وراءنا أينما ذهبنا

خاص- ثقافات

*دى . إس . سوليتس/ ترجمة:  د. محمد عبد الحليم غنيم

     انتظرت فوق السلم أتطلع إليه ، لا أريد النزول . كان وحده ، بيد أن أمى كانت بالقرب منا ، أما هو فكان فى انتظارى لذا كانت أمى تنتظر أن يدق الجرس . لقد رتبت لهذه الزيارات ، فدعت  إلى المنزل الصبية الليتوانين اللطاف جدا من العائلات الراقية ، صبية لهم مستقبل فى الطب أو القانون وذلك من أجل أن  يقعوا فى حبي ، أنا ابنتها ذات السبع عشرة ربيعا .

     تطلعت إلى غرفة معيشتنا الكهرمانية ، الكهرمان فى كل مكان ، تماثيل لأميرات صغيرات ، وصلبان كهرمانية وقطع ضخمة من الكهرمان مربوطة معا مثل خرز مسبحة ، معلقة على الحائط .

     كان يجلس على الأريكة ذات الوسائد المطرزة ، ولم أكن قد رأيته من قبل ، كان من بوسطن ، سميته ” لوسيوس ” بسبب شفتيه الكبيرتين اللتين تشبهان شفتي المهرج ، لقد كرهت شفتيه الكبيرتين .

     وبوسطن بعيدة ، وهذا يعنى أنه سيبقى هنا لنهاية الأسبوع . تطلعت عبر النافذة لأجد سيارته الـ فولكس فاجن.حيث ترقد فى مقعدها الخلفي مستلزمات مبيته الليلي .

    كان لوسيوس يمسك بكوب الشاى ، ويجلس معتدل الظهر ، وجهه إلى الحائط المقابل ، ذلك الحائط المزين بمشاهد من مدينة تراكى مرسومة على لوحات مرصعة بالكهرمان . ربما كان لدى لوسيوس واحدة  من مثل هذه اللوحات فى منزله ببوسطن ، ولعل لديه وسائد أيضا حمراء أو زرقاء مرصعة بنماذج من زهور الزنبق .

     التفت وابتسم ، ثم وضع الكوب والصحن على المنضدة البرتقالية . ذكر اسمي فى لهجة ليتوانية “آجين” وهو اسم قديم ، لقد سميت به نسبة إلى مربية أمى ، وهي امرأة تحب الكلاب .

     بعد ذلك تحدثنا بالإنجليزية ، لقد ولدنا فى أمريكا وصار لنا مجتمعنا الخاص  ، سألته :

  –  ماذا تعمل هنا ؟

  – دعتني أمك للحضور .

    – أعرف ذلك .

   فسألني :

  • أما زلت تسرقين الأشياء ؟

  • أحيانا .

  • لم أستطع أن أصدق ذلك ، عندما قلت لي .

  • بج ديل

  • لم  يسبق لى أن عرفت لصا قط .

  • اشرب شايك .. سأخرج

     فكرت فى تلك الشفاه الكبيرة وهي ترشف من كوبنا ، لن أشرب مطلقا من هذه الكوب مرة أخرى ، ثم  ، فى الأسوأ ، فكرت عندما تلمسني هاتان الشفتان ؛ فكرهته . فى الخارج سحقت بالعصا الزنابق ذات الأزهار البرتقالية ، وتوجهت نحو الطريق العام ، ثم سرت عبر الغابات ، كنت أنوي الذهاب إلى المنزل ذي البنادق المعلقة على الحائط ، ذلك المنزل الذي أمارس فيه الحب .

*   *   *   *

      التقيت ولوسيوس في مهرجان للرقص اللتواني ، كان يلبس خاتماً مدرسياًَ كبيراً بفص أزرق ، زرقته عميقة مثل الوسائد المزخرفة ، ويقف بجوار صالة الرقص بالفندق مع أولاد من بوسطن ، وأولاد بوسطن شقر وأذكياء ، يحملون الكثير من المخدرات ، ويحبون بنات نيويورك وبنات نيويورك يكثرن من المكياج ويدخن السجائر ، فيما عدا أنا ، حيث كنت أجلس في الركن أحدق في الفراغ بسأم ، اقترب لوسيوس مني ، فقلت له :

  • اذهب بعيداً

   وعندما حدق في فستاني القطني الثقيل المربوط من خلف الظهر ، قلت له :

  • إنه مسروق

    استأت لقولي هذا، تخيلت أمي تظهر مثل قديس يحمل نقوداً في يده ، وهى تبتسم فى قلق  .

    ولكن لوسيويس لم يذهب بعيداً ، كان ينتظر أن يخرج معي الليلة ، أخيراً تبعنى إلي حجرتي في الفندق ، وقف في جمود بسترته الزرقاء ذي الرقبة العالية والخاتم الكبير في أصبعه ، شعره مفروق علي ناحية ، كما لو كان قواداً قال “سأصير دكتوراً ” فيما بعد اكتشفت أنني أخطأت عندما أخبرت أمي أنني قابلت دكتورا .

     المجتمع الليتواني مثل لعبة الهاتف ، كل أفراده يعرفون بعضهم بعضاً ، من الوطن القديم ، أرض المطر ، لقب شخص ما فى كليفلاند وأمك أو أبوك سيحفران فى لوحة ذاكرتهما ، ويخرج بلفظة ” أوه ، لقد كنت فى الصف السادس معها أو معه ” عندئذ يأتى التواصل  الاتصال بكليفلاند . لذلك لم تكن مفاجأة أن أرى لوسيوس فى الأريكة ، فالأولاد الذين ظهروا أمامي ، جلبتهم أمي المتلهفة من مكان بعيد ، لكى ألتقي بهم وأتزوج فيما بعد ليتوانيا .

*   *   *   *

     فى غرفة راعي الخيل المظلمة الباردة خلعت ملابسي ، كان أكبر منى بكثير ، أمريكيا بأذرع قوية موشومة ، ذا لحية يرتدي بنطلونا من الجينز ملطخا بالعشب ، كان خبيرا بتقطيع الأشجار ، يمتلك شاحنة وماكينة تقطع الأشجار إلى شرائح ، قابلته أول مرة عندما كان يقوم بتشذيب بلوطتنا الحمراء العملاقة ، سألني أن أبعد الكلب عن طريقه ، وكنت أرتدي ملابس قصيرة تكشف عن ساقي اللتين عضهما البق ، أدركت أنه يحدق فيهما وأنا أسحب الكلب بعيدا ، كذلك وأنا أسير عبر الحقل . لم يحبه أبواى ، قال أبى عنه ” نظراته سيئة ” لم أفهم ذلك . ومنذ أن قام بعمله بشكل جيد مع شجرة البلوط ، وأنا أفكر لماذا كانت نظراته سيئة ! ومع ذلك تجهمت ، ربما لأن شعره كان طويلا ، وعيناه سوداوين . لا تثقى مطلقا فى رجل أسود العينين .

*   *   *   *

      لم نتحدث إلى بعضنا البعض كثيرا ، ليس بيننا فى الواقع شيء مشترك ، منزله مفتوح دائما ، لذلك دخلت ونزعت ملابسي ، ثم وقفت عارية بجوار الحائط ذي البنادق ، عندما عاد من الخلف كان سعيدا لرؤيتى . شرب كوبين من البيرة وخلع قبعة البيسبول ، ثم أغلق عينيه ليقبلنى . مص شفتى . قال :

  • أريد أن أعمل أشياء معك .

وهكذا يكون الرجال الكبار ، يطلبون منك أن تأخذي يدك وتضعينها على مؤخرتهم . وتنحنين وأنت عارية ، يداك على حوض المطبخ ، وساقاك مفتوحتان ، بينما يسقطون ملابسهم الداخلية وهم يمسكون بفخذيك . تأوه وعندئذ شعرت بالقوة . فى هذا المنزل الخالي أشعر بالغربة .أمريكى  كان ثمة رف محمل بالأغذية المحفوظة ، وأباجورة مزينة بصورة لسمك الأخروط ، وتلفزيون وخزانة مليئة بقطع مغناطيسية على شكل ضفادع . تبادلنا القبلات لوقت طويل عند الباب ، حاولت أن أمشي ولكنه جذبني من الخلف ، قبلني أكثر ، أخيرا بينما أغادر المكان قال ما اعتاد قوله دائما ” لا تحبى أبدا رجلا بكبد مريض “.

     قطعت الغابة عائدة إلى منزلى ، لو رآنى والداى سيظنان أننى كنت خارجة هناك لعما اشياء طبيعية – جمع الصخور والعصى وأوراق الشجر .

    وجدت لوسيوس كما هو فى المكان ذاته الذى تركته فيه بالحجرة الأرجوانية ، فقط كوب الشاي هو الذي لم يكن فى مكانه . ولكن بدلا من ذلك كان ثمة طبق من الفطائر ، تحضر أمى دائما للأولاد أطباق الحلوى ، وفيما بعد ياتى الشراب المسكر وقطع البطاطا الملتصقة إلى مائدة العشاء .

     فكرت أن أسأل لوسيوس إذا ما كان يود أن يلعب ، يلعب فى الغابة حيث يمكن اكتشاف كهوف أو شلالات أو صخور مسطحة كبيرة لنجلس عليها . لكننى كنت أعرف أنه غبي،  يداه الكبيرتان اللينتان لا تصلحان إلا للألات الحاسبة والميكرسكوبات .

    وبما أنه جاء ليراني ، كان لابد أن أجلس معه ، واضح أنه كان مهتما بي ، رفع حاجبيه وقال :

  • هل هناك مكان يمكن أن نذهب إليه ! فيلم ؟

  •  هناك العشاء .. إنه دسم جدا مع ذلك .

  • أوه .

  • يجب أن نأخذ عشاءنا حالا .

     هز كتفيه :

  • حسنا .

  • كلبتى مغطاة بالأسمنت .. هل تريد أن تراها ؟

     رفض ، وقال :

  • الكلاب يمكن أن تعض .

     أخذته إلى إحدى غرف الضيوف ، هناك العديد من هذه الغرف ، كل واحدة منها مزودة بأغطية كتانية بيضاء على السرير ومنضدة ومقعد وستائر بيضاء وسجادة بيضاوية الشكل معلقة بجوار السرير . وهناك المعدنيات ، يوجد الكثير منها ، كانت بعض الغرف مثل متاحف العصور الوسطى حيث سترات الدروع مثل تلك التى يرتديها دوق فيوتاتس ، ولوحات من المعدن-  دوق فيوتاتس على ظهر حصان والسيف فى يده ، ومشاهد حرب ، قدت لوسيوس إلى هذا النوع من الغرف.

     واحدة من الغرف الأخرى ، حيث اعتدت أن أتخيل أنني فى الكلية بعيدا بعيدا ، كانت غرفة الفارس ( المبارز ).  المبارزون محاكون من الأوشحة التى تستخدم كاحزمة فى المراسم أو الزينة ، ومشكلة فى نماذج هندسية لأشجار الصنوبر أو النوافذ الصغيرة . فى هذه الغرفة علقت اللوحات فبدت مثل الأشرطة الورقية ، تضم معظم الألوان فى الأرض : الأسمر والأصفر والبرتقالي الغامق والأحمر الدموي والبني .

     أود أن أرقد على أرضية غرفة الفارس ، على البساط المعلق ، مثل الذي فى غرفة الضيوف الأخرى ، وأتخيل نفسي فى الكلية ، ألتقي بالأولاد الذين يحملون مواد الطلاء والفُرش والكنافاه .

*   *   *   *

     هناك وقف لوسيوس بحقيبته الرياضية ، كنت فى غاية الحرج لأن الجميع يعلم أن أمى تستجدي الأولاد من أجلي ، وكنت محرجة أيضا لأننى قبيحة . لا يهم ما يقوله الناس ” أجنيس جميلة جدا ” أنا لا أرى ذلك ، ليس من جمال فى شعري المضفور ووجهي الأسيل الشاحب وعيني الداكنتى الزرقة ، كما لو كانتا قطعة من المحيطات العميقة الباردة .

     مائدة الطعام مغطاة بالمفرش التقليدي من الكتان الرطب المطرز بالنباتات والأوراق . وأمى ترتدي مريلة خبيرة بالطعام – صدرية بيضاء من النوع الفضفاض . قطفت أمى زهور الأضاليا من حديقتها لكى تضعها فى وسط المائدة . بالنسبة لنا كان الخزف الصيني هو الأكثر بهجة . وضعت الشموع فى شمعدان من الكريستال ، طويت الفوط فى شكل مخروطات تحت الصحون كما تعلمت فى الدير ، الذى قضيت فيه معظم إجازات الصيف إلى أن كبرت ، وهذا أول صيف لي فى المنزل لذلك شددت أمي علىً أن أضع كل ما تعلمته هنا ، لدي كتاب ، كتاب ذو غطاء ثقيل أزرق اللون ، يتحدث عن آداب سلوك الفتيات الليتوانيات : ” الفتاة الصغيرة تشرف والديها ، فتكون مؤدبة . تطمح دائما لأن تكون مفيدة فى المنزل . حريصة على الطاعة ، تنظف الحجرات ، تدرك أن منزلا مليئا بالكثير جدا من الزهور يمكن الإنسان من النوم . يجب أن تكون كل الغرف  نظيفة ومرتبة ومزينة فى ذوق عالٍ . النوافذ والأرضيات والحوائط تمسح بالمواد المطهرة . وعندما يصير كل شيء نظيفا ، ينظف الأثاث من التراب ثم يعود إلى مكانه . عندئذ يكون المنزل قد رتب “

     أكلت وأنا أفكر فى راعي الخيل ، فكرت فى تمزيق ملابسي فى غرفة المعيشة تحت الحائط المدجج بالبنادق ، لم أستطع الانتظار . لقد صرت مدمنة ، جلست إلى المنضدة وأنا أنصت إلى نقر الملاعق والشوك الفضية على الأطباق . فكرت لن أحب أبدا هذا النوع من الصبية أو الرجال ذوي الشفاة الكبيرة وخاتم المدرسة الثانوية الضخم ، ذلك الذي يخطط لأن يكون طبيبا .

     انتابني شعور بالقرف من هذا العشاء ، أردت أن أجري إلى غرفتى ، بيد أن كل شيء كان يتحرك فى بطء . كان الحلو تورتة ذات طبقات من البسكويت والمربى والشيكولاته ، قُطعت قطعا صغيرة على شكل إسفين . أكل لوسيوس أربع قطع ، يأكل الأولاد الكبار الكثير من الحلوى أما نحن فلا نتعدى واحدة لا أكثر . حسنا ، اتجهت الابتسامات نحو شفتيه اللامعتين من أثر الشحم ، والمشدودتين مثل سدادتين من الشمع الحار . شعرت بنفسي أنزوي بعيدا ، استطعت بالكاد أن أستمتع بالتورتة . كانت تفوح منه رائحة كولونيا الصنوبر ، أظفاره نظيفة ومشذبة مثل دمية .

     سألته Hمى باللغة الليتوانية  ” هل تود مشاهدة التلفزيون ؟ ولكن لم يكن ذلك سؤال ، لأن المشاهدة كانت مقررة ضمن البرنامج ، قال :

ـ “ناجيريا” أي موافق .

     كان يتحدث الليتوانية بصورة جيدة . أشرق وجه أمي ، ووقفت رافعة يديها مرحبة به فى عالمها المتسع العريض ، المنزل والحديقة والغابة . استراح لوسيوس قليلا ، أخذ أكثر من شريحة من التورتة ، ثم اندمج كلية فى حجرة التلفزيون ، تلك الحجرة المليئة بالسلال اليدوية الصنع .

*    *    *    *

     فى صباح اليوم التالي تعلقت بفرع شجرة التفاح ، كانت السماء تحيط بي من كل جانب ، ظللت هكذا لمدة طويلة ، ثم نزلت . وفى عمق الغابة كان ثمة شلال صغير ، تتساقط مياهه فى بركة واسعة وبجوار هذه البركة عشش بين الصخور الكبيرة المفلطحة سرير من الطحلب عميق وفاخر . أدركت أن أحدا ما يتبعني فى الغابة ، وعندما وصلت إلى بعض الصخور الشديدة الانحدار التفت ورائي ، فرأيت لوسيوس كان يقف كتمثال لرجل أحمق ، يحمل فى يده علبة رش البق . قال :

  • مرحبا .

    رفع يديه ملوحا ، فقلت :

  • لا أريد رشا هنا ، سأقتل أنا كل شيء .

    تساءل معترضا :

  • وماذا عن البراغيث ؟

     تعجبت ، من أين حصل على هذه العلبة ؟ والداي يعرفان أنه من الأفضل شراء هذا النوع من الرش .

  • أي نوع من الأطباء تريد أن تكون إذا كنت لا تحترم الحياة ؟

  • أريد أن أكون طبيبا جيدا .

  • وتعرف أنك فى سن السابعة عشرة .

  • أنا فى الثامنة عشرة .

  • صحيح ؟

  • صحيح ، ما الذي فى هذه الغابة ، على أية حال ؟

     قلت فى نغمة شريرة :

  • انظر حولك .

     بمرور الوقت ، اقترب لوسيوس منى ، كان يرتدي حذاء بدون رباط ، وكنت أود أن يخلعه ويرميه بعيدا عبر الغابة ، سألنى فجاة :

  • أمك أعدت هذا ؟

     إنها تلك الكلمات التى أكرهها ، وسماعها يجعلنى أشعر بالقرف . استأنف يقول :

  • تقول أمك أنك تريدين دخول مدرسة الفنون ، قسم التصميم .

   سألته :

  • هل تريد أن ترى سرير الطحالب ؟

  • ماذا ؟ !

  • سريري الطحلبي .

    ابتسم مفكرا ، إن ذلك يعنى أن اللحظة التى سأنام له فيها قد حانت ، قال عندما وصلنا إلى هناك :

  • جميل .

  وقفت عند حافة الطحالب ، ولكنه تقدم مباشرة نحوها

  • اخلع هذا الحذاء .. لا حذاء فوق الطحالب .

     كان لوسيوس يرتدي جوارب ماركة الأصبع الذهبية ، طوى ثنية البنطلون حتى منتصف الساق ، ووضع علبة الرش فوق الصخرة ، أما أنا فكنت أرتدي أفرولا وتحته تى شيرت أولاد ، وبوتا سويسريا ثقيلا مع جوارب صوفية سميكة .

   قلت له :

  • نم هنا .

  • ألن ألوث بالأعشاب ؟

  • تلويث الطحالب ، تقدم ، هناك مفاجأة !

   قال :

  • حسنا .

   ثم نزع قميصه من البنطلون وجلس على الأرض ، قلت له وأنا أقف عند رأسه :

  • نم هنا

   فقال :

  • إنها مبللة .. إنها مثل الإسفنجة .

  • تقدم

     نام فوق الطحالب ، ذلك السرير الأخضر السميك بعمق عدة بوصات ، فرد ذراعيه حول جانبه ، وجعل راحة يده إلى أعلى مثل المسيح ، أغلق عينيه وابتسم ، ثم انتظر . أخذت حذاءه وعلبة الرش واختفيت لفترة قصيرة ثم عدت ، وجدته جالسا ، نظراته مخدرة قليلا ، فقد جعلته كل من الحرارة والشمس ينام ، تطلع نحوي وهو يحمي عينيه بيده من الشمس ، وقال :

  • اعطنى حذائي

   حدقت فيه وأنا أحمل غصنا من أوراق النرجس ، دون أن أنبس بكلمة .

  • ما الحكاية معك ؟ أين حذائي ؟

    هززت كتفي ، حقا لا أعرف ، أحيانا  أنظر بلا تعبير ، تعلمت أن أفعل ذلك .

   تظن أمي أننا ذاهبان فى نزهة رومانسية ، ولا خوف من ذلك ، فنحن نمتلك هكتارات من الغابات، وبالتأكيد نحن نسير فى أرضنا التى نملك ، وهي من ثم مألوفة وآمنة .

     بينما كنا نواصل نزهتنا ، نزهتنا الميمونة ، كانت أمى تنتظر فى حديقتها لأيام ، على أريكة من خشب الصنوبر بالقرب من حوض السباحة تحت شمسية من الكنافاه ، لابسة نظارتها الشمسية الكبيرة ومديرة ظهرها للغابة ، وبين الحين والآخر ، كانت تستدير وتنظر إلى الخلف كى ترى ابنتها وطبيب المستقبل وهما قادمان يدا بيد .

*    *    *    *

     وفقا لتقاليد العائلة جلسنا جميعا مثل باقة فوق الأريكة لالتقاط صورة وداع رسمية ، أمى مشبكة يديها . الابتسامة تعلو وجه الجميع . كانت لأمى ابتسامة لطيفة أبرزت أسنانها الصغيرة كاملة . أما ابتسامتى أنا، فكانت ابتسامتى خبيثة ، وعيناي نصف مغمضتين. يجلس لوسيوس بجوارى قبل أن يكرهنى ، بدت الصورة أكثر تنافرا ، لقد كان لوسيوس على استعداد للتوقف عن البرنامج مبكرا .

    عند ذلك انتهى كل شيء، أثبتت الصورة أن لوسيوس ابن دكتور معروف فى بوسطن كان هنا. رافقته أمى إلى سيارته ، متوقعة منى أن أتبعها ، حملت باعتذار ملابسه الملطخة بالطحالب فى حقيبة بلاستيكية . لقد أتلفتها بالفعل . ثم كانت مسألة الحذاء ، كل شخص فى بوسطن سوف يسمع عنها ، حيث تنتشر الشائعات وتزدهر .

     بذلت أمى أقصى ما فى وسعها ، عدت إلى الدير ، وهناك وأنا وحيدة فى غرفتى ، وفى سريرى الحديدي ، سمعت فى البدء صوتيا آتيا عبر السقف يقول ” إذا كنت لا تستطيعين الزواج من غني ، فتوقعى أن تصيري أمينة مكتبة ” فى الصباح التالي قبل الإفطار ، جريت عبر الحقول واتجهت إلى حجرة الصلاة فى الكنيسة ، بكيت آملة أن يحترق غصن صدرى أو تنكسر جمجمتى فى صخرة حتى الموت .

*    *    *    *

     بعد عشر سنوات رأيت لوسيوس ، كنت على شركة طيران الفنلندية أنتظر إقلاع الطائرة ، ورأيته عبر الممر إنه لوسيوس برأسه التى مثل عش الغراب . عندئذ استدار عش الغراب ورأيت تلك الشفاه .

     اعتدت أن أمضى شهرا كل صيف فى ليتوانيا ، وخلال هذه الرحلات الجوية ليس غريبا أن ترى الذين تعرفهم من الناس أو من قابلتهم ذات مرة فى حياتك ، كنا فى أغسطس وكان لوسيوس يرتدى سترتة ذات اللون الأصفر الكناري وودت لو أخذت  تلك الوسادة الصغيرة المضغوطة تحت عنقه وخنقته .

     انتظرت حتى أقلعنا، وجاءت المشروبات، عندئذ نهضت وأتيت خلفه ، انحنيت فوقه ، مقتربة من أذنه ، لم أقل شيئا لأنني لم أستطع أن أفكر فيما أقول ، التفت قليلا بوجه محتقن ثم حدق فى وجهى وابتسم . قال :

  • واو!

  • واو ماذا ؟

  • لم أكن أتصور أبدا أننا سنلتقي مرة أخرى .

  • نحن لم نلتق .. نحن فقط على نفس الطائرة .

  • ذاهبة من أجل الزيارة ؟

  • لمدة شهر .

  • أنا ذاهب لحضور مؤتمر .

  • هل أنت الآن دكتور ؟

  • أستاذ فى أمراض الكبد

     عدت إلى مقعدى كي استريح ، حدقت فيه طوال الساعات التالية ، كما يمكنك أن تفعل فى الطائرات . فكرت كيف كان يمكن أن تكون حياتى مختلفة لو كنت  قد تعاونت وتزوجت ممن كان قد تقدم لي ، متوقعة أن لا شيء أكثر لنفسي يجعلنى أفضل من ذلك . لمرة أو اثنتين التفت لوسيوس للخلف متطلعا نحوي،  بينما كنت أواصل التحديق فيه ، فقال فى جملة خاطفة :

  • ” أنت مثل طفل ” .

     كان لوسيوس ممتلئا ، لينا ولكن بجسد قوى ، وعندما خلع السترة رأيت قميصه الأزرق الباهت ، مهندما ومنشيا وشعره الطويل الآن مشدود إلى الخلف على شكل ذيل حصان صغير ، وقد صار لونه الأشقر أكثر قتامة، أو بنيا على وجه التقريب مثل شعر الناس فى جنوب روسيا – أسود بصورة غامضة ، و متدليا فوق الوجوه الكئيبة .

     فى آخر الليل ، بينما كنت أمارس اليوجا فى آخر الطائرة ، سمعت صوتا مدويا من السقف ، يعلو على صوت المحرك ” مشطي شعرك وضعى قليلا من احمر الشفاه ” كان الكتاب الأزرق فوق رأسي كما يحدث أحيانا فى أحلامي : ذلك شعر أشعث ، ساقط فوق العينين ، لم يمشط من عدة أيام ، وسيجعل ذلك الفتاة دائما قبيحة ومنظرها العام مشوها”  نظرت حولى كان الوقت المظلم فى الرحلة ، الأضواء معتمة والمسافرون نائمون . فى مقدمة الطائرة كانت ثمة خريطة سخيفة تظهر الطائرة مثل نقطة متحركة فوق المحيط . شعرت بالفزع وودت لو وجدت شخصا أمسك بيده ، نظرت حولي أبحث عن المضيفة .

     فى الصباح ظهرت الشمس مشرقة وقوية ، ارتفعت فوق البحر ، كانت أمى قد أعدت مظاريف فى كيس ربط حول خصري ، مشدود على جلدي تحت القميص ، كانت معلمة بأسماء أفراد العائلة ، نقود لمساعدتهم فى دفع فواتير تدفئة الشتاء القادم .

     خطر فى بالي ربما كان لوسيوس يحمل مظاريف مشابهة . تساءلت حول ذلك ، وأنا أنظر إلى النقطة على الخريطة ، وفكرت فى صديقي فى منهاتن ، ذلك الفنان الذي يشوه أوراق الدولار  بينما أنظر إلى النقطة وأرى كيف تقترب من الأرض ، فكرت فى سلامة الأرض والأشجار والغابات . ذهبت أفكارى إلى الدير وإلى الراهبات فى أرديتهن الثقيلة يمشين معي ويحدثننى عن أهمية الأشجار ـ أشجار البلوط ـ وكم هي مقدسة ، وأن القسيسين فقط هم الذين يسمح لهم بحرق فروعها .

*    *    *    *

     دخلت الحمام فى مطار هيلسنكى ، بقيت هناك مختفية بحقيبتى ، منتظرة الإقلاع إلى فيلينوس( عاصمة ليتوانيا ) ، كنت أنظر إلى نفسي فى المرآة ، فى ضوء النيون المخيف ، عندما دخل لوسيوس، وقف عند المدخل،على وجهه نوع من الابتسامة ، كما أتخيله يفعل مع المريض . قال

  • “تبدين على ما يرام”

راقبنى كما لو كان يتسلى ، ذراعاه متشابكان،غير جاد ومغر، لقد كنا وحدنا

  • أنا تعبانة .

   قال :

  • سمعت عن تصميماتك .. هل تصممين المرايل ؟

  • ماذا عنها ؟

  • سمعت أنك تعملين جيدا .

    قلت :

  • الجميع يريد المرايل

   هو لا يعرف شيئا، أضفت :

  • من الأفضل أن تغلق الباب .

   تقدم إلى الداخل ، تاركا الباب يتحرك ثم ينغلق ، عندئذ اتكأ عليه بظهره .

*    *    *    *

     داخل الكتاب الأزرق أقسام عن تمييز الفطر السام ، وسلق البطاطس وعد حبات المسبحة وربط العقد وعمل مقدمات عادية ، ولكن ليس به شيء عن الجنس . والكتاب فى معظمه كان مركزا على الاهتمام بالكارثة – مراعاة النظام .  لف الرباط لمنع النزيف، والإبقاء على الحياة فى الغابة المليئة بالوحوش الطائشة .

     فجأة تذكرت أننى أريد أن أقبل لوسيوس، أقبله بالطريقة التى قبلت بها الراعى . تقدمت منه خطوة ، وعندئذ رفعت قميصى قليلا وأريته حقيبة سفرى. قال :

  • مسلحة .. هه ؟

     في الواقع بدا طبيعياً بقميصه المحلول وملابسه الداخلية المفكوكة ، وعندما نظرت إلي أسفل اكتشفت أنه يرتدي حذاءً جديداً للمشي ، ضبطني استرق النظر ، قال :

   –  لعلنا نستطيع أن نمشي حول (تراكى)، أو ربما نلتقي علي العشاء.

    فجأة شعرت بالألم . وتساءلت بيني وبين نفسي إذا ما كانت أمي قد رتبت لنا أن نطير معاً أنا ولوسيوس علي نفس الرحلة . وودت أن أكف عن التفكير فى ذلك .لا أعرف ماذا أقول ؟ لكن فى هذه اللحظة دخلت امرأة الحمام وعندئذ أشارت إلي لوسيوس قائلة :

  –  أنت .. اخرج                                                                                   

   انتباتني مشاعر غريبة مزيج من الاهتمام والفضول معاً بعد أن ترك لوسيوس الحمام.هذه الأشياء التي حدثت كان يمكن أن تكون كلها مختلفة لو أن أمي كانت بعيدة عنها .

*   *   *   *

     خلال الرحلة القصيرة فوق البطليق لم أستطع رؤية لوسيوس ، لقد نمت وعندما هبطننا ، كان هناك مائة شخص تقريباً من الأقارب، أحاطوا بي حاملين زهور الحدائق والأكاليل والشموع ، التقطوا صوراً لي وأنا معهم ، أما لوسيوس فقد كان خارج المشهد ، لقد اختفي .

     أخذت قارباً للإبحار في نهر نيموناس. كانت هناك دبابات الجيش علي طول الشاطئ ، لقد ظل السوفييت هنا على الرغم من تحرر الوطن الاَن ، كانت الدبابات مصوبة مدافعها نحو قاربنا ، ووراءها كانت القلاع والمروج الخضراء ، على قدر عمق خضرة سريري الطحلبي عند ذلك فكرت في لوسيوس وودت لو رأيته مجدداً ، لم أكن أريد لحوارنا الأخير أن يكون في التواليت ، سمعت صوتاً مدوياً ” أجنبي ، نيجرازو ” ( أنت لست لطيفة ) كانت الرسالة في الكتاب الأزرق واضحةً ؛ “الحب والجمال يساعدانك علي البقاء “.

     هبت الريح فأمسكت بيدى القبعة إلي أسفل ، علي الشاطئ ، هنا وهناك ثمة غرباء يلوحون لنا ، تمنيت أن أري لوسيوس بينهم في سترته الكنارية اللون، لكننا تحركنا سريعاً نحو الجنوب رأساً إلى البحر. وعندما رسا القارب بالقرب من ميناء ( التل الساحر ) أمسك بي أحد أقاربي قائلاً ( تيكرا ماما ) أي هي مثل أمها .. كنت أتحرك مثل نجمة هيوليودية ، أمسك بباقات من الورد الأحمر الناعم . أخذوني إلى قبور الأسلاف القابعة بين أشجار البلوط العجوز جداً ، تخيلت لوسيوس علي طريق مماثل ، يمسك شمعة بيضاء مضاءة من أجل شخص ما لا يمكن نسيانه

                                  *  *  *  *

     عندما عدت إلي صديقي في مانهاتن ، وجدته مشغولا بتخطيط صلبان فوق وجه جورج واشنطون ، حدثته عن لوسيوس وكيف أن أمي ربما رتبت لنا اللقاء ثانياً ، استمع لي ثم توقف قائلا :

  • إذا كان يكرهك كثيراً هكذا ، لماذا إذن رحل معك علي الطائرة ؟

     عدت إلي عملي وهو تصميم سترات النجاة ذات الجيوب العميقة ، من أجل حمل البطاريات الضوئية وزجاجات المياه والسكاكين. وكنت أعرف الإجابة .

ترجمة دكتور : محمد عبد الحليم غنيم

5/4/2007 م

نبذه عن المؤلفة :                                  D.S.Sulaitis

     دي . إس سوليتس : حاصلة علي زمالة في القص من مؤسسة الفنون في نيونيورك . نشرت قصصها في مجلات أدبية متعددة ، مثل العروس الملونة painted brid quartery) ) والفصلية The Quarterly  وأخبار نيويورك (New York Story ) وهي الآن تعيش في مدينة نيويورك حيث تعمل الاًن علي الإنتهاء من كتابة رواية ومجموعة من القصص القصير     

شاهد أيضاً

كأس وظلال

(ثقافات) كأس وظلال عبد القادر بوطالب تلك الظلال التي طوت تفاصيل أجفاني سارت خلفي ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *