قيثارة أورفيوس ورابسوديات العصر السعيد

*لانا المجالي

(1)

(دو)؛ المفتاح الحزين الذي استخدمه بيتهوفن للتعبير عن موت بطله في مارش سمفونيته الثالثة الجنائزي، شاركني سرد حكايات ما قبل النوم لأطفال هاملن الألمانيّة الذين اختفوا نتيجة تنكّر أهاليهم لصنيع الزمّار منقذ البلدة من الجرذان بعد أن استدرجها بألحانه السحريّة لتغرق في النهر.
عندما رفض أهل هاملن مكافأة العازف أو تقديره، انتقم منهم، بأن قاد أطفالهم بثياب نومهم إلى خارج البلدة تحت تأثير موسيقاه، ولم يرهم أحد بعدها أبداً.

(دو) ؛ يرفع رأسه إلى الأعلى، مثلي، ونحن نراقب قيثارة أورفيوس التي رفعها كبير الآلهة، وجعلها نجماً في السماء تخليداً لذكراه.
أورفيوس عازف الموسيقى التي توقِف الأنهار عن جريانها، وتشغل العصافير عن اجتراح زقزقتها، والأشجار عن تفتّح أزهارها، نزل إلى العالم السفلي لاستعادة زوجته يوريديس، وكاد أن ينجح في مسعاه بعد أن سحر الملك هادز بألحانه، وعقد معه صفقة تقضي بأن يستعيدها شرط ألا ينظر إليها وهي تتبعه أثناء رحلتهما من الموت نحو الحياة، لكنّه – وعلى دين العشّاق/ الشوق-، خالف الشرط ففقدها إلى الأبد.

(دو) وأنا، نفرح حزناً، ونحن نختبر “آلام السعادة الحقّة” التي كان ينشدها نيتشه في الموسيقى، ويعتبر الحياة من دونها “غلطة”.

(2 )
تهبط المخلوقات العليا إلى سطح الأرض؛ لحضور حفلة موسيقيّة، فتُنصِت بلياقة، ثم تهنِّئ المؤلّف الموسيقيّ على إنجازه، وتعود أدراجها إلى الفضاء.
هذه الكائنات التي ابتكرها كاتب الخيال العلميّ البريطانيّ، آرثر سي كلارك، في روايته “نهاية الطفولة” 1953، تدرك أن الموسيقى تمثِّل قيمة ما للبشر، لكنها لا تزال تجدها غير مؤثرّة كونها تفتقد العدّة العصبيّة اللازمة للتفاعل مع الألحان، وأيضاً، غير مفهومة بشكلٍ لا يثير دهشتنا؛ فها هو شوبنهاور يؤكِّد أن عمق الموسيقى الذي يفوق الوصف، سهل جداً، لكن تفسيره متعذّر للغاية!

إن سرّ القوة السحريّة التي تتمتَّع بها الموسيقى يكمن في استجابتها المباشرة للعقل الباطن في شيفرةٍ مشاعريّة يترجمها الوجدان فقط.
الحقيقة، أن ثمّة بشراً- على ندرتهم- لا يتفاعلون مع الموسيقى، فقد كان فرويد يمقت الموسيقى ويعتبرها شيئاً دخيلا رغم عشقه للآداب والفنون التشكيليّة، بينما ظلّت الموسيقى في حياة نيتشه أكثر من ولع. وعندما جنّ في أواخر حياته حافظ على موهبته الموسيقيّة في العزف على البيانو، برغم أنه فقد القدرة على الكتابة.

في كل الأحوال، لو كنتُ صاحبة “نهاية الطفولة” لابتكرت موسيقى خاصة بالكائنات العُليا على غرار سمفونيّة القطط؛ إذ أثبتت دراسة حديثة أن القطط لا تتفاعل مع موسيقانا بالمقارنة مع سمفونيّات (قططيّة) تجمع بين الحِدّة العالية لأصوات السنوريّات وإيقاع الهرهرة أو الرضاعة، وتَبيَّنَ أنها تفاعلت معها بشكلٍ كبير، حتى أنها تمسَّحت بمكبِّر الصوت في بعض الأحيان.

(3)

في مجموعتها “موسيقى صوفيّة” التي حصدت جائزة أفضل كتاب قصصي في العراق عام 1994، تتحوّل لطفية الدليمي إلى عازفة، تكتب أقدار شخصيّاتها على وقع خلفيات موسيقيّة مختارة من رابسوديات فرانز ليست، حتى إنها تستبدل التواريخ بأرقام الرابسوديات، فهناك زمن رابسودي رقم (2) عندما كانت البطلة سعيدة بجنون، ترتعش بسعادة “حتى أطراف أظافري وشعري وحواف ثيابي”، وهي تتوهّج بقصة عشقها مع أنيس بالتزامن مع تصاعد البناء الموسيقيّ العنيف في الرابسودي، ثمّ تنطفئ هامدة: “فلتصمت هذه الضجّة، أريدُ مكاناً وادعاً لحزني، وغرفة رضية لدموعي، وأرضاً مستقرّة لذكرياتي”.

وعندما أفاقت أميمة في زمن الرابسودي رقم (13) كانت زلزلة الحرب تضرب كل شيء، أمّا على صعيد علاقتها بأنيس فهي لا تريد أن تتذكّر كلماته الأخيرة، ولا أن تحدس الكلمات والنوايا “الرهيبة المفزعة” التي لم يقلها. ثمّ تستخدم ألعابها السرديّة فتتقلَّد العقد الذي أهداه لها في زمن الرابسودي رقم (2) لتجد نفسها واقفة على ضفة ذاك العصر السعيد: “أنا الآن التي أبدو مثل امرأة مسحورة تتألم من أجل امرأة أخرى وتمنعها من الامتثال للموت”.

المقدرة الموسيقيّة والإبداعيّة تتجلّى عندما تتألق الدليمي، فتستخدم الرابسودي رقم (19) خلفيّة للمرحلة الزمنيّة الأخيرة في قصّتها؛ موسيقى الحبّ والجنون، موسيقى الموت الذي لا يقاوم، وهو آخر ما كتب فرانز ليست قبل وفاته؛ آخر استغاثة وآخر نداء.

ولا بد من الإشارة، إلى أن هذه المحاولة المتواضعة والمجتزأة لقراءة نصّ أدبيّ استعار تقنيات موسيقيّة في بناء معماره، أهدف من خلالها، التأكيد على توأمة الفنون وعدم انفصالها.

(4)
ادّعى الموسيقي الإيطالي غوسبيه تارتيني (1692- 1770)، أنَّ الشيطان زاره في حلمه ذات ليلة، وعقد معه صفقة كانت وراء تأليف سوناتا “رعشة الشيطان”، وهي معزوفة صعبة تقنيَّاً تشتمل على رعشة طويلة في حركتها الرابعة، حتى أنّه جرى تناقل إشاعة في القرن التاسع عشر، تقول إنَّه كان يملك ستّة أصابع في يده اليسرى يسَّرت له عزف هذه السوناتا.

وعلى غرار “وادي عبقر” الشعراء، لم يكن تارتيني الموسيقيّ الوحيد الذي ظنّ بوجود قوّة خارقة منحته ألحانه، لكن .. من منَّا لا يقف عاجزاً أمام تفسير كنه الإبداع؟

(5)
لا يمكن الكتابة عن الموسيقى؛ لأن التعبير عنها بالكلمات يفقدها بلاغتها الثمينة، وها هو نيتشه يؤكِّد :” بالمقارنة مع الموسيقى، يمكن القول إن التواصل بالكلمات شيء مخزٍ؛ فالكلمات تنطوي على وحشيّة؛ إذ تحيل غير المبتذل إلى مبتذل”.
هذا يعني، أن كلماتي نفدت، بانتظار أن تعزف الموسيقى، وإلى الأبد.
_______

*العدد 50 من مجلة الإمارات الثقافية.

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *