أدب الرحلات ..تبادل المعرفة مع الآخر

*د. مجيب ناهي النجم

نجد مصدر رحلات في المعاجم العربية في رَحَلَ ورَحلاً ورَحِيلاً وتَرحَالاً، ومفردها رحلة. فالرحلة مشتقة من الارتحال وتعني الانتقال من مكان لآخر لتحقيق هدف معين مادياً كان أو معنوياً. فالرحلة إذن فن يصور فيه الرحال ما جرى له من أحداث وما وافقه من أمور أثناء رحلته. والرحلات حقيقة ظاهرة عالمية متصلة بتاريخ الإنسان، حيث ذكرت في الكتب السماوية كما في رحلة نبينا إبراهيم وزوجته هاجر وابنهما إسماعيل (عليهم السلام) لوادي مكة، ورحلة نبينا موسى (عليه السلام) إلى أرض مدين، وهجرة نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى يثرب.

وذكرت أيضاً في الآثار القديمة كالبعثة التجارية التي أرسلتها الملكة المصرية حتشبسوت إلى أرض بونت (شبه جزيرة الصومال) في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، لجلب البخور والأخشاب والأبنوس والعاج والجلود والحيوانات المفترسة والأحجار الكريمة.

لقد عُرف العرب قبل الإسلام بالتنقل والترحال في أنحاء الجزيرة بسبب بيئتهم الصحراوية، فاستخدموا الرحلات من أجل الماء والكلأ والتجارة والحج في المقام الأول. وكانت مكة المكرمة محطاً للقوافل والشعراء والخطباء والحجاج، حيث موطن قريش، ولما لها من إجلال عند العرب، وفيها الكعبة المشرفة التي يفد إليها الحجاج من جميع الآفاق، وتضم أيضاً أشهر أسواق الجزيرة، كسوق عُكاظ. لذا كان العرب يرحلون سنوياً إلى مكة المكرمة لشؤون عشائرية ودينية وتجارية وقضائية وأدبية. فالرحلات هي أحد الحقول الموروثة في الثقافة العربية منذ عصور ما قبل الإسلام.

وقد وردت الرحلة بلفظها الصريح في القرآن الكريم في سورة قريش، حيث اعتادت قوافل مكة أن ترحل للكسب والتجارة في العام مرتين: صيفاً إلى الشام، وشتاءً إلى اليمن. فكانت قوافلهم في الجاهلية تنقل المتاجر من جنوب الجزيرة إلى بادية الشام عبر مكة المكرمة وبالعكس. وقد تكون تجارة مكة بالذات انكمشت كثيراً بعد أن ساد الإسلام في جزيرة العرب والهلال الخصيب، ولكن الفتوحات الإسلامية أدت إلى امتداد سلطة الدولة في داخل آسيا وإفريقيا. ويقيناً أن الإسلام حث على الرحلة لمعرفة خلق الأرض (كتاب الله المنظور)، وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تحض على السفر والترحال كما في قوله تعالى: «قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (العنكبوت: 20).

وباستقرار الدولة العربية الإسلامية، رحل المقاتلون والولاة والسفراء والقضاة والعلماء وسعاة البريد والرحالة والحجاج والتجار والطلاب والمهرة والخدم إلى أرض الإسلام الفسيحة، مما أصبح الارتحال أشبه بالضرورة اللازمة لأغراض الجهاد والإدارة والسفارة والمراسلات والتعليم والتجارة والحج والمعرفة والطواف والعمل. وهكذا كانت الرحلة عنصراً أساسياً في حياة المجتمع، حيث اعتاد أفراده السفر لمسافات طويلة وتحمل المشقات من أجل نشر الإسلام وتعليم مبادئه وكتابه؛ وإدارة الأمصار؛ وتوطيد العلاقات السياسية؛ وجمع الخراج (ضريبة الأرض) والجزية؛ وتأدية فريضة الحج والعمرة؛ ومزاولة التجارة؛ وطلب العلم؛ واحتراف السفر؛ ونقل الرسائل؛ والبحث عن عمل. وفعلا تشجع المسلمون للقيام بشتى الرحلات بسبب اتساع رقعة الدولة من الصين والهند شرقاً وحتى الأندلس (شبه جزيرة ايبيريا) غرباً، ومن آسيا الوسطى وجنوب أوروبا شمالاً إلى غرب وشرق إفريقيا جنوباً.

فالدولة لم تكن مجرد متسعات من الأقاليم الجديدة في آسيا وإفريقيا وأوروبا، بل تمكنت أيضاً من ربط القارات الثلاث بمراكز حضرية من خلال تأمين سلامة طرق الاتصال والتجارة . حتى بعد اضطراب الحياة السياسية في شرق الدولة وغربها، فقد بقيت الشعوب آنذاك في صلة ووئام نتيجة انتشار اللغة العربية والثقافة الإسلامية.

وعموماً كان الباعث الأول لتلك الرحلات دينياً هو أداء فريضة الحج وزيارة الأماكن المقدسة في المدينة المنورة، فضلاً عن الرغبة في اكتساب العلوم الدينية من منبعها الرئيسي في الحجاز. وبالرغم من ذلك، فقد جاءت الأسفار ببيانات مستفيضة عن الشعوب والبلاد، ما جعلت قراءتها غنية وممتعة ومسلية. فللرحلات إرث ضخم من المعطيات في الثقافة العربية التي تتضمن دليلاً للبلدان والطرق والمسالك؛ وسرداً تاريخياً للحكام والولاة والحياة السياسية؛ وتفاعلاً مع مجتمعات متعددة العقائد والثقافات؛ وفهرساً في الاعلام؛ وشرحاً لنظم الأقوام وتقاليدهم؛ ووصفاً للمدن ومرافقها ومعجماً جغرافياً للأماكن؛ وعرضاً للبيئات ومواردها؛ وسجلاً للنقود والأدوات والأسلحة والعطور والحلي وغيرها؛ ومصوراً لمواقع الأقاليم والمدن؛ والغرس الأهم في ثقافة التواصل والتلاؤم مع الآخرين.
وهكذا تمنحنا الرحلات تراثاً متنوعاً في علوم الجغرافية والتاريخ والاجتماع والاقتصاد والسياسة والسكان والأديان واللغات والمعاجم والخرائط والمقاييس والتجارة والنقل، إلى جانب تراثها الجوهري في الأدب ويعرف بأدب الرحلات أو السفرنامة.

________
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *