الشَّجَرةُ المُحَرَّمَةُ

خاص- ثقافات

*محيي الدين كانون

يُحكى في قديمِ الزَّمان، أَنَّه ذاتَ مرةٍ، عنْدمَا طَفَحَ القَمرُ مستوياً على بحْر السّماءِ وغمسَتْ الظُّلْمَةُ عيونَها في الأشْياءِ، وأَينعَ نورٌ اجتمعَ في ظِلّهِ كُلُّ مِنْ ( غُريز ) و    ( جُميع ) و ( عُقيل )، وأخذَ الحديثُ بيْنهم يَلّمُ شعْتَه، ويطوفُ حولَ رّوابي خضْراءَ تَطِلُّ على جَنّةٍ حواءَ، وحدثَ أنْ كانتْ هذه الجنّةُ مرفهةً ببساتينِ حوْلَ ممْراتِها، وفي كُلّ صفّ مطرزُ بتماثيلِ منصوبةِ، في غاية الجمالِ مرصوفةُ، وحدثَ أنْ كانتْ أنْهارٌ منْ المَاءِ الأجّاجِ الناصعِ البياضِ،  تحْضنُ أقواسَها البَهيّةِ  في انسياب عند المداخل  الواسعةِ من الجنّة  فيخترق  الماءُ  مساماتِ  تُرْبتِها اللّينةِ وتنْتشي العَصافير بِتباشيرِ قُدُومِها، وتهللُّ الأرضُ بما تمْنحُه ُمن نبْتٍ  زهيّ للعيْنِ، وزهْرٍ فوَّاحٍ يسْتجْدي الأنوفَ تحتَ  وداعةِ الجَنَّةِ بمْلءِ  ضَخْكتِها.

   لا يملك الحِسَ الدقيقِ أَمام مرْآة الجنَّة إلاَّ الرقصَ جذلان، فتتشخّص العُيُون بسحْرِ حبلْها السِّري، وينتفضُ النَّهْر العَظيمِ عِنْدَ مدْخل محْدُود، وتنْفذُ أَمْواجُه في جُنونٍ، حندئذٍ يتدخّلُ ( غُريز ) بقوةِ الحَياةِ، ويقْتربُ بعيْنين نجلاويْن واسعتيْن نهمتيْن، يحاولُ أنْ يخْمدُ فِيهما العشْقَ الدفين، فلا يمْلكُ إلاَّ أنْ يبرقَ منْهما لمعانُ التحفُّزِ والُّنزوعِ إلى القْنص بعدَ أنْ تعرَّضَ كيانَه القوي لغمْزِ مِهمَازِ الرَّغْبةِ القاهرِ ؛ فيبدأ نُطْقِ الحَديثِ بلسانِ الحَالِ : << ما أَحلْى مَذاقُ التُفاَّحِ في جِنَانِ حَواءِ….. هلاَّ نذْهبُ نحُومُ حوْلَ سُور حديقتِها نترقَّبُ الحَدثَّ البهيجِ والمنظرَ البديعِ، ورُبَّما نقْطف تُفاّحةً أو تفاحتين يانعتين أو متدليتين كشَمس أو شمْسين داخَ القمرُ في بيْنهما… >>.

   أحسَّ ( جُميع ) بالخوْف  وأومأ إلى  شَبق  ( غُريز ) أَنْ يقفَ، ويلْزِمُ حدُودَه  ولا يُبارحُ المكانَ، فليْس مِن حَقّ الرّغْبة مهْما تزيّنتْ، وتعطّرت وتجَمّلت أنْ تسْعَى إلى عالمٍ الفتْنةِ لأنَّ أسوارَ الحديقةِ عاليةُ، وتسْكنُ ورائها حواءَ مُخيفةٌ ذاتَ سوالفٍ طويلةٍ من الكُسْتُنائي، تعْقلُ بهِا كلَّ مَنْ هَمَّ إلى قُربها  لِمُجرّدِ  القَنْصِّ، لها وجْه  يَشعُّ حُمْرةً  النبيدذ ممزوج  ببياض  كالمرمر في بياضه، يغار منهما الياسمين والأُرْجُوان، يطفرُ منْه عينانُ نجْمتان تسْبحان في مُلك الكستنائي والثَّلْج، وتُسْحران منْ كُنُوز التعْبير كلَّ مَنْ حَاولَ الاقْتراب، فيتأذْى المسْحور بهاتين العينين إلى صَريعِ الهَوى، ويتحوّلُ للتوْ إلى تِمْثال منصوبٍ على حوافِ بساتين الجَنّة.

    لكن ( غُريز ) لم يرتدعْ لهذا النّمطِ منْ الكَلامِ، وكيْفَ لهُ أن يرتدعْ، وهو لا يسْمعه  ثم أنّهُ لا يفْقهُه، وصمّمَ على القِطافِ في مواسمِ الينَاعةِ الضاحكةِ، وكانتْ عيْناه تزأر، ولا تأبى لخوْفِ ( جُميع ) من اقتحام عُباب التُفّاحِ في جِنان الرّاحِ، بل غرقَ في دياجير فتنةٍ آتيةِ، وتحفّزَ إلى لسَعَاتِ اللُقيّا، وكانَ واثِقاً، وعنْدمَا اقتَربَ بوجّه يعْلوه النوّار وبعينينِ تومضان بالرّغْبةِ الواثقةِ المسْكونةِ، طلبَ منْ ( عُقيل ) الرُّفْقةَ إلى جِنانِ حَواءَ ليزيحَ أثراً من مخاوفِ ( جُميع ) ظلّتْ تحومُ في رأسِه طنيناً، فلم يمانعْ ( عُقيل ) مِنْ الصُّحْبةِ، فهو يُحبُّ الرُّفْقةَ إلى الجَنّةِ ليَعُبَّ مِنْ معاني الرَّغْبةِ، إلاّ أنّه اشْترط على ( غُريز ) ألاّ يسْتعْجلُ  قطْف التُفاح الممنوحِ في مواسمِ الاشْراق، ويكْتفي ببهجةِ النّظَر  وأريج الزّهْر وجمالِ الطلْعةِ وروْعةِ العصافير، ويتأكدَ بالحِكْمة والفِطْنة واللمّعة من حِكاية العاشقِ الذي تحَوّل إلى حَجْرٍ مرصوصٍ ينْطقُ بالصورةِ الجامدةِ في أحَدِ بساتين حَواءِ.

    تفكّر ( غُريز ) لحظةً في نباهةِ ( عُقيل )، لكنَّهُ أخذَ يعبُّ بعينيهِ من الغِوَايةِ  القادمةِ حتَّى أحسَّ بطيْفٍ منْ جُوعِ حارقٍ يلْهَبُ نِيّاطَ قلْبِه إلى قَضْمَةٍ من طَرَاوةِ تفاحةٍ مُتدلية كأنَّها القَمَرُ الأحْمرُ، وعِنْدما اقتربَ بهمْهمْةِ الغريزةِ إلى نسيج أُرْجِوانِها الفتّان، وذَاقَ مِنْ عَسْلِ يناعتها  أَحسَّ بِدُوَّارِ بنفْسَجِي يدبُّ في رأسهِ ونَمْنمْةٍ في أطْرافِه، على أثْرِها انْفرجَتْ أسَاريرُ وجهِة بالنُّورِ، وأحاطتْ مسْكنةُ بقلْبِه ؛ بيْنما انخلعَ قلْبُ ( جُميع ) حتى تمزّقَ  وثاَبَ ( عُقيل ) إلى ذاتِ نفْسه، واكْتشَفَ في إِشارةٍ : أنّ كلَّ شىء لا يُسْتعْصَي على أفانينِ إِرادة الحَياة، مَهْما انّصبْت من عوائقٍ في مَجَالها الحَيْوي، وأقرَّ في نبَاهةٍ  لامعةٍ… : أنّهُ مهما تكَدّسَ العَماءُ وصار ظُلّمةً حالكةً، فإِنّ نورَ الفهمِ قادرُ أنْ يخْترقَ كلَّ سِجافٍ رقيقٍ.

  *  أديب  من ليبيا

شاهد أيضاً

قصة “الظل” لإدغار آلان بو

(ثقافات) قصة الظل[1]. إدغار آلان بو ترجمة: عبد القادر  بوطالب                أنت الذي تقرأ ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *