في فخّ الجوائز

*عبده وازن

حتى الآن لم تتمكن السكريترة العامة لجائزة نوبل سارة دانيوس من الاتصال بالشاعر والمغني الأميركي بوب ديلان الفائز بالجائزة هذا العام. لم يُجب على اتصالاتها الهاتفية ولا على رسائل الإيميل، لكنّ أحد مساعديه تولى مهمة الرد على السكرتيرة العامة وشكرها. وليلة إعلان الجائزة كان ديلان يحيي حفلة غنائية في لاس فيغاس ولم يتطرق فيها إلى الجائزة أمام جمهوره، غنى فقط، متجاهلاً الحدث تماما. لكنّ السكرتيرة السويدية لم تعلن يأسها، فهي على ثقة من أن ديلان سيكسر صمته ويطل متحدثاً عن الجائزة. وقد يُحرج ديلان الأكاديمية إذا لم يلب دعوتها إلى حفلة توزيع الجوائز في العاشر من كانون الاول (ديسمبر) وإلقاء كلمة الفوز، مثله مثل سائر الفائزين وفق التقليد الراسخ للجائزة.

هذا الصمت الذي واجه به بوب ديلان الأكاديمية السويدية، أضفى على شخصيته هالة من الالتباس، وربما الغموض، فهو لو أعلن رفضه إياها مثلما فعل جان بول سارتر، لكان الأمر أقل إشكالاً، ولكن أن يتجاهلها وكأنه غير معني بها، أو كأن أحداً آخر فاز بها، فهذه بادرة غير متوقعة وتخلق حالاً من الحيرة والشك. وقد أعقب تجاهل ديلان للفوز، السجال الذي احتدم في الصحافة وفي الأوساط الأدبية العالمية حول استحقاقه أو عدم استحقاقه الجائزة بصفته مغنياً قبل أن يكون شاعراً، وهو سجال يمس جوهر جائزة نوبل ومعاييرها ويطرح سؤالاً عن مستقبلها. هل بدأت هذه الجائزة الأدبية العريقة «تنحرف» عن مسارها التقليدي أو الكلاسيكي لتنفتح على ثقافة العصر الراهن المابعد حداثي، التي لم يعد في مقدور الأكاديمية تجاهلها؟ هل بدأت تطوّر نظرتها إلى الأدب بعدما غزته «أطياف» الثورة الثقافية الإلكترونية، وبعدما فتحت أمامه موجة الـ «سوشيل ميديا» أفقاً جديداً وغير مألوف؟

هل كتب بوب ديلان قصائده لتُقرأ أم لتغنى فقط؟ هل فاز بجائزة نوبل بصفته شاعراً أم مغنياً؟ هذان السؤالان اللذان طرحا ولم يلقيا جواباً شافياً يمثلان الحال الإشكالية التي فرضتها الأكاديمية في خيارها المفاجئ والجريء والذي يدل على سياستها الأدبية الجديدة. ولا بد من الانتباه إلى أن الأكاديمية السويدية منحت جائزتها العام الماضي إلى كاتبة لا تنتمي إلى عالم الأدب بمقدار انتمائها إلى أدب الصحافة والريبورتاج، وهي الكاتبة البيلاروسية سفيتلانا ألكسيفيتش. لعل الأكاديمية تريد أن تعلن ولو بخفر، أن الأدب لم يبق محصورا في إطاره المعهود والراسخ، وأن مكانه أصبح أشد وساعة وتنوعاً.

وعطفاً على مفاجأة نوبل، لم يخلُ منح «جائزة السلام» التي ترافق معرض فرانكفورت الدولي للكتاب الذي اختتم أمس، للصحافية والكاتبة الألمانية كارولين إيمكه، من طابع المفاجأة أيضاً. هذه الجائزة الكبيرة التي تمهد الطريق إلى نوبل كما يقال، كان فاز بها روائيون وشعراء كبار، من أمثال ماريو بارغاس يوسا وأورهان باموك وفاتسلاف هافل وتشينوا آشبي وسوزان سونتاغ وياشار كمال وآسيا جبار وسواهم… أما في الأعوام الأخيرة، فبدأت تلتفت إلى الكتّاب الذين ليسوا أدباء بالضرورة، وآخرهم كان الكاتب الإيراني- الألماني نافيد كرماني. كارولين إيمكه صحافية رائدة، عملت أعواماً في مجلة «ديرشبيغل» الشهيرة وكتبت ريبورتاجات مهمة من أفغانستان وإيران وكوسوفو وكولومبيا وفلسطين. وتسعى إلى أن تكون عبر كتابتها شاهدة ضد جرائم اللاعدالة والكراهية والحقد والعنف، وعلى كوارث الحروب التي تعم «أطراف» العالم. ولها كتب عدة لم تحظ بترجمات عالمية، ومنها: «عن الحروب»، و «العنف الصامت» و «ضد الكراهية» وهو الأحدث.

وعودةً إلى بوب ديلان الشاعر والمغني، أعتقد شخصياً أن «الأحكام» السلبية التي صدرت في حقه لم تستند إلى حقيقة تجربته الشعرية، ويجب الرجوع فعلاً إلى شعره المطبوع في كتب، وهو نفسه الذي غنّاه. وأعترف بأنني أعجبت بقصائد كثيرة له قرأتها في ترجمتها الفرنسية، بعيداً من كونها أغنيات. هذا شاعر حقيقي، سواء في لغته وصوره الشعرية والأساليب المتعددة التي يختطها، أو في المناخات التي يضمها شعره والقضايا التي يطرحها والأحوال والرؤى التي يعج بها. بوب ديلان هو الشاعر المغني، ولكن ليس على طريقة أورفيوس في الأسطورة الإغريقية، ذاك الشاعر الذي فتن الآلهة بموسيقاه وغنائه، بل بحسب ما يفترض العصر الحديث. شاعر واقعي وحالم، همه أن يخاطب الفرد والجماعة في آن. علينا أن نكتشف بوب ديلان الشاعر المثقف واللامع، الذي فيه الكثير من كبار الشعراء: رامبو وديلان توماس وجيل «البِيْت» (بِيْت جنريشين) وسائر شعراء الاحتجاج في العالم.

ولئن كان الشاعر أدونيس أحد أبرز منافسي بوب ديلان هذه السنة، فهو لم يغب عن المعترك الشعري النوبلي. بعض أصدقائه، وربما خصومه، وزعوا له صورة مركّبة يظهر فيها حاملاً غيتاراً يعزف عليه مع لحية وشعر طويل. ولم ينج أدونيس من تعليقات طريفة عبر الـ «فايسبوك»، وأحدها أطلقه الكاتب السوري الفرنكوفوني فاروق مردم بك، يقول فيه إن أدونيس فور سماعه خبر فوز بوب ديلان، اتصل بزياد الرحباني طالباً منه تلحين «أغاني مهيار الدمشقي».
____
*الحياة

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *