دراسة لرواية “عشاق وفونوغراف وأزمنة” (1)

*حميد  الحريزي

(رواية  ((عشاق وفونغراف وأزمنة)) بانوراما ملحمية، تبهر الأبصار، وتشنف الآذان،  وتغني العقل، بالصورة، والصوت، والكلمة الرائعة،رواية حيكت بخيوط من حرير،  تضمخت حروفها بعطر البنفسج، ودموع المقهورين، أنارت كهوف الماضي، واشرعت  نوافذ توقعات المستقبل، وهي تحكي تاريخ طبقة كتب عليها أن تبقى معوقة،  متعبة، مصادرة الخيارات،

 مخنوقة الأحلام والآمال، عبر قرون من الزمان، ولم تزل، إنها شهادة على مثال وشهد شاهد من أهلها، حيث أظهرت الكاتبة ما هو مظلم وفاسد ومخزٍ، و ماهو مشرق ومشرف ونبيل في تاريخ هذه الطبقة …)
((العراق بيت الأحزان من أور حتى الباب الشرقي، ومن أوروك حتى انتهاء الصبر …))ص67

لطفية الدليمي

مقدمة:-
ماهي الطبقة المتوسطة؟؟؟
رواية ((عشاق وفونوغراف وأزمنة))للروائية العراقية المبدعة لطفية الدليمي، الصادرة عن ((دار المدى)) الطبعة الأولى في 2016 في 582 صفحة، من الروايات المميزة والتي تسجل تاريخ الطبقة الوسطى العراقية، في زمن الاستعمار والهيمنة التركية، وفي زمن الاستعمار الانكليزي وقيام الدولة العراقية في عهدها الملكي حتى زمننا الحالي بعد انهيار الديكتاتورية على يد أمريكا وحلفائها، وقيام الدولة العراقية ((الديمقراطية)) الحالية، مع ملاحظة عدم توقف الكاتبة إلا لماما على فترة ما بعد سقوط الملكية بعد ثورة 14 تموز 1958، وانقلاب 1963، وحكم الأخوين، ثم انقلاب 17-30 تموز 1968، وحرب الثماني سنوات مع إيران، وحرب الخليج، وفترة الحصار المر …ربما هي لم تشأ أن تكرر ما تناولته في روايات سابقة مثل رواية ((سيدات زحل))، وحصرت اهتمامها في هذه الرواية بفترات الحكم الاستعماري المباشر الظاهر والمستتر …
تستعرض الكاتبة تحولات وسلوكية هذه الطبقة عبر متابعة تفاصيل حياة وسلوكيات وتبدلات وطبيعة عيش أسرة ((إسماعيل الكتبخاني))، وعائلة ((نجدت الخيامي))
تبدأ الرواية بعبارة ((المستعد للشيء تكفيه اضعف أسبابه)) لابن سينا،هذه العبارة التي ترددها كثيرا ((نهى جابر فؤاد صبحي إسماعيل بك الكتبخاني))والدالة إلى كون هذه الطبقة تحمل في بنيتها الاستعداد للتطويع والتشويه والضعف وعدم قدرتها على المقاومة …
((نهى)) العراقية المولودة في بغداد عام 1980 عام اشتعال الحرب بين العراق وإيران، وتقوم بتدريس  اللغة العربية في مدينة ((غرينوبل)) الفرنسية المهاجرة إليها هربا من بغداد بعد تعرضها لمحاولة اختطاف في زمن الدولة ((الديمقراطية)) بعد انهيار الديكتاتورية في 2003.والتي تضطر للعودة إلى بغداد، استجابة لدعوة شقيقها ((وليد)) نتيجة لتردي حالة والدها((جابر)) الصحية وطلبه رؤيتها قبل أن يموت، هذا الوالد الذي غالبا ما يفاجئها بالهدايا فهي ابنته الأثيرة إلى قلبه، وهكذا فعل حيث فاجأها بهدية لا تخطر لها على بال إلا وهي عبارة عن صندوق، يضم العديد من الأوراق والملفات التي سجلت حياته وحياة أجداده من عائلة((الكتبخاني))، بالاضافة إلى ((فونوغراف)) وأقراص خاصة مسجلة فيها اعترافات ومذكرات عددٍ من أفراد العائلة، يطلب منها دراسة محتويات الصندوقين وفك رموز المذكرات، وتحويلها إلى كتاب يروي حياة الأسرة … فكان له ذلك حيث اعتكفت ((نهى)) على قراءة المذكرات ما ظهر منها وما استتر عبر تظهيره على لوح من زجاج شفاف، إشارةإلى الأمانة والدقة والشفافية في النقل، لتدونه على جهاز الحاسوب ومن ثم نقله إلى الورق وتقديمه لوالدها، الذي يغادر الحياة قبل إكمال قراءة كل المذكرات والاستماع إلى التسجيلات على أقراص((الفونوغراف))، فمات محسورا وهو لا يعرف سر اختفاء جدته وزوج جده ((صبحي)) ((بنفشة خاتون))، بعد أن علمت انها متزوجة من أخ إبنها، حيث كانت جارية مملوكة لـ((إسماعيل بيك)) أولدها ولدها بهجت، الذي أخذه منها حين ولادته واسند تربيته لمربية خاصة، ثم أهداها لـ ((نامق باشا)) مقابل احتكاره تجارة الشاي في بغداد …
تاريخ طبقة موءودة، تاريخ طبقة مخصية
((كان نشطا في مجال حقوق الإنسان في التسعينات، فاعتقلته السلطة ولم يكتفوا بتعذيبه بل اخصوه مع آخرين كانوا يعملون معه)) ص236.
هكذا كان مصير ((حازم)) احد نماذج الطبقة الوسطى العراقية، الناشط المدني والساعي من اجل قيام دولة مدنية ديمقراطية حديثة زوج ((حياة البابلي))، – أحد الشخصيات المحورية في رواية ((سيدات زحل)) للكاتبة لطفية الدليمي -، هذا المدني ((الحازم)) العامل من اجل حياة أفضل لطبقته ولشعبه ولوطنه، وإذا علمنا ان الطبقة الوسطى هي الرافعة الأكثر فعالية وتأثيرا في الحراك الاجتماعي والاقتصادي في أي مجتمع من المجتمعات تتعرض للاخصاء، فماذا سيكون مصير وواقع حال هذا الشعب وهذا الوطن؟؟؟
ومن خلال دلالة تسميتها بالوسطى، فهي تحتل مرتبة بين طبقتين، الطبقة البرجوازية وطبقة الكادحين من عمال وفلاحين من شغيلة الفكر واليد، وبذلك تكون قوتها وقوة تأثيرها مرهونتين بقوة وهيمنة الطبقتين أعلاه، الطبقة البرجوازية، ونقيضها الطبقة العاملة، فبقدر ما تكون هناك برجوازية وطنية منتجة تكون هناك طبقة عاملة تقاس قوتها العددية والفكرية بقوة الطبقة النقيض، فالطبقة الوسطى هي حاملة فكر التطور والتقدم والحضارة، وهي المصباح المشع باتجاه الطبقتين النقيضين خلال الصراع الطبقي الدائر بين الطبقتين النقيصتين، غالبا ما تأكل من جرفيها ليكونا الأقرب إلى حالة التوافق والأمان والتقدم إلى حين قيام التوازن الاجتماعي العام عبر تلاشي الفوارق الطبقية، إن لم نقل زوالها، هذا هو التاريخ، تاريخ الحراك والصراع الطبقي طوال تاريخ البشرية، وهو حقيقة ما يجري امامنا في عالم السابق والحاضر، رغم محاولات توصيفه بتوصيفات أخرى لا تمت للواقع ولا لجوهر الصراع بصلة، سوى عمليات التمويه والتضليل بمختلف المضللات الدينية والطائفية والعرقية …
فلو تتبعنا تاريخ الطبقة الوسطى في العراق كجزء من الإمبراطورية الإسلامية بمختلف مسمياتها، نرى انه مرتبط ببواكير وعي وحراك الطبقة البرجوازية الناشئة وبالتالي حراك الطبقة الوسطى في الدولة العباسية، حيث تطلب اتساع وتطور الخلافة ضرورة تطور وسائل وأدوات وتلبية حاجات الإمبراطورية، ما تطلب تشجيعها عملية الترجمة والتصنيع والنشاط الحرفي والفني والثقافي، فظهر آنذاك فكر المعتزلة وإخوان الصفا ومن هم بشاكلتهم، والذين حكموا العقل كوسيلة للفهم والحكم، وبذلك حاولت ان تجد لها مكانا في سدة الحكم أو على الأقل ترشيده وعقلتنه بعيدا عن تمثل الخوارق والاستناد للخرافة والغيب، وقد تبناها المأمون آنذاك ومن بعده ولده، ولكن بعد حين ظهرت استحالة الاحتكام للعقل في اختيار الحاكم الذي يحكم بالوراثة ووصية الأب للابن، مما تطلب قمع هذه الحركة، والقضاء عليها تحت مختلف الذرائع ومنها الهرطقة والزندقة، والتاريخ يشهد قتل وحرق والتمثيل بكل ينابيع مثل هذا الفكر، ولنا في الحلاج وابن المقفع وغيرهما من الفلاسفة والمفكرين الذين لاقوا شتى ضروب القتل والسجن والتشريد، وبالمقابل أيضا كان هناك المصير المأساوي لمختلف الحركات الثورية المناهضة لخلافة المستبد باسم الإسلام ولنا في البابكية والخرمية وحركة القرامطة وثورة الزنج دليلا على هذا الحراك … هذا الحراك الذي حسم اغلبه لصالح السلطة الحاكمة والارستقراطية الإقطاعية الحاكمة بأمر الله على حساب الطبقة البرجوازية التي تحاول النهوض، ومن أهم أسباب هذه الإخفاقات للحركات الفكرية البرجوازية الناشئة والطبقة المتوسطة كون الدولة دولة ريعية تعتمد على واردات الخراج والجزية في جمع مواردها وتسيير أمورالإمبراطورية، ولا تعتمد على أموال دافع الضرائب البرجوازي المنتج، مما اضعف قوة ونفوذ الجانب المنتج في الزراعة والصناعة وعدم تطورها، فكان الحكام يشترون مبايعة ودعم ورضى الإقطاعيين والوجهاء وكبار التجار بمنحهم المزيد من الأراضي الأميرية مقابل ثمن بخس..
((توزيع الأراضي من قبل العثمانيين على الوجهاء والاقطاعيين المساندين للسلطة العثمانية، بعشرة قروش للدونم)) ص356.
والمفارقة الكبرى ان يدعي هؤلاء وأحفادهم ان الأرض ملكهم وقد ورثوها من آبائهم وأجدادهم، وقد قاوموا وبعنف وبدعم من قبل بعض حلفائهم في السلطة الدينية على مقاومة كل محاولة لإحقاق الحق وتمليك الأرض لمن يزرعها، وإعادة الحق إلى نصابه، ورفع يد مرتزقة السلطات الاستعمارية الظالمة عن هذه الأرض وهي ملكية لكل العراقيين، منذ دخول الجيش الإسلامي للعراق عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، وعدم تمليكها أو منحها لأحد.
، وليس كما حدث في الغرب الرأسمالي خلال حقبة التنوير والثورة الصناعية في البلدان الأوربية والتي رافقتها البروستانتية والاحتكام للعقل وإضعاف دور الكنيسة والبابا وبالتالي إضعاف الإقطاع وحكم النبلاء لصالح البرجوازية والطبقة المتوسطة الناهضة … ففي الوقت الذي البس الصراع على السلطة وكرسي الحكم في العالم الإسلامي ومركزه لفترة طويلة بغداد لباس صراع بين أولويات حكم لعوائل وأفخاذ من قريش التي احتكرت لنفسها حق حكم الأمة الإسلامية بعد الرسول القرشي، فكان الصراع بين العلويين والامويين والعباسيين وتوابعهم لعدة قرون من الزمان وهم أفخاذ وبطون من نفس القبيلة نعني قبيلة قريش، لغاية سقوط إمبراطورية آل عثمان على يد الاستعمار الانكليزي، في حين كان الصراع في دول أوربا هو بين طبقات اجتماعية متناقضة، وخصوصا بين الطبقة الإقطاعية والبرجوازية وحلفائها من العمال والكادحين، ومن ثم بين الطبقة البرجوازية وطبقة العمال وأنصارها، ولحين التاريخ،بعد إن نبذت هذه الشعوب الصراعات الطائفية، كالصراع بين الكاثوليك والبروتستانت، أو بين مختلف الطوائف المسيحية الأخرى، فأصبح الصراع صراعا طبقيا واضح المعالم لا غبار عليه، ضمن كل هذا الصراع كان ومازال للطبقة الوسطى وليدة الحراك ومتطلباته في الغرب دورا فاعلا في السير نحو التطور والتقدم والحضارة، على الضد من الطبقة المتوسطة في عالمنا الإسلامي ومنها العراق فالطبقة الوسطى من الكتاب والشعراء والحرفيين وما شاكلهم فهي طبقة مصنعة وتابعة للطبقة الحاكمة، وبذلك اتسمت بالذيلية والانتهازية والتبعية في مختلف العصور والتحولات لحين التاريخ …وهذا العجز الموضوعي ناتج عن ضعف إن لم نقل عدم وجود طبقة برجوازية وطنية منتجة ونقيضها، وبالتالي ضعف وسيطهما …
بعد هذه المقدمة العامة حول الطبقة المتوسطة وتحولاتها وحالات قوتها وضعها ضمن الحراك الاجتماعي، نعود إلى روايتنا ولنتابع الطبقة المتوسطة في العراق خلال الهيمنة العثمانية وما بعدها عبر متابعة عائلتي ((الكتبخاني)) و ((الخيامي)).
فإسماعيل الكتبخاني تاجر وإقطاعي كبير، متزمت ومحافظ جدا في سلوكه وتعامله داخل الأسرة ومع عموم من له صلة به ماعدا ما يمثل الباشاوات والسلاطين الممسكين بالحكم، فهو يظهر كخادم ذليل يريد أن يحظى برضاهم، للحصول على المناصب والمكاسب له ولأسرته التي كانت تعد من العوائل المتعلمة حسب قياسات زمنها ومن هنا أتت تسميتها بعائلة ((الكتبخاني))، وبالخصوص الذكور من أسرته ومنهم الولد ((نشأت))، هذا الذي كان متوافقا ومنسجما مع والده من حيث السلوك والتفكير العام حيث انشغاله بالتجارة واللهو ومعاشرة النساء حتى انه أقدم على اغتصاب الخادمة ((نمنم))، والتنكر لها هي وولدها ((حمدي)) الذي نسب إلى خادمهم وأجيرهم ((رجب)) بقوة السوط والتهديد بالطرد … فهذا الـ ((إسماعيل)) لم يتوجه توجها إنتاجيا سواء بإنشاء مصنع أو معمل منتج بل توجه نحو العمل الاستهلاكي عبر الاستيراد للمواد الاستهلاكية، وهو وصف لحال البرجوازية الطفيلية التجارية التابعة لأسيادها، وصاحب القول المعروف عنه ((المصالح تقتضي أن تكون كل يوم بلون، وكل يوم بصورة)) ص424.
وهكذا كان فبعد أن يئس من استعادة السلطة على بغداد من قبل الأتراك، اخذ يتودد ويتردد على الأسياد الجدد من الجنرالات الانكليز، فبدل زيه العثماني ليرتدي الزى الإفرنجي وليحظى برضا وصداقة الجنرال مود ومن ثم الجنرال وليم مارشال حيث:-
((عين إسماعيل بك مستشارا للأمور التجارية في إدارة التجارة والمالية)) ص433.
وقد ماثله في السلوك ولده نشأت في التلون واقتناص الفرص والتبدل والتلون حسب ما تتطلبه مصالحه، وكذا هو حال حفيد الكتبخاني ((فهمي منصور اسماعيل االكتبخاني)) الذي تخلى عن كل أرديته السابقة، وتعاون مع الاحتلال الأمريكي ليكون نائبا في البرلمان العراقي بعد السقوط عام 2003..
((أسرة عجيبة لها ارث باهظ من الشر والدناءات العتيقة، وأبناء الزنا وشهوة السلطة والمال والجواري والمحظيات)) ص476
عزل، وعزلة العقول المتنورة:-
صبحي وولده فؤاد، وولد فؤاد جابر، وبن جابر وليد، وبنت جابر نهى نموذج للشريحة الاجتماعية المتنورة التي أقبلت على الاستزادة من العلم والمعرفة ونبذ التشدد والخرافة، الانتصار للحق والعلم والجمال والفن الرفيع، الإحساس العالي بالكرامة الوطنية، ورفض التعاون مع المحتلين والمغتصبين مهما اختلفت مسمياتهم وأساليبهم سواء كانوا أتراكا أو انكليز أو أمريكان، الاتصاف بالأمانة والصدق والإخلاص في الحب وتجاوز الكثير من العادات والتقاليد الاجتماعية المعششة في عقول الكثير من أبناء طبقتهم ناهيك عن هيمنتها على الأغلبية من الكتل البشرية الذي لا يمكن توصيفه بالمجتمع حسب تصوراتهم، وبراءتهم من أفراد العائلة الماليين للمستعمرين من الإقطاعيين والمستغلين حيث يرون إن هؤلاء هم سبب خراب البلاد وعذاب الشعب وويلاته في مختلف العصور.
___

*المدى

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *