ستيفن هوكنغ.. موجز تأريخ حياتي .. سيرة ذاتية(2)

*ترجمة وتقديم لطفية الدليمي

أواصل في هذا القسم – وأقسام أخرى ستأتي تباعاً – نشر أجزاء من الفصول الأولية للسيرة الذاتية الموجزة التي كتبها الفيزيائي النظري وعالم الكونيات الأشهر ( ستيفن هوكنغ ) ونشرتها دار نشر بانتام Bantam عام 2013 بعنوان ( موجز تأريخ حياتي My Brief History) .
المترجمة

سانت ألبانز

انتقل المكان الذي يعمل فيه أبي عام 1950 من هامبستد قرب منطقة هايغيت إلى المعهد الوطني للبحث الطبي المؤسس حديثاً في “مِل هِل” الواقعة في الحافة الشمالية من لندن ، وبدلاً من السفر يومياً إلى مكان عمله الجديد بدا الأمر أكثر منطقية لأبي فيما لو انتقل بالعائلة كلها إلى منطقة تقع خارج لندن وقريباً من مِل هِل في الوقت ذاته ؛ لذا اشترى والديّ منزلاً جديداً في منطقة سانت ألبانز St. Albans – المشهورة بكاتدرائيتها المميزة – والتي تبعد عشرة أميال شمال مِل هِل وعشرين ميلاً شمال وسط لندن . كان منزلنا الجديد واسعاً مبنياً على الطراز الفكتوري ويحوز شيئاً غير قليل من الأناقة والفتنة ، ولم يكن والديّ ميسوري الحال آنذاك وكان عليهما إنجاز الكثير من أعمال الترميم على المنزل قبل انتقالنا إليه ، وحصل بعد ذلك أنّ أبي – وكعادة اليوركشايريين – رفض إنفاق أي مال إضافي على أعمال الترميم وتولى أمر الترميم وصبغ المنزل بنفسه على الرغم من أن المنزل كان كبيراً ولم يكن أبي ذلك الخبير الماهر الذي يعتدُّ بعمله في مجال ترميم البيوت ، ولكن لحسن الحظ كان المنزل متين البناء وقادراً على تحمّل إهمال أبي لترميمه . باع والديّ هذا المنزل عام 1985 عندما كان أبي مريضاً للغاية وقبل سنة بالضبط من وفاته ، وقد  رأيت المنزل قبل فترة قصيرة ولم يبدُ أن أية أعمال ترميم قد أجرِيت عليه !!

كان المنزل مُصمماً لعائلة فيها خَدَم ، وكانت في حجرة المؤن لوحة يمكن منها معرفة أية غرفة في المنزل تمّ منها شدّ الناقوس الصغير الذي يبعث الرنين الدال على طلب شيء ما . بالطبع لم نكن نوظّف خدماً في عائلتنا ، وأذكر أن غرفة نومي الأولى التي اختيرت لي في المنزل كانت صغيرة بشكل حرف L ولابد أنها كانت مخصصة لإحدى الخادمات ، وقد طلبت أن تكون الغرفة لي بناءً على اقتراح من ابنة خالتي سارة التي كانت أكبر مني بقليل وكنت أكنُّ لها الكثير من الاحترام والتقدير ؛ فقد رأت أن بإمكاننا الحصول على الكثير من المتعة في تلك الغرفة ، وكانت إحدى المميزات الجاذبة في تلك الغرفة بعينها أن المرء يمكنه التسلل عبر نافذتها الجانبية إلى السقف المظلّل لفسحة ركن الدراجات ومنها يمكن القفز بسهولة إلى الأرض .

كانت سارة ابنة الأخت الكبرى لأمي ، درست خالتي وتدربت مهنياً لتصبح طبيبة وتزوّجت من محلل نفساني ، عاش الاثنان في منزل شبيه للغاية بمنزلنا في قرية هاربندن التي تبعد خمسة أميال شمال سانت البانز، وكانت خالتي وزوجها واحداً من الأسباب الرئيسية التي دفعت بوالديّ إلى الانتقال للعيش في سانت ألبانز ، وقد رأيت في الأمر هدية عظمى جاءت لي على طبق من ذهب – أن أكون قريباً من سارة ، وما أكثر الأوقات التي ركبت فيها الحافلة ومضيت لرؤيتها في منزلهم بقرية هاربندن .
كانت سانت ألبانز تقع قريباً جدا من أطلال المدينة الرومانية القديمة فيرولاميوم  Verulamium – المدينة التي عُدّت المستوطنة الرومانية الثانية في الأهمية بعد مدينة لندن ذاتها في بريطانيا بأكملها ، وقد ضمّت سانت ألبانز بقايا واحد من أكثر الأديرة فخامة في العصور الوسطى والذي أقيم حول ضريح القديس ألبان Saint Alban : قائد المئة* centurion الذي يُقال عنه أنه أول شخص أعدِم في بريطانيا بسبب إيمانه المسيحي ، وكل مايذكّر اليوم بذلك الدير هو كنيسة واسعة قبيحة المنظر مع بناية ملحقة بمدخلها  حوّلت فيما بعد لتكون مدرسة سانت ألبانز التي درستُ فيها لاحقاً . كانت سانت ألبانز مكاناً مقبضاً للروح وشديد المحافظة إذا ماقورنت بمنطقة هايغيت أو هاربندن ، وقلّما عقد والداي صداقاتٍ مع الناس فيها لسبب يعود – ولو جزئياً – إليهم ؛ فقد كان والداي بطبيعتهما كائنين انعزاليين ينشدان الوحدة دوماً وبخاصة أبي ، ولكن الأمر من جهة أخرى يعكس حقيقة صارخة تميّز بها مجتمع سانت البانز ؛ إذ لم يكن أيٌّ من والدَيْ أصدقائي في المدرسة ممّن يمكن أن يوصفوا بكونهم مثقفين .

518366
بدت عائلتنا في هايغيت عائلة عادية كسواها من العائلات هناك ، وأما في سانت ألبانز فقد كانت عائلتنا تعدّ قطعاً عائلة منطوية ومنغلقة على ذاتها ، وتعزز هذا الانطباع السائد بسلوك أبي الذي لم يحرص أبداً على إدامة الصلة مع القاطنين في المنطقة ومشاركتهم بعض الفعاليات الاجتماعية طالما كان هذا الأمر يجنّبه عناء صرف بعض المال !! . عانت عائلة أبي في شبابه عسراً شديداً ؛ الأمر الذي ترك فيه بصمة لايمحوها الزمن وجعله مسكوناً بحساسية شديدة تجاه إنفاق المال لأي غرض كان حتى بلغ به الأمر أنه ماعاد قادراً على صرف أي مبلغ بسيط على راحته الخاصة وراحة عائلته حتى بعد ان تحسنت ظروفه المالية لاحقاً وصار قادراً على إنفاق المال من غير عوائق ؛ فقد رفض مثلاً نصب جهاز تكييف مركزي في منزلنا رغم انه كان يُعاني من البرد كثيراً وفضّل بدلاً عن هذا ارتداء الكثير من القمصان الصوفية التي كان يزيد عليها ارتداء عباءة صوفية فوق ملابسه الاعتيادية ، ولكنه كان برغم هذا في غاية الكرم تجاه الناس الآخرين .

شعر أبي في خمسينات القرن الماضي أنه غير قادر على تدبير المال اللازم لشراء سيارة جديدة خاصة لنا ؛ لذا اشترى سيارة أجرة كانت تعمل في لندن قبل الحرب العالمية الثانية ، وعاونت أبي في بناء مرآب للسيارة يدعى كوخ نيسن**  Nissen hut . فزع الجيران كثيراً عند رؤيتي اعمل مع أبي على بناء هذا الهيكل ولكنهم لم يمتلكوا القدرة على إيقاف عملنا ، ومن جانبي كنت في ذلك الوقت أشعر بخجل شديد نحو أبي وأمي – كحال معظم الأولاد – ولكن لم يكن ذلك الأمر مقلقاً لهما أبداً .

14718717_1413716601990502_2657289331427174185_n
قتنى والداي إلى جانب السيارة عربة من عربات قوافل الغجر بغية قضاء أوقات العطل فيها ، واختارا لها موضعاً في حقل يقع بمنطقة أوسمينغتون مِلز على الساحل الجنوبي لبريطانيا قريباً من منطقة وايماوث . كانت العربة مطلية بألوان براقة صارخة ومؤثثة بإتقان من قبل مالكيها الغجر ؛ لذا أعاد أبي طلاءها بلون اخضر لجعلها أقل جذباً لانظار الآخرين  . احتوت العربة في الأصل على سرير مزدوج لنوم زوجين  وعلى خزانة صغيرة للأطفال ، غير أن أبي تمكّن من تحويل تلك الخزانة إلى أسرّة للأطفال مستخدماً بعض الوسائل التي يستخدمها الجيش في العادة واكتفى هو وأمي بالنوم داخل خيمة من خيم الجيش قريباً من باب العربة . اعتدنا على قضاء العطل الصيفية في تلك العربة حتى عام 1958 عندما طلب إلينا المجلس البلدي للمنطقة إبعاد العربة عن تلك المنطقة .

عندما انتقلنا إلى سانت ألبانز أرسِلتُ أول الأمر إلى المدرسة الثانوية  للبنات والتي كانت – برغم اسمها – تقبل الصبيان لغاية عمر العاشرة ، وبعد أن قضيت فيها فصلاً دراسياً واحداً  ذهب أبي في واحدة من جولاته الأفريقية السنوية الطويلة ولكنه مكث هذا المرة أطول من ذي قبل – قرابة أربعة شهور كاملة ، ولم تستطب أمي فكرة بقائها وحيدة مع اطفالها لأربعة أشهر كاملة ؛ لذا ذهبت برفقتنا لزيارة صديقتها أيام الدراسة ( بيريل ) التي كانت متزوجة بالشاعر روبرت غريفس Robert Graves  وكان الزوجان يعيشان في قرية تدعى دِيا بجزيرة مايوركا الإسبانية . حصل هذا عقب خمس سنوات من انتهاء الحرب العالمية الثانية وعندما كان الدكتاتور الإسباني فرانشيسكو فرانكو حليف هتلر وموسوليني لايزال ممسكاً بالسلطة ( في واقع الأمر بقي في السلطة لعقدين لاحقين !! ) ، ولكن برغم كل المحاذير فقد ذهبت أمي التي كانت عضوة في عصبة الشبيبة الشيوعية قبل الحرب إلى تلك الجزيرة الإسبانية باستخدام قارب ثم قطار ومعها أولادها الصغار الثلاثة ، وبعد وصولنا استأجرنا منزلاً في ديا وقضينا أوقاتاً رائعة هناك ، وقد تشاركت مدرّساً خصوصياً مع وليم إبن روبرت .

14671325_1413716481990514_1341716739748540187_n
كان المدرّس الخصوصي ربيباً لروبرت وأحد مريديه الخلّص وأبدى اهتماماً عظيماً بكتابة مسرحية لمهرجان إدنبرة ولم يكن يولي تعليمنا سوى جزء بسيط من اهتمامه بكتابة المسرحية ، وبقصد أن يبقينا مشغولين عنه فقد طلب إلينا أن نقرأ كل يوم فصلاً في الكتاب المقدّس وأن نكتب مقطوعة بشأن ذلك الفصل ، وكانت فكرته من وراء ذلك هو أن يُرينا جمال اللغة الإنكليزية ؛ الأمر الذي سيسهّل لنا تعلّمها ، وقد أنهيت بالفعل قراءة سفر التكوين بكامله وجزء من سفر الخروج قبل أن أغادر ذلك الدرس . كان واحداً من أهم الدروس الأساسية التي تعلمتها في تلك التجربة هو ألّا أبدأ أية جملة بالحرف ( وَ ) ، وعندما أبديْتُ دهشتي من هذا الأمر لكون معظم عبارات الكتاب المقدس تبدأ بهذا الحرف فقد جاءني الجواب بأن اللغة الإنكليزية قد طالتها تغيّرات جوهرية منذ أيام الملك جيمس***، وأذكر أنني جادلت حينها : إذن لِمَ تجعلوننا نقرأ الكتاب المقدّس ؟ لكن تساؤلاتي كلها لم تلقَ صدى ؛ فقد كان روبرت غريفس آنذاك مهووساً غارقاً بطوفان الحماسة للأجواء الرمزية والتصوفية التي يحويها الكتاب المقدس ، وحينها أسقِط في يدي ولم أجد من يمكن أن أتوجّه إليه بتساؤلاتي .

 هوامش المترجمة
* قائد المئة centurion : ضابط محترف يقود مجموعات تتكون من مائة مقاتل في الجيش الروماني ، وقد ظهرت هذه الرتبة بعد الإصلاحات التي أجريت على الجيش الروماني عام 107 قبل الميلاد ، وكان ثمة قوّاد مئة في الأسطول الروماني أيضاً .
** كوخ نيسن  Nissen hut : هيكل نصف أسطواني مصنوع من رقائق الصلب المموّجة ، صمّمه في الأصل المهندس والمخترع الرائد نورمان نيسن خلال الحرب العالمية الأولى وشاع استخدامه على نطاق واسع في الحرب العالمية الثانية.  
*** يشير المؤلف في هذا الموضع إلى نسخة الملك جيمس من الكتاب المقدس King James” Version المعروفة أيضاً  بإسم النسخة المرخصة Authorized Version ، وهي  ترجمة إنكليزية  للكتاب المقدس المسيحي  تمّت في عهد الملك جيمس الأول من أجل كنيسة إنجلترا ، وقد بدأت الترجمة عام 1604 وانتهت عام  1611 .
_________

*المدى

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *