أن تَأخُذَ فلوبير على محمل الجَدّ

*طارق أبي سمرا 

كان ضجراً لا يُحتمل ذلك الذي راح يخنقني وأنا أقرأ “مدام بوفاري” لأول مرة. آنذاك، كنتُ مراهقاً في الخامسة عشرة، يَحلم بأن يصير كاتباً مشهوراً. لست أدري ما الذي دفعني حينها إلى قراءة هذه الرواية، لكنني أذكُر جيداً ساعات الملل أمام صفحات لامتناهية من الوصف التفصيلي لأتفه الأمور وأصغرها، كالأقمشة متعددة الأشكال والألوان التي استُخدِمت في خياطة قبعة، أو انعكاسات الضوء على لوحات زيتية معلّقة على حائط.

ثم قرأتُ “التربية العاطفية” بعد حوالي سنتين، فأُصبِتُ بالضجر ذاته. “هذا رجلٌ يهوى الوصف بإفراط”، رحتُ أفكر متأففاً، لكنني سرعان ما لجمتُ نفسي وأقنعتُها بعظمة فلوبير، إذ كان تسليمي بذلك ضرورياً كي لا تتفسّخ الصورة الهشّة وحديثة العهد، التي كنتُ قد كونتها عن نفسي كمتذوقٍ فذٍّ للأدب الرفيع.

اعتبرتُ عندها أن مُهمّتي ناجزة، أنني اطلعتُ على ما يكفي من أعمال هذا الفرنسي المُبجَّل والسمين، ذي الشوارب الكثّة والمتدلية التي تحجب شفتاه بالكامل، فنسيته هو وزانِيَتُه الشهيرة إيما بوفاري، وظننت أنني لن أفتح مجدداً أياً من كُتبه.

***

لعلّ فلوبير لم يرتضِ منزلة الكاتب العظيم وما قد تنطوي عليه من مقدرة فائقة على بث السأم في النفوس، إذ راح، خلسةً ثم بإلحاح، يُطاردني. على نحو متزايد، صار اسمه يرد هنا وهناك في قراءاتي، وأخذَت ملامح صورته الأسطورية ترتسم شيئاً فشيئاً في مُخيّلتي، صورة الكاتب الناسِك التي استبدّت بكثيرين (وحاول كثيرون أيضاً التخلّص من براثنها)، من مُريده موباسان مروراً بكافكا الذي أبصر في صباه مناماً حيث كان يقرأ، بصوت جهوري وبالفرنسية، “التربية العاطفية” أمام حشد غفير من المستمعين، وصولاً إلى ماريو بارغاس يوسا الذي خصّ الزانية الغنية عن التعريف بكتاب كامل.

وهؤلاء الثلاثة هم من ضمن زمرة كُتّاب كنتُ، سعياً إلى الإثبات لنفسي أنني مشروع كاتب كبير، أجهد في التماهي معهم ومع آرائهم الأدبية وغير الأدبية، بدلاً من مزاولة فعل الكتابة يومياً وبانتظام. بل إنني نادراً ما كنت أكتب، مكتفياً بأحلام يقظة عن أمجاد ستنهمر عليّ، وبالكاد سألحظها أو أعيرها اهتماماً، فأتخيّلني مثلاً، بمناسبة تسلُّمي جائزة “نوبل”، ألقي خطاباً موجزاً مُترفِّعاً، ومليئاً بالدُرر، أمام جمهور مشدوه ومسحور، فاغر الأفواه. وكانت الأيام والشهور تتعاقب سريعاً وأنا قابع في مكاني، أحلمُ بالشهرة وأنتظر مجيء الإلهام.

إلا أن اكتشافي لشخص فلوبير، من خلال ما كتبَتْه عنه زمرة من كنتُ أقتدي بهم، زعزع أُسُس عقيدتي الأدبية هذه. وإن أول ما لفتني، فأرعبني، كان وتيرة عمله المهولة في بطئها. عَلمتُ أنه كان يكتب لمدة عشر ساعات يومياً، وأن الأربعمئة صفحة التي تتألف منها “مدام بوفاري” كلّفته ثلاثة وخمسين شهراً من الكدح المضني والمتواصل، أي أن الرجل هذا كان يخطّ بريشته سبع صفحات في الشهر، أي ربع صفحة فقط خلال يوم عمل كامل من عشر ساعات، أي ثلاثة وثمانين كلمة، ما يعادل ثماني كلمات في الساعة، أي حوالي نصف سطر. وكان علاوة على ذلك، يمقت الكتابة مقتاً شديداً، إذ يعتبرها نوعاً من أنواع التكفير عن الذنب، ألماً محضاً لا ينطوي على لذة إلا فيما ندر، فلعنها مراراً وشبهها ب”القصاص المدرسي”.

ولم يكن سبب بطئه وعذابه شحّاً في الإلهام بتاتاً، بل بحثاً مستمراً ودؤوباً عما يُسميه “الكلمة الدقيقة”. والمصطلح هذا يشير، عند فلوبير، إلى نظرية متكاملة حول فن الكتابة، لم يكن بإمكانها أن تَنْبُت سوى في عقلٍ مريض. فـ”الكلمة الدقيقة” ليست الكلمة (أو الجملة) الأدقّ أو الأنسب لقول أمر ما، بل الكلمة (أو الجملة) الوحيدة التي بمقدورها قول هذا الأمر. إذ يرى فلوبير أن ثمة تماهياً مطلقاً بين المضمون والشكل، بين فكرة ما وطريقة التعبير عنها. وما يَدُّل على بلوغ هذا التطابق المُرتجى بين الفكرة والعبارة، هو وقع هذه الأخيرة على السَمَع. فكان فلوبير يُخضِع جميع نصوصه لامتحان عصيب، فيقرأها لنفسه بصوت مجلجل، مُنصِتاً بعناية فائقة إلى موسيقى الكلمات والجمل. وكانت أي شائبة سمعية تلتقطها أذنه، مهما صَغُر شأنها، دليلاً قاطعاً على خلل فادح يشوب ليس فقط طريقة التعبير، وإنما الفكرة بحدّ ذاتها، فيترتب على ذلك مزيد من ساعات العمل الطويلة والمرهِقة.

إن نظرية التطابق هذه بين مُحتوى القول وشكله، بين صواب الفكرة من جهة، وموسيقية الجُمَل التي تُجَسِّدها من جهة ثانية، تستند إلى تَصوُّر صوفي لماهية الكتابة لم يشرحه فلوبير أبداً بشكل واضح، إلا أن تبيان أبرز سماته – ومدى جنون صاحبه – ليس بالأمر العسير.

تَفترِض هذه النظرية ما يلي: بما أن الإنسجام بين الشكل والمضمون، بين عبارة وفكرة، هو تام ومُطلق، أي أنه لا يمكن استبدال أحد عُنصرَيه بآخر، فهو بالتالي سابقٌ لفعل الكتابة ومستقلٌ عنه. هو إذاً انسجام أزلي ليس من صنيعة الإنسان. وما يلتمسه فلوبير الملحد والعدمي، حينما ينسُج كلماته وجمله وفقراته وفصوله، إنما هو مجرد محاولة نَسْخ كِتاب سَبق وخطّته يد غير بشرية. عملية الكتابة هي إذاً، بالنسبة لتَصوُّر فلوبير الصوفي، أقرب إلى اكتشاف نَصّ شِبه مُنزَل منها إلى ابتكار أو خلق هذا النَصّ. أي أن كتابة نَصّ يتسم بالكمال، خالد وأبدي، هي بمثابة بحثٍ عن نَصّ أزلي.

لكن المفارقة هي أن الكاتب، في سعيه لاكتشاف نصه الأزلي، وحيدٌ لا يمكنه أن يلجأ سوى إلى قواه البشرية المحدودة للغاية، فلا يُعِينه في مهمّته لا وحي إلهي، ولا حتى مجرّد إلهام عادي. وللعثور على “الكلمة الدقيقة”، على الجملة الدقيقة، على الفقرة الدقيقة، إلخ، لم يكن بالتالي أمام فلوبير من خيار سوى الكدح المضني والمتواصل، أي الكتابة وإعادة الكتابة، ثم الإنصات إلى موسيقى ما قد كُتِب وإعادة كتابته من جديد، وهكذا دواليك حتى الإرهاق فالإستسلام. بمعنى آخر، كان فلوبير مُصاباً بهوسِ أو عُصابِ التصحيح. ومن المعروف أن كثيراً من الكُتاب يولون التصحيح عناية بالغة بما هو جزء لا يتجزأ من عملية الكتابة، إلا أن فلوبير تخطى ذلك بأشواط، إلى حد أنه لم يكن في الواقع يكتب، بل بالأحرى يُصحح. وما ألوف الساعات التي استغرقتها كتابة “مدام بوفاري” سوى نتيجة مباشرة لهذا الهوس. ففلوبير لم يكن يجلس أمام مكتبه لكي يتوه في تأمل ورقة بيضاء، إذ أن ريشته لم تكن تتوقف عن خطّ الكلمات والجمل ثم شطبها. والحقّ أن وتيرة عمله لم تكن تقتصر فعلاً على نصف سطر في الساعة، بل تفوق ذلك بكثير. فوراء كل جملة وَجَدت طريقها إلى كتاب مطبوع، صفحات وصفحات من المسودات. وبما أن الحياة قصيرة، والتصحيح مهمة طويلة، تكاد أن تكون لامتناهية، وجد فلوبير نفسه مضطراً إلى العيش كناسك.

ما علِمْتُه وقتها عن شخص فلوبير وأفكاره أصابني بالهلع: رأيتُ نفسي هذا الكسول المنافق، الذي يعتقد أن كتابة تحفة أدبية لا تتطلب سوى مجرد الحُلْم بها؛ وأبصرتُ أمامي سنوات مديدة من العناء، لم أكن واثقاً من قدرتي على تحمّلها. بل إنني لم أكن أعرف حتى إذا كنتُ أرغب حقاً في خوض هكذا مغامرة.

أعتقد الآن أن ما جذبني إلى نظرية فلوبير آنذاك، كان طابعها شِبه الديني. أو بشكل أكثر تحديداً، صورة الكاتب الناسك الذي يُضَحّي بكامل وقته وطاقته على مذبح الجُمَل البديعة والموسيقية. فلعلّني رأيتُ في هذا الكهنوت الغرائبي – كهنوت النثر – تعالياً ليس عن سائر البشر فقط كما هو الحال في هواماتي المتعلقة بجائزة “نوبل”، بل عن الحياة في حد ذاتها أيضاً.

مهما يكن من أمر، قررتُ، مُتسلحاً بهذه النظرية، أن أعود إلى “مدام بوفاري”. فحدثت المعجزة.

***

في أحد الفصول الأخيرة من الرواية، يصف فلوبير بإسهاب إحتضار إيما بوفاري بعد تناولها السم. هي كانت قد دخلت خلسة إلى منزل جارها الصيدلي، حيث مُختبره، وأخذت تأكل مسحوق الزرنيخ لتضع حداً للكارثة المالية التي لحقت بها، وللفضيحة التي تلوح في الأفق: فنتيجة الدين الهائل الذي راكمته خلال سنوات دون علم زوجها، راحت الكمبيالات، فجأة ودفعة واحدة، تنهمر عليها سيولاً. لم تجد أحداً ينجدها، لا عشيقها الحالي الذي قطع عليها وعداً بمساعدتها، فتخاذل، ولا عشيقها السابق الذي صدّها بلؤم. وها هي الآن ممدة على فراش الموت، وجهها شاحب، لسانها أسود، في حلقها مرارة وكأنها قد ابتلعت حِبراً، تتقيأ مرة تلو الأخرى، تشعر بطعنات سكاكين في أحشائها، ترتجف وكأنها ممسوسة من روح شريرة، وزوجها المغلوب على أمره، ينتحب بجانبها كطفل.

يتكلم فلوبير، في مراسلاته، عن مدى تماهيه مع بطلته خلال كتابته لمشهد نزاعها وموتها هذا، فيقول أنه أحس عندها، في جسده، ببعض من العوارض الأليمة التي ألحقها بها، إلى حد أنه راح، هو الأخر، يتقيأ. لعله أراد لهذا المشهد أن يكون مؤثراً جداً، ولعله نجح تماماً في ذلك، فلا شك أن كثيرين قد ذرفوا الدمع وهم يقرؤونه. لكن من ناحيتي، فأنا لم أشعر أبداً تجاه أحلام إيما وغرامياتها، خيباتها، ويلاتها ومن ثم انتحارها، سوى بلامبالاة مطلقة. فخلال قراءتي الأولى، ضجرت؛ أما خلال القراءات الست أو السبع اللاحقة، فقد كان سَمّ نثر فلوبير يسري في عروقي. سمٌّ أصابني بخدر، جعلني عديم الإحساس، لا أكترث بحبكة الرواية أو بإيما وعشيقيّها وزوجها المسكين، ولا أتأثر بشيء سوى بجمالية اللغة.

ولغة فلوبير هي أبعد ما تكون عن الغنائية الإنشائية الخاوية، عن ذلك الإفتتان بتدفق العبارات الطنانة والرنانة التي لا تقول شيئاً ولا تصمت أبداً. بل هي، على العكس من ذلك، لغةٌ مُتقشفة بعض الشيء، دقيقة للغاية، موضوعية وحتى شِبْه علمية أحياناً، فتتزاوج تماماً مع موضوعها لدرجة أنني لم ألحظها في بادئ الأمر خلال هذه القراءة الثانية. لكنها راحت تتسرّبُ رويداً رويداً إلى بدني حتى شعرتُ أخيراً بقشعريرة بَرْدٍ مُباغِتة.

تُحيل هذه اللغة كل ما تُلامِسه إلى جليد. تُحَجِّره. كأن ما يكتبُ عنه فلوبير، هو عالم من الصقيع، عالم هَبَّت عليه عاصفة ثلجية هوجاء أتت على أخضره ويابسه، فأخمدت فيه شُعلة الحياة وتركت ساكنيه مجرد أصنام بيضاء لا أتعاطفُ معها، لا أشعرُ بأحاسيسها، بل أكتفي بتأملها من بعيد، مبهوراً ببريقها المرمري البارد.

عرفتُ عندها، أنني أريد أن أكتب هكذا، أنني أريد أن أقلّد فلوبير الذي رأيتُ في أسلوبه، عن صواب أو خطأ، نقمة على الحياة ورغبة في تحنيطها داخل الجُمَل. وأيقنتُ أنني أمتلك دافعاً حقيقياً للكتابة يتخطى الحلم بالشهرة والمجد: الهروب من الحياة، تجنُّب عيشها، تجميد المشاعر التي تتولد عنها داخل صقيع الكلمات.

وأنا كنتُ، ولا أزال، شخصاً يحاول دائماً مَحْوَ مشاعره بشتى الطرق الممكنة: التقوقع على ذاتي وحصر علاقاتي الإجتماعية ضمن دائرة ضيّقة جداً؛ عُشْق الروتين وتفادي كل ما هو جديد أو غير مُتوقَّع؛ الإسراف في معاقرة الخمر؛ التقليل من أهيمة مشاعري إن حدث وشعرتُ بها أصلاً؛ لكن بشكل خاص، عدم الإحساس بهذه المشاعر بالمطلق، وكأنها لم تكن من الأساس. ولعلني عثرتُ، في شخص فلوبير، في نظريّته وطريقة عمله ولغته، ليس على تبرير للإستمرار على هذا المنوال فقط، بل على مُحفِّز لصقل أسلوبي في العيش هذا وتحويله، عن طريق الكتابة، إلى شكل من أشكال الفن.

***

بدأتُ إذاً أكتُب بشيء من الإنتظام: أجلس عدة مرات في الأسبوع أمام شاشة الكمبيوتر، محاولاً كتابة قصص قصيرة بالفرنسية، اللغة الوحيدة التي كنتُ أتقنها، فأصل إلى نهاية يوم عملي المؤلف من خمس ساعات تقريباً، وفي حوزتي حفنة من الجُمَل أروح أرددها لنفسي بصوت هامس – إذ كنتُ لا أجرؤ على تلاوتها عالياً مثلما كان يفعل فلوبير–، مفتوناً ومبهوراً بوقع موسيقاها على أذنيّ.

لكنني أيقنتُ، بعد فترة قصيرة، أن مُعلِّمي الصارم بات يسكُنني. كان عابساً باستمرار، بل إن تكشيرة مُتحجِّرة على وجهه كانت تمسخ ملامحه كلياً. فهو لم يكن يستسيغ شيئاً مما أكتبه: هذه الكلمة غير “دقيقة”، إبحثْ عن أخرى؛ تلك الكلمة ترد مرتين في نفس الصفحة، إستبدِلها بمرادف؛ إن تكرار هذا الصوت وهذا المقطع اللفظي نشازٌ على الأذن؛ وهذه العبارة في منتهى الكليشيه، كما أن الجملة ركيكة جداً، والفقرة برمتها غير مُتماسكة، ولا ترتبط بشكل عضوي بالتي تليها… لستُ أدري إن كان ما تكتبه يستحق حتى إعادة كتابة.

هكذا، أضحت كل كلمة أطبعها على لوحة المفاتيح تعذيباً أمارسه على نفسي. فأمام العدد اللامتناهي من الكلمات المُحتمَلة التي عليّ أن أختار واحدة منها فقط، ومن الجُمَل المُحتملة التي باستطاعة هذه الكلمات أن تألفها، ومقتنعاً أن هناك كلمة وحيدة هي الكلمة ال”دقيقة”، وتركيبة وحيدة من الكلمات بإمكانها تشكيل الجُملة ال”دقيقة”، كنتُ أصاب بحالة من الجزع.

أخذَتْ عندها وتيرة كتابتي تَبطُؤ أكثر فأكثر حتى ساوت أخيراً وتيرة عمل فلوبير (ومن نافل القول إن جودة المُنْتَج لا محل لها في هذه المقارنة). وصارت الكتابة مجرّد بحث عسير عن الكلمات ومحاولة شاقة للعثور على تسلسلها الأنسب داخل الجُمَل، وعلى التسلسل الأنسب للجُمَل داخل الفقرة، إلخ، عملية اجترار محضة لا تُعنَى بتاتاً بما يقع خارج حيّز اللغة، أي بالحياة. ولا زلتُ حتى اليوم هذا لا أعرف للكتابة طريقة أخرى: أعبث بالكلمات كبهلوان رديء لا يتقن التلاعب بكراته، فيتعثّر بواحدة وتسقط الأخرى على رأسه.

***

أجلُس إذاً أمام شاشة الكمبيوتر – تماماً مثل الآن، وأنا أحاول إنهاء هذه المقالة التي استغرقتني كتابتها خمسة وعشرين يوماً توزّعت على ثلاثة أشهر، أي حوالي مائة وخمسين ساعة – وأحدّق في بياض الصفحة الإفتراضية. لا أفعل شيئاً سوى انتظار الجُمَل، التي لا تأتِني سوة قطرة قطرة، وبين القطرتَين دهرٌ من الضجر الخانق، هذا الدِرع الذي صار يقيني من الجزع.

إلا أنه قد يحدث أحياناً للكلمات، وأنا أعبثُ بها بشكل أخرق وبطيء، أن لا تتساقط على رأسي، بل أن تصطف من تلقاء نفسها في جُملة بديعة، فأشعر حينها بالدم يجري في عروقي، وأدركُ أن في الجُملة هذه، ثمة شيئاً يتخطى اللغة والكلام، شيئاً من العالم الخارجي، يُشبه الحياة، لكنه ليس الحياة تماماً. أعي عندها أن الكتابة حشرٌ وتعليبٌ للحياة في الكلمات، وأنني، مثل ناسك، مُتسعدُّ للتضحية بهذه الدنيا، بشرط أن أحيا داخل الجُمَل.
__________

*المدن

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *