رسائل طه حسين تفوح بالأدب الرفيع

*عيد عبد الحليم

ارتبط عميد الأدب العربي، طه حسين، الذي تحل ذكرى رحيله الثالثة والأربعون هذه الأيام، توفي 28 أكتوبر/تشرين الأول 1973، بعلاقات طيبة مع أبناء جيله والأجيال التالية له، وهي علاقة قائمة على فكرة احترام الآخر ومبادلة الفكر بالفكر والرأي بالرأي، حتى ولو كانت هناك اختلافات في وجهات النظر حول القضايا الفكرية والسياسية أو الاجتماعية.

وتدلنا الرسائل المتبادلة بين صاحب «دعاء الكروان» ومجايليه وتلامذته على عمق ثقافة الطرفين، وعلى جمال الأسلوب الأدبي الذي كتبت به هذه الرسائل التي تعد وثائق أدبية مهمة.

ومنها الرسائل المتبادلة بينه وبين نجيب بك الهلالي، والتي تكشف عن ثقافة موسوعية وخبرة بالواقع في ذلك الوقت، يقول العميد في إحدى هذه الرسائل:
«أخي العزيز نجيب بك الهلالي: أكتب إليك بعد أن منعت نفسي من ذلك أياماً، فلو قد طاوعتها لوصلت إليك مني كتب يقفو بعضها إثر بعض، ولكنك رجل مشغول بالتحقيق، معني بأثقاله ومتاعبه، والحر في مصر شديد، وأخشى إن كتبت لك أن أضيف أثقالاً إلى أثقال وأن يحمل كتابي لفحة من لفحات هذا القيظ المحرق، فيمسك منه أذى لا أحبه، وأنا ضيق النفس إلى أقصى غايات الضيق فإذا كتبت إليك لم تحمل كتبي إلى نجيب ما أحب دائماً أن تحمله إليه عن هذا الحديث الصفو الذي تجري فيه الدعابة الهادئة الحلوة.

لذلك منعت نفسي من الكتابة إليك أياماً طوالا، ثم أصبحت اليوم لا أستطيع عن ذلك صبراً، وأظنك لا تكره من صديقك أن يكون أثراً من حين إلى حين، وأن يشفق على نفسه حين تثقل عليه أعباء الحياة فيتخفف منها بعض الشيء بالتحدث إلى صديقه، وإن كان هذا الصديق عنه في شغل، فإذا عرفت أن صديقك في القاهرة وحيد أو كالوحيد قد هجره أقرب الناس إليه وألصقهم به وأزورّ عنه من كان يتهالك عليه، وفر منه من لم يكن يطيق له فراقاً، وأصبح يستقبل الحزن مع ضوء الشمس ويعاشره طوال النهار، ثم يستقبل الهم مع ظلمة الليل ويقضي معه ساعة الأحلام لم تلمني حين أكتب إليك لأذكرك بأني لم أزل حياً في القاهرة أضطرب بين بيتي حزيناً ودار العمل، يظهر أن اليأس يريد أن يتخذها مسكناً ومستقلاً، فهذا العمل بدأته نشيطاً له مبتهجاً به لم يفلح إلى الآن، لأنه بدأ على غير هدى وفي غير نصح ولا إخلاص، ومضى في طريقه يخبط كمن أصابه مس من الشيطان، وقد كلفني والحمد لله نفقات ما كان ينبغي أن أتحملها ومشقة في النفس والجسم ما كان ينبغي أن أتعرض لبعضها، وكيد الخصوم مع ذلك متصل، ومكرهم يزيد من يوم إلى يوم، كأنهم يجدون لذة لا تعدلها لذة حين يضطرونني لا أقول إلى العجز، بل أقول إلى الفناء، وأنا مع ذلك أجاهد جهاداً عنيفاً لا ضير فيه ولا نفع، وأسأل نفسي كيف يكون المخرج من هذه الطريقة الملتوية التي لا علم فيها يهتدى به، ولا ظل فيها يطمئن إليه المسافر، إذا أخذه الجهد والإعياء، أرأيت أني لم أكن أستطيع أن أمنع نفسي عن الكتابة إليك أكثر مما منعتها، وأنه لا ينبغي لك أن تمضي في نسياني أو في الإعراض عني إلى أبعد مما مضيت، وإن كتاباً منك ولو قصيراً إن وصل إليّ خليق أن يحمل إليّ بعض الراحة، ويرفه عليّ بعض الشيء، وما أظنك تبخل بذلك على صديق آثرته دائماً بأصفى الود وأنقاه. وأما بعد، فإني أهدي إليك تحية يملؤها حب صادق لا تغيره الأحداث ولا تضعفه الخطوب».

طه حسين

28 يونيو 1934

ويبدو من هذه الرسالة مدى المحبة والصداقة التي ربطت بين صاحب «مستقبل الثقافة في مصر» وبين محامي الفقراء، وقد جمعت ما بين الاثنين صفة الريادة والجرأة في الرأي على المستويين السياسي والثقافي، وكلاهما كان في موقع المسؤولية أمام الشعب والتاريخ.

وقد ارتبط طه حسين بعلاقة صداقة مع رائد المسرح المصري، توفيق الحكيم، وتدل الرسائل المتبادلة بينهما على عمق أواصر الود، فهي مليئة بالأسئلة عن الكتابة والحياة والصحبة والنقد الاجتماعي للظواهر العارضة في ذلك العصر، ومنها هذه الرسالة من «الحكيم» يقول فيها:
«أخي الجليل: أكتب إليك من القاهرة والحر شديد، فهذا الصيف أيضاً قد مضى أكثره، ولم أظفر بإجازة، فقد عادت الحكومة إلى القاهرة تعمل بنشاط، ودعت كبار موظفيها إلى النزول من إجازتهم أو قطعها ليؤدوا واجبهم في خدمة الدولة المقبلة على أعمال كبيرة، فلم أر من المناسب ولا من الجائز أن أفكر في إجازة أو راحة، وإنما هي فترات في آخر كل أسبوع لو استطعنا اختلاسها للسفر إلى الإسكندرية نتبرد بنسيم البحر لكنت من السعداء.. أما السفر إلى البندقية فأمر بعيد المنال في الوقت الحاضر.
وهكذا كتب علينا البقاء في باب الخلق صيفين متواليين.. على أن أحداث مصر قد شغلتنا عن الحر والشعور بوطأته.. وهي أحداث أجل من أن توصف في خطاب، بل إني أرى الأدب عاجزاً عن تسجيل تلاحقها السريع، وإني لأسأل نفسي، ما هو واجب الأدب حيالها؟.
وأقصد بالأدب لا ذلك الشبيه السريع الذي يصدر عن وحي القصائد الشعرية والزجلية أو الصور الإذاعية.. ولكني أقصد الأدب الحق الذي يفهم ويهضم.. ماذا يستطيع أن يفعل هذا الأدب الآن؟، لقد قيل لي فيم سكوتك ومصر حولك تشهد أعجب صفحاتها في التاريخ الحديث؟، ولكن هل أنا ساكت حقاً.. إن كل شيء في رأسي ونفسي مضطرب ثائر.. وإني لأفكر في كل شيء كما لو كنت أنا المنوط به حل الأمور.. فأنا أعيش حياة بلادي الآن كما يعشها المواطن الصالح.. ولكني باعتباري أديباً أعترف أني لا أستطيع بعد شيئاً.. وما أهون أن أحمل القلم لأكتب مع الكاتبين وأؤلف مع المؤلفين، وأنشد مع المنشدين، ولكني لا أدري ماذا أكتب الآن وماذا أؤلف؟ إني في حاجة إلى أن أعيش أولاً هذه اللحظات.. أن أعيشها كإنسان وكمصري.. أرجو أن أعيشها مرة أخرى كأديب عندما يكتمل لي استيعاب أكثر نواحيها».

توفيق الحكيم

وفي رسالة أخرى أرسلها «الحكيم» في 31 أغسطس/آب 1936 بعد معاهدة «36» يقول فيها مخاطباً طه حسين:

«أهنئك أولاً باستقلال مصر، وأرجو بعد ذلك أن تنظر مصر قليلاً إلى وجهها في المرآة، وأن تتزين جسماً وروحاً حتى تكون خليقة بمكان شريف بين الدول الجالسة أمام مائدة الحضارة».
ويضيف الحكيم قائلاً في سياق الرسالة معلقاً على أحد كتب العميد «إنني كقارئ أستطيع أن أؤكد لك أنك قد كتبت شيئاً ينتزع مني الابتسامة المرحة الصافية حيناً والتأمل والتفكير والإعجاب أحياناً، ولم أضق لحظة ذرعاً بهذا الكلام اللذيذ وهذا الأسلوب السائغ الجميل».
وهناك رسائل من الأديبة «مي زيادة» صاحبة الصالون الأدبي الشهير في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، ومنها رسالة تهنئة للعميد بعد عودته إلى الجامعة المصرية مؤرخة بتاريخ 28 نوفمبر/تشرين الثاني 1934: تقول فيها مي:
«يا أبا العلاء: مبروك، حقك يرد إليك كما يرد إلى الشباب المصري حقه عندك، أود أن أذكرك أني تنبأت بهذا في إيوان أبي الهول بتاريخ 12 يوليو/تموز، وكاهن أوزوريس يشهد.
قلت يومئذ إن الجامعة المصرية تستدعيك إليها خلال شهر نوفمبر، ولم يكن في ذلك الحين من حديث أو شبه حديث عن الأزمة التي ظهرت في الشهرين الأخيرين.
أتعد يا «أبا العلاء» و«فولتير» معاً، أتعد بتصديق إلهام المرأة بعد اليوم.
لقد كنت طوال هذه المدة رجلاً، وعرفت أن تتألم كرجل حقاً، لدي الآن كلمة واحدة أرجو أن تغتفر ما فيها من أنانية: «إني سعيدة».

«مي»

وقد تتلمذ على يد العميد أجيال متعددة، ساروا على مبادئ مدرسته الفكرية والأدبية ومنهم د. سهير القلماوي، وهي من أوائل المصريات اللاتي حصلن على الدكتوراه في الأدب، وقد أرسلت إلى أستاذها عدة رسائل وقت دراستها للدكتوراه في «السيربون» بفرنسا ومنها هذه الرسالة التي تقول فيها: وقد كتبتها في 17 يناير/كانون الثاني 1938.

«أستاذي العزيز: في غير خجل أعترف أن هذه هي المرة الخامسة على الأقل التي أبدأ فيها بالكتابة إليك، ثم لا أستطيع أن أذهب أبعد من سطر ثم أقف حائرة ماذا أقول، أأكتب عن حالي حقاً فتغير رأيك فيّ، أم أكتب لك كما أكتب هذه الخطابات التي أرسلها كل يوم تقريباً إلى أهلي، وكلها تفيض بشراً وحبوراً، وأنا أبعد الناس هذه الأيام عن البشر والحبور أو ما يقاربهما، إني لأعود إلى ما بدأت به في التفكير، فأقول ومالك أنت ومال هذه الإحساسات التي تجيش في صدري، ما بقيت أحاول جهدي أن أخفيها حتى على نفسي وأغتنم بتلك المحاولة، لم لا أخفيها عليك أنت فأكفي نفسي مؤونة حديث مؤلم وأكفيك أنت مشقة التألم، ما دمت أيضاً أحرص على ألا يكون شعورك إلا بهجة وسروراً».
___
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *