شعـرية المجازفات في “هواء… طويل الأجنحة” لعلية الإدريسي البوزيدي

خاص- ثقافات

  • الحبيب الدائم ربي

     يشبه الشعرُ في بعض أسراره علم البيولوجيا، لهذا فكثيرا ما  يحاكي الشعراءُ، وهم يشتغلون على قصائدهم، نظراءهم في علم الهندسة الوراثية والجينومات، لا في دراسة الخارطة الوراثية للكائنات الحية، واللغة كائن حي بلا ريب،وحسب، وإنما كذلك  في فضول التلصص بحذر على سر الحياة نفسها، محاولة منهم سرقة أقباس من النار البروميتيوسية ، حين الوقوف  على حافة البرزخ بين أن تكون الحياة أو لا تكون، بمعنى أن هؤلاء وأولئك، وفي خضم التجريب، يقتربون من “أفق الحدث” الذي ليس بعدَه بعد. يزيحون الزوائد عن الكائنات المهجرية إلى الحد الأدنى، إلى أن يبلغوا أقل الشروط الممكنة والواجبة للوجود الحي، وتلك لعمرنا مجازفة لا يقترفها إلا مغامر أو داهية. ونحسَب أن  المغربية علية الإدريسي البوزيدي واحدة من شواعر المرحلة الراهنة الأشد مغامرة ودهاء في آن، خاصة في جدل الكلمات والذهاب بالمجازات إلى أقاصيها الدنيا، ولا تناقض في العبارة، دونما تمزيق لنسيج الصورة ولا تضييع لماء النص. ولئن كانت علية شاعرة مطبوعة، بالأساس، ترتجل القصيد ارتجالا فيأتيها منقادا منسابا، فإنها حين تكتبه تتحرى اللفظة والعبارة بحرص  صانعة  تخفي آثار صنعتها بلمسات عفوية خداعة، تجلى هذا في كراستها الأولى “حانة… لو يأتيها النبيذ ” (1013)، وسيتجلى أكثر في كراستها الثانية “هواء…طويل الأجنحة !!” (2014). ولعل لفظ الكراسة هو السمة الأنسب لتوصيف الأثرين معا، لا لصغر حجمها، وحسب، وإنما لأناقتهما التي تليق بالحامل الشعري الورقي والصوتي. والواقع أن القصيدة عند علية، وإذا ما استعرنا عبارة ميخائيل ريفاتير، تقول الشيء وتعني به شيئا آخر[1]، أي أن المعنى لديها ليس هو ما  تقوله الدوال وحدها، بل لربما في ما لا تقوله أيضا. الأمر الذي يقضي بعدم التسرع في فهم التوريات انطلاقا من معناها القريب وحده أو معناها البعيد وحده، مادام المعنيان متضافرين متعاضدين.  إنه غموض اللاتحديد وليس غموض تعدد المعاني، وفق ما يحدده ستانلي هايمن. وللتذكير فإنه  لا حانة ، في الكراس الأول، ولا نبيذ. إذ من الجائز  أن  يكون “النبيذ” المقصود  هنا هو النبذ والترك على اعتبار أن صيغة فعيل “نبيذ” قد تعني كذلك صيغة مفعول “منبوذ”. والحانّ أو الحانّة، بتشديد النون وفتحها، هي العاطفة الرؤوم، لذا فالذين يبحثون عن حانة وخمر في العنوان(والخمر هو عصير العنب فيما النبيذ  عصير تمر) أن يتريثوا قليلا، كي يدركوا أن القصد من الممكن جدا  أن يكون  كالتالي: “حنونة لو يأتيها النابذ المنبوذ!”.

1408030402067946112428863

وهو المفترض  ذاته الذي سنعتمده، دونما شطط في التأويل،  لتأمل  “هواء….طويل الأجنحة!!”. ولا شك أن ملفوظ “هواء طويل الأجنحة” قد يبدو للقارئ العجول بلا معنى أو يكاد، سيما عندما يتخطى، هذا القارئ، نقط الحذف الثلاث التي تتبع كلمة “هواء…” وعلامتي التعجب اللتين تليان عبارة “طويل الأجنحة !!”. لكن الغموض الموهوم لدى قارئ غير متمرس قد يزول بمجرد قرينة واحدة  ليتجه صوب المعنى المقصود”[2] .  ولدينا منها اثنتان: “هواء”، التي من معانيها غير المسبعدة “الجبان”. و”طويل الأجنحة…” التي تفيد، عكس منطوقها، الذي لا يقدر على الطيران حين “يطير”. وكم من “نخب هواء” عاجز، ومن عجب يصير، “طويل الأجنحة!!” زعما وادعاء. هو ذا المعنى الذي قد تقصده الشاعرة، ولو لم يكن ذا لاخترعناه، كما قال نزار قباني بشأن الحب. علما بأن الصورة الشعرية، ومن ثم القصيدة، كما يرى جون كوهين لاتكون شعرية  إلا بفعل بنيتها. من ثم فإن خلو صفحات  “هواء… طويل الأجنحة !!” من علامات الترقيم، وخلو الكلمات من حركات،  قد يدعم فكرة كوهين كما يدعم فكرة الكراسة بما هي اشتغال أجناسي واع لدى علية.  ولا مصادفة في أن يكون مفتتح الكراسة هكذا:

 “كراسة

سبت الخريف

(…) الخريف سعيد جدا

وسلفادور دالي أيضا (…)”.

ولكن، من أين نقبض على هذا   المقطع وقد يبدو لنا مفرغا من المعنى؟ الدوال واضحة تماما فيما المداليل متأبية منفلتة. حتى لكأن اللغة لم تعد “تكتفي بتسمية الشيء، بل ستذهب إلى وضعه  في مواجهة عرائه”[3]. ورغم أن حداثة الكتابة قد خسرت قارئها  الذي ألف الوضوح، فإنها  ستعمل، في المقابل، على  تربيته ووضعه في مجرى تياراتها المختلفة [4]. هذا إن لم تؤسس لقارئ جديد يطأ حبة العنب ليتذوق طعم الخمرة (لا النبيذ). ثم إن طغيان معيار الوضوح على نظرية العرب في الشعر والشعرية قد أصاب الإبداع بضرر كبير…والحال أن الغموض هو الذي كان ينبغي أن يكون أساسا قارا للشعرية”[5] بيد أن المشكلة بظننا قد لا تكون متأتية من الكتابة نفسها  بل من القارئ الذي يقفز ، غالبا، إلى منطقة العتمة، وهذا ليس لازما،  فيما القصيدة قد تعيد للأشياء دهشتها الأولى الغامرة بالضياء. لنتأمل المقطع السابق بلا اشتراطات تمليها علينا مخيلات جامحة قد تضيّع المعنى من دون أن تقبض عليه في  طوره الشعري، أي الطور البدئي  الذي تعنى به البيولوجيا أكثر من سواه. فإذا ما أجلنا  النظر في توزيع المقطع وعلامات الحذف، بما هما آليتان من آليات إنتاح التدليل”  la signifiance ألفينا ما يلي: هناك سبت مسند إلى خريف، من جهة، وسلفادور دالي من جهة أخرى. حتى لكأن لا رابط بين سبت وخريف فأحرى بين هذين الأخيرين وسلفادور دالي. مما يجعل من الإمساك بالمعنى عسيرا نوعا ما. إلا أن الوقوف قليلا عند الكلمة والجملة والمقطع كل على حدة، وإمعان النظر في العلائق المفترضة بينها قد يزيح بعض الغموض الظاهر. أولا، علينا أن  نذكّر  بأن الشاعرة لم تشكـُل متنها ، مما قد يُدخِل  بعض الألفاظ عندها، وتبعا لمختلف التلقيات، ضمن الجناس أو يحملها دلالات غير مستبعدة. لهذا علينا أن نعلم، مثلا، بأن “السِّبت”، بكسر السين وتشديدها، حسب لسان العرب لابن منظور، هو  جِلد البقر، أو هو كل جلد مدبوغ.  والخريف، كما هو فصل من فصول السنة، هو مطر القيظ  أيضا. فما العلاقة بين بقر  أعجف ومطر يجرف أكثر مما يروي ؟ ألا يكون هذا إلحاحا على العلاقة التي افترضناها بين “الحانـّة”، من الحنين، والنبيذ، من النبذ؟ علينا ألا نستبعد “السَّبت”، بفتح السين وتشديدها، من حساب الاحتمالات الذي لولاه ما اكتمل تشييد الدلالات.  و هو السُّبات، بحيث يغدو كناية على مطر خريفي قد لا يأتي، كحال امتناع الحانة لامتناع النبيذ.  والسبت، كما لا يخفى، يوم من أيام الأسبوع. وهو يوم مشهود في تاريخ الخلق والنشأة، و ما قبله عدم . وحين تستوحيه الشاعرة، من الزاوية التي ينظر بها  البيولوجيون والفيزياؤون، فلكي تؤكد على أنها تختبر الحياة في المنطقة الأولى الحرجة. لقد خلق الله  الكون في ستة أيام تبدأ بالسبت . جاء في “لسان العرب” :    روي عن عبد الله بن عمر، قال: خلق الله التُّربةً يومَ السَّبْت، وخلق الحجارة يوم الأَحد، وخلق السحاب يوم الاثنين، وخَلَق الكُرومَ يوم الثلاثاء، وخلق الملائكة يوم الأَربعاء، وخلق الدواب يوم الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة فيما بين العصر وغروب الشمس. (انتهى). ونحن هنا نجمّع “العناصر” الأولى لإعادة اكتشاف المعنى المفقود، أو على الأقل، المعنى المطمور تحت غيمة من غموض شفيف. وهو غموض سرعان ما ينجلي حين نربط  المطر الخريفي بقصة الخلق والحياة. ولأن الشاعرة، والفنان عموما،   يحاكيان فعل الخلق فقد يغدو الحديث عن ” سلفادور دالي (…) واضح القصد، بل ومتساوقا مع المقال والمقام، في  سورياليته التي تعيد تشكيل الكائنات والأشياء والعوالم حيث الأحلام والجنس والمأكولات.[6]

والوجه المقابل للصورة يتبدى، دونما تغيير في البنية، في  مكان آخر من القصيدة هكذا:

” خريف أحد

(…) الخريف سيء الحظ

وفان غوخ أيضا (…).

فإذا كان الله خلق التربة يوم السبت قد خلق يوم الأحد الحجارة (في تقابل بين طوب وحجر) واستمر الخلق على مدار الأسبوع، فإن عوالم  الأنثى هنا لم تتجاوز السبت والأحد،(لنتذكر أن خلق الكروم لن يتم إلا يوم الإثنين) وظلت متوقفة عند تربة عطشى وحجارة قاحلة  تبعث على اليأس الذي يجسده هنا فان غوخ بقصة “حبه الخائب” أكثر ما تجسدها لوحاته الانطباعية المعجونة بحب الطبيعة.

وكما تحبل هاتان الصورتان بإركام  تتوالج فيه ترسيبات معجمية ونصوص مهاجرة من الدين والأسطورة والتاريخ واليومي، مشوبة بحلم سوريالي، فإن ثالوث سلفادور دالي (الأحلام والجنس والمأكولات) ومأساة فان غوخ ما يفتآن يتوالدان على امتداد الكراس. تقول الشاعرة:

“يمكنني وضع حبة ماء

على حبل.

احتساء قهوة

في عجلة.

قد أصادفك ميتا

فلا تنتبه…!!”

وتقول:

” في الصباح أعد شتاء

ولا أمطر.

في المساء أدخن سحابة ولا أمطر.

لي معطف قريب

ولا سماء لي…”

 وتقول في مواضع أخرى ما يفيد هذا المعنى أو يضارعه: وهو معنى  يتعارض فيه الحنان والنبذ، كما يتضاد الهواء  النخب مع ادعاءاته ومزاعمه: طول الأجنحة والأرجل. وحتى لا نتورط فيما أطلق عليه أمبرتو إيكو “التأويل المفرط” أو المبالغ فيه، علينا أن  نتفحص ما يمثّل القرائن المانعة من معنى لحساب معنى آخر. بمعنى ما يسند فرضية خروج المعنى عن مقتضى حاله إلى لازم معناه، أو العكس، أو يضايف هذا المعنى وذاك في توليفة واحدة معقدة. لتكن القرينة إذن، هي مفردة “حبل” بالتباسها الدال. فلئن كان معناها القريب الذي يفيد الخيط المفتول لا يدفع بالصورة بعيدا، لأن قطرة ماء فوق حبل، على إيحاءاتها المترددة، لا تشفي غليل الباحث عن معنى يتخفى في الثنايا، فإن الشحنة الجناسية لكلمة “حبل” أي حمل الأنثى وخصوبتها، قد يفك طلاسم أي غموض، ليتجلى عراء المفردات كما في أول يوم تخلّقت فيه. فها هي الأنثى المنبوذة تشكو حالها مع شريك هو  كـ”هواء طويل الأجنحة” متسم بالبرود والجفاء. حتى قطرة مائه مجرد “حبة” بلا روح ولا حياة…توضع على حبل- بدلالتيه: الرباط الواهي والحمل  غير الخصيب الذي لا ينتج عنه إلا البرود والعقم، كما “احتساء قهوة في عجلة”. دون أن ينفع معه  نهْر ولا زجر ” فلا تنتبه…!!” بمعنى ” أ فلا تنتبه…!!”

ويتم تضعيف الصورة  في المقطع الموالي:

” في الصباح أعد شتاء

ولا أمطر. إلخ…”

فالأنا الشاعرة تهيئ منذ الصباح سبلا للشتاء أي للإمطار الخصيب على فراش الزوجية، يأتي المساء، فتدخن سيجارة( ككناية على الانتظار) ولامطر… تفكر في معطف لها قريب( أي في خليل عاطف وليس في سترة كما يفيد ظاهر الكلام) فقط لأنها هي الأرض “لاسماء لها”، في استحضار للثنائية الطاوية اليين Yin رمز الأنوثة واليانYan (رمز الذكورة)، أي السماء والأرض.

حين ندرك هذا يصبح من السهل علينا فهم الإشارات وبناء المعنى البدئي الذي بلا شك هو واحد من رهانات اللغة الشعرية عند علية الإدريسي البوزيدي. سيغدو قولها التالي واضحا تماما:

“إنك معي

الخريف معي.!

تذكر..

نحن نقشر الريح

وهذا الظلام ألفه

كي تدخل..”

من المرجح جدا أننا هنا أمام تشخيص لحال أنثى متوثبة ورجل نابذ في متراجحة الحب الخائب.

بوسعنا أن نسترسل في استعراض تفاصيل ما تتضمنه الكراسة من تنويع على “هواء….تعوزه الأجنحة” وتوالد يزيد من تضعيف الصورة. إلا أننا نبغي الإشارة كذلك إلى أن الكتابة لدي الشاعرة علية تشتغل بمنطق من يحاول تفريغ اللغة من شحناتها الزائدة قصد العودة بها إلى درجتها الصفر، درجة الطفولة والعذرية، وتخليصها من معانيها الحافة  التي أعاقت فاعليتها التعبيرية مع الأيام. وتلك مخاطرة باهضة التكلفة. لكن هل يمكن اقتراف كتابة شعرية من دون مخاطرات فادحة؟!

هوامش:

[1] – Michael Riffaterre,Sémiotique de la poésie,traduit par Jean –Jaques-Thomas,éd,Seuil,1983,p.11.

2 – Georges Mounin,Envoutement à la renadière,Revue Langue Française,Fevrier 1981,p.119.

-3- صلاح بوسرف، الكتابي والشفاهي في الشعر العربي المعاصر، دار الحرف، القنيطرة، 2007. ص.64.

4- المرجع نفسه، ص.31.

5 – عبد الكريم امجاهد، شعرية الغموض، قراءة في شعر عبد الوهاب البياتي، منشورات الموجة، مطبعة دار القرويين، 1998-ص.75.

. 6- Wikipédia, Encyclopédie libre

 

.

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *