادات لكتابة سيرة وصفية لببيلاكوا «العاشق، البطل، الصديق، الضحية، الخائن، المؤلّف المنتحِل، المنتحر عرضاً…»، إلا أن «كلّ الناس كاذبون» ليست رواية بوليسية أيضاً. إنّها وباختصار، وكما أراد لها مؤلّف «عودة»، رواية حياة، تستحضر الممكنات اللامرئية في الواقع من وجهات نظر متعددة لأشخاص اختلفت رؤاهم وطرائقهم بتفسير ما يرونه، وراح كلّ منهم يروي الوقائع كحقيقة مدمغة تناقض تماماً ما يرويه الآخرون.

عاشق التفاصيل
الكاتب مانغويل، أندريا الحبيبة السابقة لببيلاكوا، مارثيلينو أوليبارس رفيق سجنه، وغريمه اللدود تيتيتو. أربعة أشخاص عرفوا ببيلاكوا عن قرب خلال مراحل حياته، اختار مؤلّف «عاشق مولع بالتفاصيل» أن يجعلهم ساردين للحكاية عبر خطابات يوجّهونها إلى تراديوس، المدفوع بحسّه الصحافي، بحثاً عن الحكاية الحقيقية لشخص يكاد يكون مجهولاً، استطاع اسمه أن يحتلّ غلاف كتاب (كمؤلّف) وجد حيزاً له في رفوف المكتبات. وفي حين يدّعي مانغويل (كواحد من الشهود) أنّه ليس الشخص المناسب للحديث عن ببيلاكوا، صاحب الحياة الضحلة التي لا ترقى لأن تكون أكثر من شذرات واقتباسات وأقاصيص غير مكتملة، نجده قد استحوذ على الجزء الأكبر من الرواية لسرد قصّته. بينما تصرّح أندريا عن قناعتها الراسخة بأنّ «ثمّة شاعر وروائي حقيقي تخفّى بإهاب رجل يظنّ الجميع أنهم يعرفونه»، وتتواصل تلك التناقضات مع كلّ الذين عرفوا ببيلاكوا، ليتمكّن مؤلّف «مدينة الكلمات» من تحويل حياة ببيلاكوا إلى ما يشبه لوحة متقنة الصنع، تذكّرنا ببعض أعمال سلفادور دالي التي كان يعتمد فيها كمّاً من التفاصيل تجعل الناظر إليها، بحسب الزاوية التي ينظر منها، يرى في كلّ مرّة مشهداً مختلفاً كليّاً عمّا يراه من زوايا أخرى، من دون أن يتمكّن من تحديد أيّ المشاهد التي يراها هي حقيقة اللوحة، التي تفصح عن شيء مختلف كلياً حين النظر إليها كوحدة متكاملة. ربّما يكون ما قاله إل شانشو لببيلاكوا أثناء وجودهما في السجن: «فلنبتكر العالم يا أخي، فهذا العالم لا وجود له في الواقع، أو لا ينبغي أن يكون موجوداً مهما تكن الظروف»، هو المفتاح لقراءة «كل الناس كاذبون» التي عمد مانغويل فيها إلى مقارعة لا واقعية العالم عبر رواية القصّة.

بين خيانتين
سبق أن قرأنا «كل الناس كاذبون» منقولة عن الفرنسية إلى العربية تحت عنوان «كلّ البشر كاذبون» (دار طوى – ترجمة منذر عياشي) وكنا أمام عمل أدبي يضجّ بركاكة تحول دون إمكانية التواصل معه، ما يعيدنا إلى فكرة وصف فعل الترجمة بالخيانة. لا شك في أنّ المترجم هو الجسر الضروري لعبور النص من مكان إلى آخر، ولكن ذلك لن يتمّ ما لم يولي المترجم عمله الجهد الكافي، والتعامل معه بأمانة وحياد بعيداً عن معتقداته الشخصية. على سبيل المثال، يُنهي مانغويل شهادته حول ببيلاكوا في ترجمة حاجي بعبارة «وأقول لنفسي: تخيّل. في يوم من الأيام كنتَ تعرف أليخاندرو ببيلاكوا»، لتتحول العبارة عند عياشي: «وقلت لنفسي حينئذ: الحمدلله لقد عرفت أليخاندرو بيفلاكا». الأمثلة متوفرة في كلّ سطر، إلى أن تبلغ حدود الخيانة الصارخة في الصفحة 164 من ترجمة عياشي: «كان يقول إن الإله الذي يلزمنا أن نمدحه بلا توقف هو إله محتقر (بالطبع، فإن المترجم يستنكر هذا بشدّة، وناقل الكفر ليس بكافر)» لم توضع العبارة بين قوسين في هامش لا داعي له أصلاً، بل وضعت في متن النص، ما يعني إقحام المترجم نفسه في عمل لا شأن له فيه، في استغلال سافر للنصّ الأصلي. هنا بالضبط مكمن الخيانة، وهو ما يُحسب للمترجم جولان حاجي في «كلّ الناس كاذبون» حين استطاع أن ينقل إلى العربية نصّاً مسبوكاً بعناية لغوية فائقة، وأميناً على النصّ الأصليّ، ليكون بذلك بمثابة الخائن الأمين.

صادرة عن «دار الساقي»، نقلها إلى العربية جولان حاجي
____
*السفير الثقافي

شاهد أيضاً

“تفسير الأحلام” بداية التحليل النفسي عند فرويد للكشف عن الرغبات المكبوتة

(ثقافات) “تفسير الأحلام” بداية التحليل النفسي عند فرويد للكشف عن الرغبات المكبوتة  مدني قصري في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *