ما تفعله المعارض

*أمير تاج السر

ابتدأ في الشهر الماضي، أو الشهر قبل الماضي، موسم معارض الكتب السنوية، التي تندلع في كل بلد عربي تقريبا، بغض النظر إن كان مستقرا أمنيا وسياسيا، أم ممزقا بفعل الحروب، والمشاحنات، وما تبقى من ثورات الربيع العربي، التي أبت في بعض الأقطار، إلا أن تستمر زمنا، متبوعة بالموت بالدم.
هذه الظاهرة التي ينتظرها المبدعون وغير المبدعين على حد سواء، وينتظرها القراء والمتنزهون في أروقة تلك المعارض بلا قراءة، تبدو لي إيجابية إلى حد ما، فهي اعتراف واضح بأهمية أن تكون الثقافة حاضرة حتى في الأزمنة الصعبة، وأن الرصاص والقصف، وانعدام السلع التموينية، وشح الكهرباء، وغير ذلك من المنغصات الحياتية المعروفة، لا يمنع الكتابة، وبالتالي لا يمنع القراءة. ونقرأ باستمرار عن أعمال إبداعية، ورسومات تشكيلية، وحتى مسرحيات وأفلام سينمائية، أبدعها الكثيرون وهم يعيشون في ضائقة الحرب، في بلادهم، وبالتالي لا بد من قراء ومتذوقين للفن، ومشاهدين لأفلام السينما والمسرحيات في تلك البلاد نفسها. وكنت التقيت منذ أيام بأحد الفنانين ممن تضرروا من ضمن الذين مسهم الضرر، يخبرني بأنه ما زال يعمل فنانا، ويصور أعماله وسط الفوضى برغم كثافتها لكنها لا تمنع صناعة الفن للذين يؤمنون به.
معارض الكتب، نشاط كبير، لا يقتصر على جلب الكتب وعرضها في أجنحة للناشرين، ولا بفعاليات مصاحبة يستضاف فيها أهل الإبداع والفكر ليتحدثوا عن أعمالهم أو تفاعلهم مع الراهن العربي. ولكنها مواسم أيضا لما سميته بيوم الكاتب، أي اليوم الذي يسطع فيه نجم الكاتب، أي كاتب حتى لو كان طفلا، أو لو كتب أي شيء ونشره، يسطع لمدة ساعتين أو ثلاث ساعات، في جناح واحدة من دور النشر، ثم يذهب إلى بيته، إما منتشيا جدا بفعل ما ناله من ثراء معنوي، وإما محبطا لأن الثراء المعنوي لا يدوم سوى يوم واحد مع الأسف.
في الحقيقة، لقد تكلمت عن موضوع توقيع الكتب في المعارض كثيرا، ذلك التقليد الغربي الذي لم يكن معروفا لدينا إلى ما قبل عشر سنوات تقريبا، ثم فجأة أصبح العرض الرئيسي في معارض الكتب. ويبدو عند بعض الكتاب أهم من المعارض نفسها، حيث يأتي كاتب من هؤلاء مباشرة من بيته أو مكان إقامته إن كان زائرا لدولة استضافته للمعرض، يذهب إلى جناح ناشره، يجلس على طاولته، ويوقع الكتاب لأي شخص يطلب ذلك، وأحيانا لأشخاص لا يطلبون، ويقوم البائع في الجناح بالصياح عليهم، من أجل أن يتكرموا ويحصلوا على توقيع الكاتب المنتظر ليضع توقيعه.
إعلانات الناشرين للكتب الجديدة، لا تقول كما كان سابقا وهي تعرض غلاف كتاب ما: قريبا مع الباعة وفي المكتبات، ولكن: قريبا في معرض الكتاب في الشارقة، وأبو ظبي،والدار البيضاء، ومسقط.. هكذا، ويأتي الكاتب ليضع صورته وصورة كتابه على صفحته في مواقع التواصل الاجتماعي، ويدعو أصدقاءه لزيارته في يوم توقيعه، ومساندته، من أجل أن ينجح الكتاب.
حقيقة، وبعد كثير من عدم الاكتراث الذي أشاهده على مواقع التواصل الاجتماعي، من عدم اهتمام المثقفين، وحتى كثير من الكتاب، بما ينشر من ثقافة جادة، واهتمامهم المطلق بالصور الفوتوغرافية المرتبة بتقنيات الترتيب الحديثة، وتعليقهم المكثف على بعض المنشورات الخفيفة الساخرة وإهمالهم لقضايا قد تكون مهمة في سياق الحياة عامة، وجيدة إن طرحت للتناول، لا أجد جدوى كبيرة من الدعوة لحضور توقيع ما، أو مساندة ما، أو الدعاية لكتاب، قد لا يقرأ من قبل الأصدقاء، المعروفين لدى الكاتب، ويقرأ من قبل آخرين مجهولين لا يعرف الكاتب أنهم قراء له. هذه الدعوات ربما يلبيها نفر لن يضيرهم إن لبوها، ولكن في الغالب ليست دعوات جماهيرية، ولن تساهم في صناعة يوم الكاتب كثيرا.
سؤال، هل يوم الكاتب مسألة سلبية أم إيجابية، في طريق الكتابة الوعر؟
أعتقد جازما أن المسألة تحتمل شيئا من الإيجابية، وأشياء بلا حصر من السلبية، فبالنسبة لكاتب أضاع الكثير من سنواته في الكتابة، ولم يحصل على شيء من متع الدنيا، وأعني أن يكون لقب كاتب يشرفه أكثر مما يربكه، ويفسد حياته، وأن يحصل على عائد سنوي جيد، نتيجة جهده، وأن يسافر ويجيء بسمعة أنه كاتب مقروء، وأعماله مطلوبة، هكذا.. بالنسبة لواحد مثل هذا، فإن يوم الكاتب، أي الساعتين اللتين يقضيهما محاطا بالأضواء والأصدقاء، والصور التي لا تخمد حتى ينتهي الاحتفال، وذلك الإعلان الضخم الذي يحمل صورة كتابه، مؤكد سيحسن كل ذلك من معنوياته، ويمنحه الإحساس المطلوب ليستمر. ولو أن القراء جاءوا بالفعل وحصلوا على توقيعه، وصورة معه وذهبوا، ثم كتبوا في مواقعهم بعد ذلك أنهم قرأوا كتابا له، وموقعا منه مع نشر الصور، أظن أن نشوته ستستمر زمانا، وربما يبدع أكثر في المرات القادمة، لتتكرر ساعات النشوة تلك، وحتى لو لم يحصل على عائد مادي.
بالنسبة لبعض الذين دخلوا سكة الكتابة مؤخرا، مجاراة للموضة، ومجاراة لمقولة لم يقلها أحد، ولكن الظواهر كلها تقولها: وهي أن الإنسان أصله كاتب، هؤلاء يودون صناعة يوم مبهج بأي ثمن، تماما مثلما يصنعون يوما مرحا في كازينو أو رحلة بحرية، أو سفرة راقية لبلد جميل. هذه هي الفكرة المسيطرة، وهنا سيأتي أصدقاء كثيرون على عكس المتوقع، وسيضع قلم الكاتب المعبأ بالحبر مئات التوقيعات لهؤلاء الأصدقاء، وأصدقائهم، وربما يتحول ذلك اليوم المرح، إلى يوم مربح ماديا، وأيضا يوم اعتراف كبير بكاتب من كتاب المصادفة، لم يكن يقصد أن يصبح شهيرا لهذا الحد ويصبح نصه، قدوة لنصوص أخرى لكتاب سيأتون بنصوص في المستقبل.
في مرة جلست في معرض للكتاب، وأمامي نسخ من كتاب صادر لي حديثا، كنت أخوض مسألة التوقيع للمرة الثالثة، وهي مسألة لا أحبها لكني أمارسها لأن الناشرين كما قلت، باتوا يربطون صدور الكتب بالمعارض، ويذكرون في كل إعلاناتهم بأن الكتاب متوفر في هذا المعرض أو ذاك، وأن الكاتب سيكون موجودا للتوقيع. كانت في جناح النشر المقابل لي فتاة توقع على كتاب أول لها، فتاة مغمورة تماما، ولكنها صنعت مقدمات يومها بدقة، كان كل شيء مرتبا، من أدوات الاحتفال، من ورد ملون، وشوكولاتة فاخرة، وشاي وقهوة، وتجميل في الوجه واللبس، إلى طريقة رص الكتب وعرضها، وترك مسافة بين طاولتها، وصف القراء الذي من المتوقع أن يلتم لاستلام الكتاب الموقع. كان قلمها يلمع بأضواء براقة، وكنت أستخدم قلمي العادي، وبلا أي أداة من أدوات جذب القراء سوى تلك السنوات الطويلة التي قضيتها كاتبا، وما زلت أثق في أنها لم تضع هدرا.
لقد وقعت كتابي لقراء عديدين، هذا حدث بالفعل، ولكن الفتاة وقعت حتى جف قلمها، ونفدت نسخ كتابها. إنه يومها بلا شك، يومها الذي سيمنحها النشوة والاعتراف، وإمكانية أن تصنع كتابا مماثلا للعام القادم، قد تتعجل فيه، ويخرج بكل عيوب الكتابة، ولكن أيضا يجلب الجمهور ويصنع لها يوما جديدا.
ما حيرني بعد ذلك، أنني تتبعت اسم تلك الكاتبة، والآن مضت خمس سنوات ولم يظهر لها كتاب جديد، وكأن يومها ذاك كان يوما يتيما لكنه يوم عرس، لم ترد أن تفسد طعمه بأيام جديدة.
خلاصة الأمر، لنرحب بموسم المعارض، سواء أتى بإيجابياته أو سلبياته، على الأقل لأمثالنا، حيث نتزود منه بحصيلة ما سنقرأه لاحقا.
_______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *