هـرم

خاص- ثقافات

*محمود شقير

سيدخل عليها ذات صباح وهي منهمكة في صرف وصفات الدواء، ستقف مذهولة وهي تتمعّن في ملامحه، سيشعر بشيء من الحزن وهو يحدق في ملامحها التي تسلل إليها عبث السنين، سيرى أن وزنها قد تضاعف، ستشعر بالحرج لأنها ستعرف أنه يرى ما لم يكن يحبّ أن يراه.

كانت نحيلة القدّ لا تهدأ أكثر من ثانية واحدة في المكان الواحد، كان يلذّ لها أن تتسلق درجات السلم الحديدي، لكي تجلب الدواء من الرفّ العلوي، فيما يجلس هو بالقرب من الكاونتر، متابعاً حركاتها بعينين طافحتين بالخجل، فلا يواصل النظر كي لا يصعقه بياض الفخذين الرشيقين.

ستسأله: كيف عدت؟ سيقول لها: عدت وكفى، (يعدها بأنه سيروي لها التفاصيل في مرة أخرى). ستشتبك أيديهما بمصافحة حارة، ستبدأ أعينهما رحلة استكشاف سريعة من جديد (بدافع الفضول لا أكثر هذه المرة). ستقرأ في عينيه كلاماً غامضاً، سيقرأ في عينيها أسى ودموعاً. سيعيدها عشرين سنة إلى الوراء، ستعيده عشرين سنة إلى الوراء.

جاءها ذات مساء وفي يده جرح سبّبه له انـزلاق مفاجئ فوق درجات السوق. راحت تضمّد جرحه بحنوّ فاستكان بين يديها، وبدا أنها تستمتع بما تفعله، فأطالت التضميد كأنها لا تحب أن تنتهي منه. سيضحك حينما تذكّره بتلك الحادثة، ستضحك وهي تستعيد تفاصيل المشهد الحميم، سيطفو فوقهما صمت مفاجئ، (من يستطيع أن يردم هوّة عمقها عشرون سنة في دقائق معدودات؟) سيكفّ عن التحديق في عينيها كي لا يسبب لها المزيد من الحرج. ستسأله إن كان قد تمكن من زيارة أسواق المدينة التي كان مشغوفاً بها، سيقول لها إنه لم يكف منذ لحظة وصوله عن التجوال فيها. ستلاحظ أنه لم يأت إليها فور عودته، (ربما كان عاتباً لأنها لم تسأل عنه) ستبدي له بعض الأعذار لأنها علمت بأمر عودته فلم تبادر إلى زيارته أو مهاتفته. سيشعرها بأنه يقبل عذرها دون تمحيص. سيحلّ بينهما الصمت ثانية. ستقول وهي ترنو عبر الباب نحو الرصيف: المدينة تهرم، هل لاحظت ذلك؟ سيهزّ رأسه ولا يجيب. سيغتنم اللحظة التي يدخل فيها زبون جديد، ستنشغل عنه بحثاً عن الدواء، سيقول بضع كلمات ثم يغيب.

________

*روائي وقاص فلسطيني

من مجموعته القصصية “صورة شاكيرا”/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ 2003

شاهد أيضاً

قصة “الظل” لإدغار آلان بو

(ثقافات) قصة الظل[1]. إدغار آلان بو ترجمة: عبد القادر  بوطالب                أنت الذي تقرأ ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *