هل انتهى عصر المثقف الموسوعي؟

*تحقيق- عبدالله بن عمر

تعد فكرة “المثقف الموسوعي” فكرةً مثاليةً في وجدان المثقف العربي، ولها شواهدها التاريخية الكثيرة المبثوثة في مدونات التراجم والسير عبر تاريخنا الإسلامي الطويل؛ حيث كان يوصف شخص واحد بالبراعة في عدد من العلوم المتباينة، كالفقه والطب والفلك، (إضافة لكونه فارساً ورامياً ماهراً) أو بالتفوق في جميع حقول المعرفة في عصره.

اليوم، ومع تضاعف حجم المعرفة الإنسانية إلى حد غير مسبوق، يطرح تساؤل الموسوعية نفسه من جديد..

“الرياض” طرحت هذا التساؤل على بعض المثقفين، هل انتهى عصر المثقف الموسوعي إلى غير رجعة، أم هو أمر لا يزال ممكنا نيلُه بعد اتساع العلوم وتشعبها؟ وما السبيل الأنسب لتكوين المثقف في أيامنا هذه؟

انفجار معلوماتي

في البداية يقول الكاتب الصحفي عبدالرحمن مرشود: “أعتقد أن عصر المثقف الموسوعي قد انتهى بالفعل، إن كان قد وجد أصلاً، والسبب هو هذا الانفجار الهائل في المعلومات والمعارف، التي تجعل من المستحيل على مثقف بعمر قصير كأعمارنا أن يلاحقها لكي يدعي أو يزعم لنفسه موسوعية ما”.

أطر ضيقة

ويوافقه د.همام يحيى الذي يقول: “يصعب أن تجد اليوم من يُدافع عن فكرة الموسوعية في المعرفة، سواء أكان المقصود من الدّفاع إيمانا بإمكانِها أم دعوة لإيجادِها، غير أنّنا في سياقنا العربيّ الإسلامي الحاليّ نجد حالات قليلة من الحنين إليها أو ادّعاء امتلاكِها أو القول بإمكانِها على الأقل، وإذا كان من سمة مُشترِكة بين هؤلاء الذين يظنّون أنفسَهم أو يظنُّهم أشياعُهم موسوعيّين، فهي أنّهم يعيشون داخل أطر ضيّقة محصورة الثّقافة وقائمة على العصبيّة الإيديولوجيّة، فداخل الأوساط الضيّقة والمحدودة يمكن أن ينوجِدَ من يظنّ نفسَه موسوعيّا، أو يتوهّم أشياعُه موسوعيّته، لكن لا وجود يُذكَر لهؤلاء في المجال الثقافيّ العام، فلا إمكان لوجود وهم الموسوعيّة داخل وسط ثقافي مفتوح وغير مؤدلَج”.

وأضاف: “هناك سبب يتردّد دائما لتعذّر الموسوعيّة في زمننا، وهو توسّع المعارف إلى درجة تجعل من المستحيل الإلمام بمبادئ العلوم فضلا عن تفصيلاتِها، وهذا السّبب على أهمّيتِه وبداهتِه ليسَ هو السببَ الوحيد، فتعدّد العلوم وتوسّعُها الهائل ليس مشكلة كمّية فحسب، والإحاطة به ليست بالتالي متعذّرة لاعتبارات حجم المعرفة فحسب، بل أهمّ من ذلك قيام العلوم المختلفة على أسس مختلفة من التكوين العقليّ والاستعداد النفسيّ والمنهجيّة العلمية، بل حتى السلوك المختلف تجاه المعرفة”.

وأشار إلى أنّه يتعذّر على شخص واحد مهما كان عبقريا في الجمع والإحاطة أن يمتلك الاستعداد النفسي ليكون عالما بالرياضيّات والسوسيولوجيا والنقد الأدبيّ في الوقت نفسِه، لكلّ من هذه العلوم “مزاج علمي”، بات المرء يحتاج لسنوات طويلة من عمره لامتلاكه وإنضاجِه وتطوير إنتاجِه فيه وترسيخ علاقتِه به، وامتلاك أكثر من مزاج في الوقت نفسِه يرقى لدرجة الاستحالة.

اختصاصت متداخلة

بينما رأى الباحث في الفلسفة وعلم النفس أنس غنايم أنّ الفصل المطلق بين التخصصية والموسوعية لا يمكن حصوله بحال، إذ يوجد العديد من العلوم والمعارف العابرة للتخصصات، وهو ما يعرف علمياً بـ”الاختصصات المتداخلة” (Interdisciplinary)، فلا يمكن لدارس العلوم الشرعية اليوم أن يصرف الطرف عن المناهج الألسنية في فهم النصوص وضبطها، كالهرمنيوطيقا -مثلاً-، لكن ما ندعو إليه، أن تكون دراسته للهرمنيوطيقا لا باعتبارها علماً يجب فهمه وإدراك مسائله..الخ”، إنما باعتباره من متعلقات تخصصه الأصلي.

وأضاف: “يمكن لباحث في علم النفس أن يجهل بعض المعارف الدينية واللاهوتية، التي دخلت إلى العديد من مسائل علم النفس كمباحث مستقلة كعلم الإلهيات العصبية -مثلاً- أو كنظريات في الطب والإرشاد النفسي تعلي من القيم والأديان والرؤى الوجودية في استقامة الصحة النفسية مثل: العلاج الوجودي والإنساني، الذي نهض به أمثال رولو ماي وفيكتور فرانكل”.

الموسوعية والتخصص

يؤكد “غنايم” أن الحل الأنسب لفض الاشتباك في القضية هو الانطلاق من التخصص كقاعدة معرفية، والانفتاح على العلوم والمعارف الأخرى باعتبارها معضّدات ومساندات لأصل التخصص، وعليه فكل من يدخل من جهة باب الموسوعية عليه أن يخرج من الجهة الأخرى من باب التخصص، حتى لا نضيع ونتشظى بين علوم ومعارف تتراكم يومياً بشكل مرعب.

ولا يختلف رأي عبدالرحمن مرشود كثيراً، إذ يقول: “السبيل الوحيدة لوجود من نستطيع وصفه بالمثقف هي إيجاد ذلك الشخص الذي لديه بعض الاطلاع على حقول المعارف، إضافة إلى تحصص أو اهتمام يبذل فيه وقته وجهده ثم يسخره للصالح العام، بمعنى أنه يشارك بمعرفته المتخصصة ويوظفها في مقاربات معينة هدفها هو رفع الوعي العام للمجتمع من خلال معرفة متخصصة مشتبكة مع الفضاء العام”.

______
*الرياض

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *