مسلمات نظرية فالرشتاين

*سعود شرفات

“فلتفز الصخور اليوم، لكن النصر على المدى الطويل سيكون حليف الموج” (ثورو، 2005م، ص 379).

كما أسلفت في مقالتي السابقة “الجذور الماركسية في نظرية فالرشتاين”

“النظام العالمي الحديث، مؤمنون بلا حدود، أيلول 2016م”؛ فقد أطلق فالـــــــرشتاين في كتابه ذي المجلدات الثلاثة النظام العالمي الجديد:

(The Modern World-System, 1974, 1980, 1989)

اكثر الأعمال النظرية النقدّية اكتمالا في بحث نظرية النظام العالمي لدراسة العلاقات الدولية.

والفرضية الرئيسة في هذه النظرية عند فالرشتاين: أن المرء لم يعد بإمكانه النظر إلى تاريخ الأمم منفردة، بل إن نظاما عالميا ككل أخذ يتطور معاً وفق تراتبية من دول (المركز) الغنية والدول المحيطة أو الأطراف الفقيرة، ومجموعة وسطى من الدول نصف المحيطية التي لها بعض خصائص الطرفين، والتي ساهمت في السيطرة على الدول الواقعة خارج المركز.

أما الدول الاشتراكية خارج هذا الوصف، فقال بأنها كانت مجرد رأسمالية دوليه، بمعنى أن حكوماتها كانت تتصرف تصرف المالك، وتتاجر في نظام عالمي رأسمالي، حيث تقوم الأسواق بتحديد الأسعار.

وكان فالرشتاين عبر نظريته كلها يدعو الباحثين في الاقتصاد والسياسة للتفكير بشكل عالمي، ويستمر في الدعوة لكسر كافة الحواجز بين شتى العلوم الاجتماعية بصورة جذرية (هايت، وروبيرتس، 2004م، ص ص 23-24)

ويرى (فالرشتاين، 1979) أن المصير الاجتماعي المحتوم للمذاهب الرسمية هو أنها تعاني ضغطا اجتماعيا مستمرا باتجاه الدوغمائية، لذلك تجد نفسها في طريق فكري مسدود. ولقد ركز فالرشتاين على استخدام الأسلوب الكلي لفهم الأحداث العالمية والكيان ككل. (هوبدن، وجونز، 2004م، ص 276).

لذلك نراه ينقل عن لوكاس “ليست أولوية الدوافع الاقتصادية في التفسير الاقتصادي هي التي تشكل الفرق الحاسم بين الماركسية، والفكر البرجوازي، بل وجهة النظر الكلية”، لذلك فإنه يؤكد في نظريته بشكل صريح على أن ما يحدد أي نظام عاملان هما:

المنهج الكلاّني (Holistic Approach) والترابط.

– ذاتية الاحتواء، بمعنى أنه كل التطورات داخل النظام يمكن تفسيرها من خلال عوامل داخلية في النظام نفسه. (هوبدن، وجونز، 2004م، ص 278).

وتحوي نظرية فالرشتاين على أربع “مسلمات أساسية”، وهي على النحو التالي:

المسلمة الأولى: هناك مجموعة واحدة من العمليات الأساسية في النظام العالمي تخضع لها كل الاقتصادات. ويجب أن يتضمن أي تاريخ لموقع ما فهماً لتاريخ الكل (كلانية). وبناء عليه، فإن الدولة الوطنية، وعلى الرغم من أنها متغير مهم في التنمية، إلا أنها ليست هي المستوى الوحيد للتحليل لفهم عمليات التنمية، بل هناك عمليات واسعة النطاق تعد محددات أساسية للتنمية.

المسلمة الثانية: يتألف النظام العالمي من ثلاث مناطق (المركز، والمحيط، وشبه المحيط). ويضم شبه المحيط حسب وصف فالرشتاين دولاً مثل: البرازيل، وجنوب أفريقيا، وتتميز دول شبه المحيط بأنها تحمل ملامح من كل عن البلاد الفقيرة والبلاد الغنية، وتعمل كوسيط في عمليات استغلال المركز للمحيط.

المسلمة الثالثة: تشبه العمليات التي تستخلص بها الثروة من المحيط، باتجاه المركز تلك التي توسع في وصفها منظرو التبعية (اعتماداً على الأفكار الماركسية-اللينينية، وهوبسون، وروزا لكسمبورغ وبوخارين) من خلال التبادل غير المتكافئ، القمع الخفي والفعال، الاستلاب السلعي.

المسلمة الرابعة: تفترض النظرية بأن للرأسمالية بعض التوجهات العلمانية الأساسية بما يشمل استقطاب الطبقات الاجتماعية، وتسليع كل شيء، وتوسيع مجالات المشاركة في التبادل الرأسمالي. (روبيرتس وهايت، 2004م، ص ص 31-32).

ويؤكد (فالرشتاين Wallerstein، 1996) بأن النظام العالمي الحديث، هو كغيره من الأنظمة العالمية، نظام تاريخي يقاد من خلال منطق واحد ومجموعة من القواعد التي بها ومن خلالها يتصارع الأفراد والمجموعات مع بعضهم البعض لتحقيق مصالحهم وبما يتماشى مع قيمهم ويتوافق معها، لذلك يؤكد بأن النظام –العالمي الحديث، لم يكن “النظام-العالمي” الوحيد الذي يوجد في العالم وان هناك الكثير من الأنظمة. لكن ومع ذلك فأنه المنظم والقادر على التعبير عن نفسه على انه النظام- العالمي الرأسمالي، نظام قائم على تقسيم العمل والمبدأ الرئيس فيه هو “مراكمة رأسمال. وإن الميكانزيم الرئيس والدائم (هذه الحركية) وهذا المبدأ هو بنية السلعة وسلسلتها “للإنتاج” التي تعبر حدوداً سياسية متعددة”، بمعنى أن السلعة متخطية للحدود الإقليمية (wallerstein، 1996، pp.87-88).

ويرى (هوبدن ووجونز، 2004م) إن نظرية فالرشتاين تهدف إلى كشف النقاب عن حقيقة عميقة وخفية في قلب العلاقات الدولية والأحداث السياسية والاجتماعية، وهي أن الأحداث المألوفة على صعيد السياسة العالمية مثل الحروب، والمعاهدات، وعمليات الإغاثة الدولية، وعمليات حفظ السلام وغيرها، تجري جميعها، ضمن إطار بنية، تشكل مسارها ومعالمها الرئيسة، وان هذه البنية، هي بنية النظام العالمي الذي جرى تشكيله وترتيبه حسب مواصفات ومنطق الرأسمالية العالمية، وبناء على هذا الفهم فيجب أن تستند أية محاولة لفهم السياسة العالمية إلى أوسع نطاق للتفاعلات التي تجري ضمن هذا النظام العالمي الذي حدد بالرأسمالية العالمية. فمثلا يرى معهد (أكسفورد ريسرش جروب) البريطاني المستقل بأن الأولوية التي يوليها الساسة في الغرب، والعالم الآن هي الحرب على الإرهاب الدولي الذي يشد انتباههم عن مشاكل حقيقية اكثر خطورة وتهديدا وتدميرا للنظام العالمي من الإرهاب الدولي مثل: الفقر، التسلح الدولي، عدم المساواة التجارية، التنافس على المواد الأولية وتغير المناخ (الاركون، 2006م، ص8).

وبناء على هذه المقاربة، يرى فالرشتاين بأن أثر بنية النظام العالمي الرأسمالي يتجلى في ضمان استمرار أوضاع الأغنياء الأقوياء على حساب الضعفاء والفقراء (هوبدن&جونز، 2004، ص 265).

وهنا يؤكد أول ويفر (Ole Waver، 1996) في توضيحه الشهير للمناظرات بين مسلمات (Paradigm Debate) النظريات الثلاث الكبرى في حقل العلاقات الدولية: الواقعية والليبرالية (آو التعددية) والماركسية (آو الراديكالية) بأن الأطراف الفاعلة الرئيسة عند الماركسية (والتي منها نظرية فالرشتاين –الإضافة من عند الباحث) هي الاقتصاد العالمي الرأسمالي – علاقات وقوى الإنتاج -والطبقات بالمعنى الماركسي، والتي تعني البحث الدائم عن تراكم رأس المال والاستلاب السلعي. ويقول بأن هناك رأيا واسعا في حقل العلاقات الدولية ينظر إلى الماركسية كنظرية بديلة في العلاقات الدولية. (Smith, Steve Booth, Ken& Zalewski Marysia, p.149-153).

لذلك نرى (عبد الحي، 1994م) يقول بأن منهج الوضعية (التجزيئية) ونتيجة “لطغيان العلمنة” حسب توصيف عالم الاجتماع الشهير “دانيل بيل” (Daniel Bell)، والمركزية الإنسانوية أدت إلى “الانغماس في تراكم سلعي ونهم سلطوي وتقديس للعمل..” (عبد الحي، 1994، ص ص 16-17).

أما بخصوص ديناميكية السلوك، فإن الماركسية تركز على أنماط السيطرة بين وداخل المجتمعات، وهذه أيضا تسلسل داخل حيثيات نظرية فالرشتاين وتلحظ بسهولة عند أي مستوى للتحليل. (ole، 1996، pp.152-153)

وبالطبع، فإن التوضيح الذي قدمه (ole، 1996) اعتمادا على نماذج مختلفة أشهرها للمنظر السياسي الأمريكي / جيمس روزناو، تفيد في كيفية تحليلنا للمناظرات بشكل عام لتستطيع بعد ذلك الولوج إلى ميكانزمات كل نظرية، وعند فالرشتاين فإن المهم تلمسنا لصفات النظرية التي أولها كما أسلفنا الترابط والكلانية لعناصر النظام وثانيها ذاتية الاحتواء؛ بمعنى أنه إذا عُزل النظام عن المؤثرات الخارجية، فإن نتائج التفاعلات داخله تكون متطابقة (هوبدن، وجونز، 2004م، ص 276).

ماذا يقصد فالرشتاين بالنظام العالمي الحديث؟

يقصد فالرشتاين “بالنظام العالمي الحديث” منطقة جغرافية معينة تخضع لمنطق نظام واحد متميز وصل إلى مرحلة، ليشمل العالم بأسره.

ويرتبط بهذا التحليل نتائج، وفرضيات في غاية الأهمية، تعطي للنظرية أبعاداً، وإغراء أكاديميا منقطع النظير؛ لأنها تعطي الباحثين والمنظرين الفرصة لتملك أدوات تحليلية لدراسة الكثير من الظواهر السياسية، والاجتماعية والاقتصادية، والثقافية التي تبدو أحيانا منفصلة، من منظور كلانّي، وهذا يعني أن الباحث يمكن أن يدرس ظواهر وأحداث اقتصادية وسياسية واجتماعية وبيئية مختلفة ومتباعدة جغرافيا، مثل:

1- لماذا حققت بعض الدول النامية (الأطراف) مثل دول شرق أسيا، والهند نموا سريعا في ظل الاقتصاد العالمي المزدهر اليوم؟

2- لماذا تتميز الدول التي تندمج في الأسواق العالمية النشطة في مجال الصناعات وتقديم الخدمات، بتطور أدائها الاقتصادي أكثر ومن الدول المتخصصة في القطاعات التي تعتمد بشكل كبير على الموارد الطبيعية (اوكامبو، 2006م، ص 23).

3- لماذا يعيش (70%) من الشعب النيجيري في فقر مدقع، رغم أن نيجيريا تحتل المركز السابع من بين الدول المصدرة للنفط؟ ولماذا تعاني منطقة دلتا النيجر التي تتركز فيها حقول النفط في البلاد من عدم الاستقرار المتواصل ومن تعقيد أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية والسياسة؟ وهل هناك دور للشركات عابرة القارات في ذلك خاصة شركات النفط (شل شيفرون، وموبيل، تكساس، جيب، وايلف)؟ (اوياك، 2006م، ص 8)

4- ما أثر الاحتباس الحراري على ذوبان الثلوج في قمم جبال أفريقيا؟

إن ذوبان الثلوج في قمة جبل الكليمنجارو (5895م) أعلى قمم أفريقيا يحيَر العلماء، وقد تختفي خلال عشرين أو خمسين سنة، كيف يؤثر ذلك على الذاكرة الجماعية أو الفردية للبشر؟.

ويقول الخبراء إن أول ذوبان للثلوج في جبال أفريقيا، بدأ عام 1880م، بعد الثورة الصناعية حسب ستيفن هايستنراث/ أستاذ الدراسات والأحوال الجوية في جامعة وسيكنسون، وهناك نظريتان حول ذلك:

أ- الاحتباس الحراري.

ب- قطع الأشجار – أو عدم انتظام الأمطار، لذلك يقول الخبراء:

“إن المؤسف هو أن الثلوج الوحيدة التي ستبقى من قمة كليمنجارو ستكون قريبا هي تلك التي ستخزن في برادات جامعة أوهايو”. (تومسونن، 2006م، ص 8).

5- ما علاقة ظاهرة الاحتباس الحراري بالنمو الاقتصادي العالمي؟

6- ما علاقة سيرورة العولمة بالإرهاب العالمي؟

إن كل هذه الظواهر والأحداث، وغيرها الكثير- ما هي إلا بعض الأمثلة التي يمكن أن تدل على الترابط، وذاتية الاحتواء التي يتحدث عنها فالرشتاين، وهي تعطي الباحث وتزوده بذلك الخيط الحريري الدقيق الذي يستطيع من خلاله أن ينظم باتساق واستشراف وأناقة أكاديمية رصينة، ما يمكن أن يبدو لغير المزوّد بآليات وفرضيات فالرشتاين، وكأنها أشتات وأخلاط لا يمكن الجمع بينها.

من ناحية ثانية، يرى فالرشتاين بأن التاريخ شهد نمطين من النظام العالمي هما:

1- الإمبراطوريات العالمية

2- الاقتصاديات العالمية

والتمايز الوحيد بين الاثنتين يتعلق بآلية اتخاذ القرارات في شأن توزيع الموارد (من يأخذ ماذا؟):

1- نظام إمبراطوريات- العالمية يمكن للنظام السياسي المركزي أن يعيد، باستخدام سلطته توزيع الموارد من مناطق الأطراف إلى منطقته المركز أو النواة. ويقول بأن هذه الآلية أخذت أيام الإمبراطورية الرومانية شكل دفع الضرائب.

2- النظام الاقتصادي – العالمي: على العكس تماما من نظام الإمبراطورية، فليس هناك سلطة مركزية واحدة، بل هناك قوى متعددة ومتنافسة، وبناء عليه لا يتم توزيع الموارد بنفس الآلية الإمبراطورية بموجب مرسوم- بل وفق اتجاهات وسيط اقتصادي هو السوق- ورغم اختلاف آليات التوزيع إلا أنه في النتيجة النهائية، فإن عملية انتقال الموارد من الأطراف إلى المراكز تبقى متساوية (هوبدن وجونز، 2004م، ص 276).

ويرى مارتينيز فيـــلا (Martinez Vela، 2006) بأن النظام العالمي عند فالرشتاين نظام اجتماعي، له حدود، وهياكل، وأعضاء وجماعات، وأنظمة قانونية، واتساق. والحياة داخل هذا النظام يصنعها الصراع بين القوى التي تريد كل منها الخير لنفسها.

ويتصف هذا النظام بأنه يشبه الكائن العضوي (Organism). وبناءً عليه، فإن له مسار حياة معينة يتغير أحيانا، ويستقر في أحيان أخرى، وهذه الحياة ضمن النظام كما أسلفنا- تتميز بذاتية الاحتـــــــــواء (Self- contained) وديناميكية التغيير هي داخلية إلى حدٍ كبير.

ويخلص (مارتنيز فيلا: Martinez-vela، 2006) في مقاربته أعلاه إلى أن منهجية فالرشتاين تتموضع تقريباً ما بين ماركس وماكس فيبر؛ فكلاهما كان ملهماً له وأن نظرية النظام العالمي، هي مقاربة أو منظور اجتماعي كلي (Macro Sociological) تهدف إلى تفسير ديناميكيات النظام الاقتصادي الرأسمالي كنظام اجتماعي شامل وبنفس الاتجاه يؤكد (هوبدن وجونز، 2004) بأن محور فكر فالرشتاين هو النظام العالمي؛ فهو يعتقد بأن وحدة التحليل المناسبة لدراسة السلوك الاجتماعي أو سلوك المجتمعات هي نظام عالمي”. (هوبدن وجونز، 2004م، ص 275).

ويرى فالرشتاين أن هناك صفتين تحددان أي نظام هما:

1- إن العناصر التي هي ضمن النظام مترابطة، وتوجد في إطار علاقة ديناميكية نشطة، وإذا كان لأحد “أن يفهم إسهامات كل عنصر ووظائفه وسلوكه فعليه أن يفهم موقعه ضمن الكل الذي يدور فيه. وقدرة الفرد أو العنصر للقيام بذلك ضمن النظام تعتمد على مقدرته على إدراك وفهم الكل (مارتينز-فيلا، 2006م، ص1، وهوبدن وجونز، 2004م).

2- إن الحياة داخل هذا النظام هي “ذاتية الاحتواء” بمعنى: “أنه إذا عُزل النظام عن المؤثرات الخارجية فإن نتائج التفاعلات داخله تكون متطابقة تماما.

وبهذا يتعين على أي باحث يسعى إلى تفسير التغيرات ضمن النظام أن يركز على هذه التفاعلات الديناميكية الداخلية التي تُحدث التغيير، لا أن يبحث عن العوامل الخارجية التي ليست من جنس النظام”. (هوبدن، وجونز، 2004م، ص 276).

وإذا انتقلنا إلى الجانب السياسي في النظرية، فإننا نلاحظ التركيز على ما يلي:

1- المؤسسات الاجتماعية كلها كبيرها وصغيرها في حركة دائمة من التكيف والتغير ضمن إطار النظام العالمي.

2- كافة العناصر داخل النظام في حالة تغيير.

3- النظام العالمي ذاته مرتبط بشكل كبير بحركة التاريخ خاصة وأن له بداية حددها فالرشتاين في القرن السادس عشر الميلادي.

4- إن النظام العالمي يقترب الآن من نهايته، نظراً لما يواجهه من أزمات؟!

5- إن الدول القومية هي متغيرات، وعناصر في النظام، حيث إن الدول تستخدم من قبل قوى الطبقات لتنفيذ مصالحها في دول المراكز.

6- الإمبريالية بمعنى سيطرة دول المراكز على دول الأطراف الضعيفة.

7- الهيمنة (Hegemony) وتعني وجود دولة في المراكز تسيطر مرحليا على البقية.

8- القوى المهيمنة، تعمل على إبقاء توازنٍ للقوى وتفرض التجارة الحرة، كلما كان ذلك في مصلحتها.

9- إن الهيمنة مرحلية، نتيجة لصراع الطبقات وانتشار فوائد التكنولوجيا.؟

10- هناك “صراع طبقات” عالمي: (global class struggle) (فيلا، 2006م، ص 4).

وعند الحديث عن مفهوم الهيمنة في نظرية فالرشتاين، نلاحظ بأنه قد وسع بحثه في هذا الجانب، خاصة باتجاه تحليله لموضوع الهيمنة الأمريكية.

فمثلاً في مقالةٍ له في مجلة اليســار الجديد: (New Left Review) نشرت في آب/2003م، قال فالرشتاين بأن الإدارة الأمريكية برئاسة بوش الابن، وبوجود الصقور في وزارة الدفاع، وفي ظل احتلال العراق، تستطيع أن تفعل ما تشاء لأن الرياح مواتيه لها، ويعتقد بأنها ستفعل ذلك على المدى المنظور. والآن ونحن في نهاية العام 2016م نستطيع القول بأن تحليل فالرشتاين كان دقيقاً في موضوع العراق خلال إدارة جورج بوش الابن، لكنها بالتأكيد؛ تغيرت مع قدوم باراك أوباما نسبياً.

ثم يقوم بتقسيم مراحل الهيمنة الأمريكية إلى ثلاث مراحل:

1- مرحلة أوج الهيمنة ما بعد حروب (945-967-973). هذا رغم أن هناك أشارت عن عقلية التوسع اقدم في التاريخ السياسي الأمريكي، فمثلاً الرئيس الأمريكي ثيودور روزفلت ذكر في كانون 1899م “بالطبع، تاريخنا القومي كله تاريخ توسع”. (باسيفيتش، 2004م، ص 21).

2- مرحلة التوسع (1973-2001م).

3- مرحلة الاستمرار بالتوسع (2001م- 2025 أو 2050م). وهذه مرحلة من الفوضى السياسية (Anarchy) التي لا يمكن التحكم بها؟!

وهنا يمكن أن تطرح الكثير من الأسئلة حول هذا الاستشراف الخاص عند فالرشتاين، ويمكن تلمس الكثير من المؤشرات المهمة على ذلك من خلال انتشار الفوضى خاصة بعد الربيع العربي واندلاع الحرب في سوريا واليمن وليبيا والعراق، وموجة الإرهاب الحديث مع بروز تنظيم داعش في العراق وسوريا وبوكوحرام في نيجيريا.

وبهذا المجال، ينقل (باسيفيتش، 2004م) عن الأكاديمي الأمريكي (ويليام ويليامز) أن الإمبراطورية الأمريكية نشأت من رؤية خاصة للعالم وعكست استراتيجية متماسكة منحها الشعب الأمريكي كل دعمه معتمدة على مذهب الأمميّة الليبرالية الهادف إلى فتح العالم للتجارة الامريكية، وأن الطريقة الوحيدة لضمان هذا الانفتاح، كانت عبر استخدام القوة، وهكذا تكييف الانفتاح مع منطق الإمبراطورية كي يلبي حاجات الرأسمالية الديمقراطية (باسيفيتش، 2004م، ص 50).

لكن؛ يجب أن لا يغرب عن البال أنّ فالرشتاين – وقد يكون محقاً بذلك إلى حدٍ بعيد –شكك بقدرة الهيمنة الأمريكية على القضاء على الإرهاب العالمي ممثلاً بالقاعدة في أوج قوتها قبل مقتل أسامة بن لادن من قبل القوات الخاصة الأمريكية 2011م.

طبعاً؛ أنا أتحدث هنا عن المساهمات الحديثة (لفالرشتاين) بخصوص تحليله لظاهرة الإرهاب العالمي بعد أحداث 11أيلول 2001م، من خلال دراسته (حرب بوش ضد الإرهاب: مدى التأكد من النتائج، 2002م) التي كان يرى فيها أن المشكلة الأساسية في استراتيجية الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن هي الافتراض الجريء الذي يصعب تصديقه بأن الولايات المتحدة بوسعها السيطرة على جميع المتغيرات الحاسمة في وضع عالمي مضطرب، يترافق مع ضعف وجبن ورعب أوروبي تجاه الولايات المتحدة. لكنها ورغم هذه السيطرة لن تستطيع “محو” الإرهابيين، وتجارب التاريخ والدول التي حاربت الإرهاب تثبت ذلك (كين وديون، 2005م، ص ص 129-135).

ونستطيع القول – مع فالرشتاين – أن تنظيم القاعدة نعم ضعُف بمقتل ابن لادن؛ لكنه لم ينته، أما ظاهرة الإرهاب العالمي بشكلٍ عام فأنها أصبحت مشكلة عالمية أخطر بوجود وجهٍ آخر للوحش يمثله الآن تنظيم داعش.

ما شكل النظام العالمي الحديث؟

النظام العالمي الحديث هو مثال لاقتصاد- عالمي- يتوحد ويتكامل من خلال الأسواق اكثر من المراكز السياسية. وهذا النظام نشأ في أوروبا قرابة مطلع القرن السادس عشر، وأن هذا القرن الذي وصفه فيرناند بروديل (Fernand Braudel) (أحد أهم المؤرخين الفرنسين الذين تأثر بهم فالرشتاين) بالقرن السادس عشر الطويل. ثم توسع حتى وصل وضعه الحالي، حيث لا يوجد مكان في العالم، إلا وقد انطوى بشكل كامل تحت تأثيره، وكانت القوة الدافعة وراء عملية التوسع (stretching) والضم هذه هي تراكم رأس المال، أو الرأسمالية بمعنى آخر، لذلك فإن “النظام العالمي الحالي، هو نظام رأسمالي” وهذا ما يمنحه قوته المحركة المركزية (فيلا، 2006م، ص 3، هوبدن وجونز، 2004م، ص ص 276-277).

وينقل (فيلا، 2006م) عن فالرشتاين، 1974م تعريفه الشخصي الأول “للنظام العالمي” بأنه تقسيم عالمي للعمل، حيث إن إنتاج ومبادلة السلع الأساسية والمواد الأولية ضرورية للحياة اليومية لجميع سكانه”.

إن تقسيم العمل يعود إلى “علاقات” و”قوى الإنتاج” للاقتصاد العالمي ككل، مما يؤدي إلى وجود منطقتين اقتصاديتين مُعتمدتين على بعضهما البعض، وهما: المركز (Core) والأطراف (Periphery) وهما مختلفتان ثقافيا وجغرافيا، حيث إن واحدة تُركّز على جانب الإنتاج كثيف رأس المال، والأخرى على الجانب كثيف العمالة (الأطراف)، والعلاقة بين الأطراف والمركز علاقة “بنيوية” (Structural)، وأن شبه الطرف هي دول تعمل كمنطقة عازلة (Buffer-zone) بين المركز والأطراف لكنها تملك خليط أنواع من النشاطات والمؤسسات الموجودة في المركز والأطراف وذلك حسب ما نقله (فيلا، 2006م، عن (سكوكبول: 1977م، Skocpol) (فيلا، 2006م، ص 4).

ويؤكد فالرشتاين بأن من أهم هياكل النظام العالمي الحالي، “تراتبـية القوة” (Power Hierarchy) بين المركز والأطــــــراف، حيث إن المراكز القوية والغنية تهيمن وتستغل ضعف وفقر الدول في الأطراف وتلعب التكنولوجيا دوراً رئيساً في تحديد مستوى هل تكون الدولة مركزاً أم طرفاً، وحسب توصيف (كريستوفر تشيس- دن، وجريمز: Chase-Dunn and Grimes، 1995) فإن الدول الأطراف تعرضت وبشكل بنيوي لتجربة نوع من التنموية التي تقيد إنتاج ذاتها كتابع مرتبط بالمركز في كل مرة. (فيلا، 2006م، ص 4).

إن التباين في قوة الدول المختلفة في المراكز، مهم جداً لبقاء النظام ككل، لأن الدول القوية تزيد من الفوائض إلى مناطق المراكز، (Skocol، 1977) وهذا ما أطلق عليه فالرشتاين “التبادل غير المتكافئ: Unequal Exchange” والذي يتجسد بالنقل الممنهج والمنظم للفوائض من الأطراف، وشبه الأطراف، إلى المراكز الصناعية المتقدمة تكنولوجيا، وهذا ما يؤدي إلى عملية تراكم رأس المال (Capital Accumulation) على المستوى العالمي، ويحوي على نقل للفوائض الاقتصادية من الأطراف. (فيلا، 2006م، ص 4).

النقد الغربي لنظرية فالرشتاين

لم تعجب نظرية فالرشتاين الكثير من منظري الغرب خاصة الأمريكيين، ويمكن القول إن جُل النقد كان موجها إلى بِنْية النظرية ومقارباتها الرئيسة من جهة أساسها الماركسي-اللينيني.

فمثلاً في نقده للنظرية؛ يدّعي (فرنسيس فوكوياما) في دراسته المعروفة: “نهاية التاريخ والإنسان الأخير 1993” بأن المراقبة الحصيفة (للأعجوبة الاقتصادية) الآسيوية لم تكن وقفاً على الكتلة الشيوعية؛ فلقد جرى تحول ملموس في الفكر الاقتصادي لأمريكا اللاتينية، ففي الخمسينيات عندما كان (راؤول باربيش)يدير اللجنة الاقتصادية لأمريكا اللاتينية في الأمم المتحدة كان يسود اعتقاد بأن التخلف في العالم يعود للنظام الرأسمالي بمجمله، وكان يقال بأن رواد الاقتصاد الأوائل في أوروبا وأمريكا، بنوا الاقتصاد العالمي لصالحهم وأجبروا الذين جاءوا بعدهم للوقوع في التبعية، لكن في بداية التسعينيات تغيرت هذه الرؤية للأمور بشكل كلي “مع مجيء رؤساء مثل كارلوس منعم في الأرجنتين، ساليناس في المكسيك، دي ميللو في البرازيل، بينوشيه في تشيلي الذين انطلقوا من حالة التخلف كما أن بلدانهم لم تكن رأسمالية بما يكفي، من جهة أخرى ثم دحض الأرثوذكسية الماركسية للمفكرين في أمريكا اللاتينية من قبل كتاب مثل فرناندو دوسوتو، فارنماس، وكارلوس رانجيك” وبدت الديمقراطية الليبرالية عقيدة الحرية والسيادة الشعبية (فوكوياما، 1993م، ص ص 68-69).

لكن نعوم تشومسكي وفي دراسته (الدول المارقة: استخدام القوة في الشؤون العالمية، 2004م) يعارض بشدة ما تحدث عنه (فوكوياما)، ويرى العكس، ففي المكسيك يدمر السكان، وترتفع نسبة البؤس، وصار معظم المكسيكيين اكثر فقراً من آبائهم، وتم القضاء على الزراعة، من خلال صادرات زراعية مدعومة من أمريكا، وانخفضت القوة الشرائية للمكسيكيين بنسبة (40%) منذ 1994م. وفي الحديث عن اتفاقية التجارة الحرة الأمريكية الشمالية (نافتا) وصفها بأنها أول اتفاقية تجارية في التاريخ نجحت في إلحاق الأذى بشعوب جميع البلدان التي وقعت عليها. (تشومسكي، 2004م، ص ص 218-219).

وقد يكون من المربك للباحثين في النظرية أن تكون هناك تباينات بين المنظرين السياسيين حول تعريف مفهوم العالم الحديث؛ والعصر الحديث وبداية هذا العالم. لماذا؟ لأن مفهوم “العصر الحديث” يختلف عن “العالم الحديث”. “فعمليّاً انتهى العصر الحديث- كما تقول المنظرة السياسية حنّة أرندت- الذي ابتدأ في القرن السابع عشر في بداية القرن العشرين؛ وسياسيا، ولد العالم الحديث، الذي نعيش فيه مع الانفجارات الذرية الأولى”. وتجدر الإشارة هنا إلى أن أرندت كانت من أهم المنظرين السياسيين الغربيين الذين نقدو الماركسية واتهامها بالكليانية (أرندت، 2015، ص ص 12-26).

المراجع

1-   أرندت، حنّة، (2015)، الوضع البشري، ترجمة هادية العرقي، جداول للنشر والترجمة والتوزيع، بيروت، ومؤمنون بلا حدود، الرباط، الطبعة الأولى، ص ص 25-26

2-   اوياك، ماريادي، مقالة بعنوان: نيجيريا: استمرار الإبادة الجماعية، ترجمة ماريا، أوخينيا الاركون، صحيفة (Autogestion) في صحيفة العرب اليوم، العدد 3422، 23/10/2006م.

3-   الاركون، أوخينيا، ماريا، مترجمة، استعراض لتقرير منظمة اكسفام لعام 2006م، عن النفقات العسكرية في العالم، نشر مترجما عن (GARA) الإسبانية في صحيفة العرب اليوم، العدد 3440، 13/11/2006م.

4-   باسيفتش، أندرو، الإمبراطورية الأمريكية: حقائق وعواقب الدبلوماسية الأمريكية، ترجمة مركز التعريب والبرمجة، الدار العربية للعلوم، الطبعة الأولى، بيروت، 2004م.

5-   أرندت، حنّة، (2015)، الوضع البشري، ترجمة هادية العرقي، جداول للنشر والترجمة والتوزيع، بيروت، ومؤمنون بلا حدود، الرباط، الطبعة الأولى، ص ص 25-26

6-   فوكويا، فرانسيس، نهاية التاريخ والإنسان الأخير، ترجمة: فؤاد شاهين، جميل قاسم، ورضا الشايبي، الإشراف والمراجعة والتقديم: مطاع الصفدي، مركز الإنماء القومي، الطبعة الأولى، بيروت، 1993م.

7-      عبدالحي، وليد، تحول المسلمات في نظرية العلاقات الدولية، مؤسسة الشروق للإعلام والنشر، الطبعة الأولى، الجزائر، 1994م.

8-   توميسونن، الين موزلي، عالمة قمم الحبال الجليدية في جامعة أوهايو، الرأي، 12/11/2006م، العدد 13193، ص8، عن وكالة (أف ب) نيروبي.

9-      تشومسكي، نعوم، الدولة المارقة: استخدام القوة في الشؤون العالمية، تعريب: أسامة اسبر، مكتبة العبيكان، الطبعة الأولى، السعودية، 2004م.

10-  ثورو، ليستر، مستقبل الرأسمالية، ترجمة: السيد عطا، مراجعة: محمد عناني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الأولى، مصر، 2005م.

11-  Smith, Steve Booth, Ken& Zalewski Marysia, International Theory: Positivism& Beyond, First Publisher. Cambridge University Press, UK, 1996.
______
*مؤمنون بلا حدود

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *