ستيفن هوكنغ.. موجز تأريخ حياتي .. سيرة ذاتية(4)

*ترجمة وتقديم لطفية الدليمي

أواصل في هذا القسم – وأقسام أخرى ستأتي تباعاً – نشر أجزاء من الفصول الأولية للسيرة الذاتية الموجزة التي كتبها الفيزيائي النظري وعالم الكونيات الأشهر ( ستيفن هوكنغ ) ونشرتها دار نشر بانتام Bantam عام 2013 بعنوان ( موجز تأريخ حياتي My Brief History) .
المترجمة
_____

أكسفورد
كان أبي متحمساً لفكرة ضرورة التحاقي بجامعة أكسفورد ؛ فقد تخرّج هو ذاته من الكلية الجامعة University College في أكسفورد وكان من الطبيعي أن يعتقد بأن تسجيلي للدراسة في تلك الجامعة سيعزّز فرصة قبولي في أكسفورد . في تلك الأيام لم يكن في الكلية الجامعة أستاذ بمرتبة زميل متخصص في الرياضيات وهو مادفع أبي – بين أسباب أخرى كثيرة – لأن يقترح عليّ دراسة الكيمياء ، ولكني من جانبي رأيت أفضلية في الحصول على منحة دراسية في العلوم الطبيعية بدلاً عن الرياضيات .

ذهبت عائلتي كلها في ذلك الوقت إلى الهند وظلت لما يقارب السنة الكاملة ، أما أنا فتوجّب عليّ البقاء في بريطانيا لأداء امتحانات المستوى A إلى جانب امتحانات القبول في الجامعة . كان عليّ في تلك الأوقات أن أقيم مع عائلة الدكتور جون همفري – وهو زميل أبي في العمل بالمعهد الوطني البحوث الطبية – بمنزلهم في مِل هِل الذي احتوى سرداباً ضمّ أنواعاً عدة من المحركات البخارية ونماذج ميكانيكية كثيرة صنعها والد جون همفري ؛ لذا كنت أقضي معظم أوقاتي في ذلك السرداب ، وعندما حلت العطلة الصيفية ذلك العام  مضيت على الفور للإلتحاق ببقية أفراد عائلتي في الهند : كانت العائلة تقيم في منزل مستأجر يعود إلى رئيس وزراء سابق لمقاطعة أوتار براديش الهندية ، وكان الرجل قد خُلِع عن منصبه وعومل باحتقار بسبب اتهامه بالفساد . رفض أبي تناول أي نوع من الطعام الهندي طيلة إقامة العائلة في الهند ؛ لذا استأجر طباخاً وعتّالاً سابقاً في الجيش البريطاني العامل في الهند لغرض طبخ صنوف الطعام البريطانية المعروفة وإعداد المائدة على الطريقة البريطانية المعهودة ، أما من جانبي فقد أردت شيئاً أكثر إثارة من أمور الطبخ والطعام !!

518366-1

ذهبنا مرة إلى منطقة كشمير واستأجرنا منزلاً بهيئة قارب يطفو على بحيرة في سريناغار ، وحصل أن ذهابنا تصادف مع رياح موسمية عاتية مصحوبة بأمطار غزيرة بحيث أن بعض أجزاء الطريق الجبلي الذي شقه الجيش الهندي كانت غارقة بمياه الامطار ( لم يكن باستطاعتنا سلوك الطريق العادي لأن بعض أجزائه كانت تقود إلى خط وقف إطلاق النار مع باكستان ) ، ولم تستطع سيارتنا العتيقة التي جلبناها من بريطانيا أن تحتمل المسير في طريق تغمره المياه لاكثر من ثلاث بوصات ؛ لذا لم يكن أمامنا مفرّ من طلب المساعدة من سائق شاحنة سيخي تكرّم بسحب سيارتنا بواسطة شاحنته .

كان ناظر مدرستي يرى أنني أصغر كثيراً من أن أسجّل للدراسة في أكسفورد ، غير أنني لم آبه بذلك ومضيت بالفعل في آذار 1959 للتسجيل على امتحانات طلب المنحة الدراسية في أكسفورد برفقة صبيين يسبقانني بسنة دراسية في المدرسة . كنت مقتنعاً تماماً أنّ أدائي في امتحانات القبول لمنحة أكسفورد كان سيئاً بحيث ملأتني مشاعر الكآبة والقنوط ، وتعززت قناعتي هذه خلال الجزء العملي من الإمتحان عندما راح محاضرو الجامعة يتبادلون الأحاديث مع جميع الطلبة الحاضرين في الإمتحان باستثنائي أنا !! ، ولكن بعد عدة أيام أعقبت عودتي من أكسفورد تسلّمت برقية من الجامعة تفيد بأنني حصلت على منحة دراسية لديهم .

14671325_1413716481990514_1341716739748540187_n-1
كنت آنذاك في السابعة عشرة في الوقت الذي كان فيه معظم رفاقي في السنة الأولى بجامعة أكسفورد قد انهوا خدمتهم العسكرية الإلزامية ويفوقونني عمراً بسنوات عدة ؛ لذا كنت أشعر بالوحدة طيلة السنة الأولى ومعظم السنة الثانية في الجامعة ، غير انني ولأجل الحصول على أصدقاء أكثر عزمت في السنة الثالثة على الإنضمام إلى جمعية القوارب بصفة قائد لفريق القارب – تلك المهمة التي أبليت فيها بلاء كارثياً !! ، وبرغم إخفاقي الصارخ في عملي كقائد قارب غير أني نجحت بالفعل في التعرّف على أصدقاء كثيرين ، ومع نهاية السنة الثالثة في الجامعة كنت أسعد حالاُ بكثير عمّا كنت عليه في بداية إلتحاقي بالجامعة .

كان الاتجاه السائد في أكسفورد تلك الأيام لايشجع على العمل الجاد كثيراً : كان مفترضاً فيك من البداية أن تكون طالباً لامعاً من غير جهد يذكر أو أن تتقبل محدودية قدراتك وترضى بشهادة السنة الرابعة  ، أما أن تعمل بجد بقصد الإرتقاء بقدراتك والحصول على شهادة أعلى فكان مدعاة لأن توصم بصفة ( الرجل الرماديّ ) – الكنية الأكثر سوء بين الكنى في قاموس طلبة أكسفورد !!

كانت الكليات تلك الأيام تعتبر نفسها قيّمة على الطلبة وفي مقام  والديهم  loco parentis ؛ الأمر الذي عنى أنها كانت مسؤولة عن أخلاقيات الطلبة وهو السبب الذي جعل الصفوف الدراسية في الكليات تفصل بين الذكور والإناث كما كانت أبواب الكليات تقفل عند منتصف الليل وهو ماترتّب عليه عدم إمكانية استقبال أي زائر وبخاصة إذا ماكان من جنس مخالف لطلبة الكلية ، أما إذا أراد أحد ما من داخل الكلية مغادرتها في ذلك الوقت فكان يتوجّب عليه تسلّق جدار عالٍ مثبّتة في أعلاه مسامير حادة ، لكن كليتي – على أي حال – لم ترغب في رؤية أحد طلابها وقد جرِح بفعل المسامير ؛ لذا تُرِكت  مسافات كافية تكفي لعبور شخص منها بسهولة ومغادرته خارج الكلية ، لكن الامر سيختلف حتماً لو وُجِدتَ متلبساً في الفراش مع شخص من الجنس الآخر ؛ إذ حينها ستُطرَدُ على الفور من الكلية ومن غير نقاش مطوّل أو إجراءات معقدة ، لكنّ انخفاض سن القبول في الكلية إلى الثامنة عشرة لمعظم الطلاب إلى جانب الثورة الجنسية التي اشتعل أوارها في الستينات ( من القرن العشرين ) – كل هذه عوامل جعلت الأمور تختلف عن سابق عهدها ، ولكن هذا حصل بعد سنوات كثيرة من أول التحاقي بجامعة أكسفورد .

أذكر في سنوات دراستي بأكسفورد أن البرنامج الدراسي في الفيزياء – بخاصة – قد وُضِع بحيث يمكن معه بسهولة تفادي العمل الشاق ، وكل ماأذكره عن درس الفيزياء هو أنني أدّيتُ إمتحاناً فيه ضمن إمتحانات القبول في الجامعة ، ثم أدّيتُ ثلاثة إمتحانات في ختام كل سنة دراسية من السنوات الثلاث التي قضيتها في أكسفورد ، وقد حسبتُ مرّة أنني درست لمايقارب الألف ساعة دراسية في الفيزياء خلال السنوات الدراسية الثلاث بكاملها أي بمعدل ساعة واحدة في اليوم فحسب !! ، ولست أقول هذا بقصد التفاخر بأنني لم ادرس بما يكفي ولكني كنت أتشارك قناعتي مع الكثيرين من الطلاب غيري بعدما تملّكَنا الشعور بالضجر الكامل وبأن لاشيء يستحق عبء خسارة أي جهد فيه ، لكن إحدى النتائج التي ترتّبت على مرضي لاحقاً كانت كفيلة بتغيير شعوري هذا رأساً على عقب : عندما تُواجَهُ بإحتمالية الموت مبكراً فإن هذا الأمر يجعلك تدرك أن الحياة تستحق العيش وأنّ فيها الكثير من الأشياء التي تريد إنجازها .

14718717_1413716601990502_2657289331427174185_n-1
بسبب عدم تحضيري الجيد للإمتحانات النهائية فقد خطّطتُ للتركيز على الأسئلة الخاصة بالفيزياء النظرية وتجنب الأسئلة التي تتمحور على معرفة حقائق الواقع اليومي ، ولم أنم ليلة الإمتحان بسبب القلق العصبي والشدّ الذي يصحبه ؛ لذا كان متوقعاً أن لاأؤدي أداء ممتازاً في الإمتحان ، وبالفعل فقد حصلت على نتيجة تقع  على الحافة الفاصلة بين شهادة المرتبة الأولى وشهادة المرتبة الثانية ، واستلزم الأمر أن أخضع لمقابلة مع لجنة خاصة بقصد أن تحدّد أية شهادة ينبغي منحها لي . سألني أعضاء لجنة المقابلة بشأن خططي المستقبلية فأجبتهم أنني أعتزم إختيار حقل البحوث الفيزيائية وانني إذا ماحصلت على شهادة المرتبة الأولى فسأكمل دراستي في جامعة كامبردج ، أما إذا منِحتً شهادة المرتبة الثانية فسأظل في أكسفورد . في نهاية المقابلة إتفق الأعضاء جميعاً على منحي شهادة المرتبة الأولى .

سجّلت اسمي عقب تخرجي من الجامعة في سلك طالبي الوظيفة في حقل الخدمة المدنية كخطة بديلة فيما لو حصل ولم أكمل بحوثي في كامبردج ، وبسبب مشاعري تجاه الأسلحة النووية لم أسجل في حقل الوظائف الخاصة بالدفاع بل فضّلت أن أختار قطاع الوظائف المتاحة في وزارة الأشغال ( كانت تسمى وزارة المباني الحكومية آنذاك ) أو وظيفة ككاتب في مجلس العموم ، وحصل أثناء مقابلات التوظيف أنني لم أكن أعرف مثلاً ماالذي يعنيه مجلس العموم وماالمهمات المنوطة به !! لكني في كل الأحوال نجحت في كل مقابلات التوظيف ولم يبقَ أمامي سوى أداء إمتحان تحريري ، ولكن لسوء الحظ نسيت موعد الإمتحان وفاتني أداؤه ، وتلقّيتُ حينها رسالة لطيفة من مجلس إختيار موظفي الخدمة المدنية أخبرني فيها أن بمقدوري أداء الإمتحان ذاته السنة القادمة وأن عدم أدائي للإمتحان هذه السنة لن يعتَبر مثلبة يمكن أن تؤثر بطريقة سيئة في مستقبلي الوظيفي . كان من حسن طالعي أنني لم أتوظف في سلك الخدمة المدنية ؛ إذ أن إعاقتي اللاحقة كانت ستمنعني حتماً من أداء وظيفتي على الوجه الأكمل .
في العطلة الطويلة التي أعقبت الإمتحان النهائي عرضت الكلية عدداً من المنح الصغيرة للسفر خارج بريطانيا ، وشعرت حينها أن فرصة حصولي على واحدة من تلك المنح ستتعزز كثيراً متى ماعزمت على السفر وكتبت بشأن خطتي للسفر ، وقد أبديت في رغبتي المكتوبة عزمي على السفر إلى إيران ، وقد حصلت على منحة السفر وانطلقت إلى إيران صحبة احد أصدقائي في الكلية ( جون إيلدر ) الذي سبق له السفر إلى إيران ويجيد التحدث بلغتها الفارسية . سافرنا بالقطار إلى اسطنبول ومنها إلى أرضروم شرقي تركيا قريباً من جبل آرارات ، وهناك كان القطار يذهب بإتجاه منطقة سوفييتية ؛ لذا كان علينا ترك القطار ومواصلة رحلتنا في شاحنة  عربية تغص بالدجاج والخراف نحو تبريز ومنها إلى طهران .
في طهران انتهت رفقتي مع جون ومضى كل منا في سبيل مختلف ، وقد اخترت أن امضي برفقة صديق دراسة آخر نحو الجنوب باتجاه أصفهان وشيراز وبيرسيبوليس* التي كانت عاصمة ملوك الفرس القدماء قبل أن تجتاحها جيوش الإسكندر الأكبر وتنهب موجوداتها الثمينة . عبرت لاحقاً الصحراء الوسطى في إيران قاصداً مدينة مشهد .

في طريق عودتنا إلى بريطانيا أنا ورفيقي في السفر ريتشارد تشين حصل أن كنّا في قلب الهزّة الأرضية التي ضربت بلدة بوئين زاهرا – تلك الهزة العنيفة التي بلغت شدتها 7.1 وقتلت اكثر من اثني عشر ألفاً من سكان البلدة ( يشير المؤلف هنا إلى زلزال عام 1962 الذي ضرب المنطقة ، وثمة زلزال ثان ضربها عام 2002 وبلغت شدته 6.2 ، المترجمة ) ، ولابد انني كنت في المركز السطحي للهزة ولكن لم أشعر بها البتة بسبب مرضي ولأنني كنت مع صديقي في سيارة تتأرجح بنا ذات اليمين وذات الشمال وهي تقطع الطرقات الإيرانية ، ولأننا لم نكن نعرف اللغة الفارسية فإننا لم نعلم بأمر الكارثة التي حلّت إلا بعد بضعة أيام من وقوعها . مكثنا في تبريز أياماً عدة  لكي أتعافى من مرض الزحار الأميبي ( الديزانتري ) الذي ألمّ بي وكذلك لشفاء ضلعي المكسور من جراء إرتطامي العنيف بالمقعد الامامي في السيارة بفعل الرجّة العنيفة التي أحدثتها الهزة الأرضية ، ولم نعرف بتفاصيل الهزة إلا بعد أن وصلنا أسطنبول ، وهناك أرسلت بطاقة بريدية لوالديّ اللذين كانا ينتظران بلهفة سماع كلمة مني لعشرة أيام خلت بعد أن كانت آخر عبارة كتبتها لهما في بطاقتي السابقة أنني في طريقي لمغادرة طهران إلى المنطقة التي حصلت فيها الهزة في ذات اليوم الذي ضربت فيه الهزة تلك المنطقة !! .

* بيرسيبوليس Persepolis : مدينة تقع إلى الشمال الشرقي من شيراز . بُنِيت في أواخر القرن السادس قبل الميلاد على يد داريوس الأول لتكون عاصمة بلاد فارس والتي تُقام فيها الإحتفالات في حقبة حكم السلالة الإخمينية . تدعى حالياً تخت جمشيد . ( المترجمة )

_______
*المدى

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *