سكر أبيض .. الكومبارس يتكلم عندما ينام البطل

*طارق إمام

1

يتحقق الشريط السينمائي القصير «سكر أبيض»، للسينمائي المصري أحمد خالد، كمحاكاة بصرية لمنام.
ثلاث عشرة دقيقة هي زمن الفيلم، الذي شارك في عدة فعاليات سينمائية عربية ودولية، منها مهرجان «طنجة» للفيلم القصير المتوسطي، ملتقى ظفار العماني للفيلم العربي، «ركن الفيلم القصير» بمهرجان كان، والمسابقة الرسمية لمهرجان «أفريكاميرا» ببولندا. يبدأ الفيلم وينتهي داخل حلم لشخص لن نعرف عنه أكثر من صفته كـ«حالم» ولن نرى من العالم أكثر مما يراه عبر وعيه الباطن. كما نعرف، فإن الحلم يبدو (إذا ما نجح النائم في استعادته عندما يتحول إلى مستيقظ)، أطول زمناً بكثير من زمن تحققه الفعلي. وهكذا، فإن الدقائق التي تمثل زمن الفيلم هي في الحقيقة تجسيد لمنام لم يستغرق زمن وقوعه الفعلي أكثر من حفنة ثوان. هذا قلب أوّلي للمفارقة الزمنية المعتادة بين أي نص سردي والزمن الواقعي، حيث يكون الزمن الخارجي (الذي يحاكيه النص الفني) دائماً أطول من الزمن الفني «المضغوط».
كيف يمكن للصورة، المعنية بالظاهر، أن تكشف الباطن وتنجح في ترجمته مشهدياً؟ إنه سؤال أول اجتهدت التقنية كي تجيب عليه.
البطل من اللحظة الأولى، نائم، والشريط السينمائي بالكامل هو ما يحلم به: ما يراه. لذلك لن نرى أبداً وجهه، ولن تمنحنا الكاميرا أبداً تجسيداً مكتملاً له، ربما بالكاد يظهر جزئياً ملمح من وجهه أو جسده. البطل هنا «أنا» وليس «آخر» ترصده الكاميرا ويقع تحت سلطتها. البطل/‏‏‏ النائم هو من يرى. بالأحرى، ذلك النائم هو نفسه «الكاميرا»، يحل محلها بالكامل، وهو ما ترجمته كاميرا «خالد» بحرفية، بينما تتحرك محاولةً محاكاة حركة الجسد الإنساني نفسه وعشوائية العين الإنسانية التي لا تملك «قصدية» عين الكاميرا.
البطل، لذلك، هو نفسه السارد، حيث ينهض النص السينمائي بالكامل على تعليق متصل. لن يعمل التعليق أبداً على اتصال أيقوني بالصورة، بل يعمقها «شعرياً» بتأملات متلاحقة فيما يمثله العالم وفي مأزقه حياله: «الحقيقة الوحيدة اللي أعرفها.. إن طالما ما فيش غير عالم حقيقي واحد.. يبقى التاني مزيف».
في «سكر أبيض» يُختصر البطل بالكامل في «صوته»، كونه شخصاً بلا ملامح: أي، بلا صورة. يدعم ذلك تصور النائم لنفسه: «عمري ما كنت بطل».
لن نعرف شيئاً عن هوية البطل/‏‏‏ السارد: عمره، مهنته، مكانه الجغرافي، أو انتمائه الطبقي. إنه أيضاً مغزى عميق، يُعمق من إنكار الواقع، ففي الحلم هناك فقط «الوجود»، بينما يحتفي الواقع بالـ«ماهية».

2

ثمة مفارقة أولى مثيرة للدهشة، تتمثل في وعي النائم من اللحظة الأولى بكونه يحلم: «المكان ده أنا عارفه، أو جايز جالي الإحساس ده، علشان أنا دلوقت بحلم». هذه هي العبارات الافتتاحية التي يستهل بها النائم سرد ما سيلي من أحداث. لغة «المستيقظ» الواعية تسرد عالم «النائم» اللا واعي في مفارقة طويلة نجد فيها أنفسنا أمام شخص عليه الاختيار بين أن يظل حالماً أو أن يعود للواقع دون زيارة جديدة للمنام. كأن الصراع الحقيقي في هذا الفيلم على مستوى بنيته العميقة هو صراع اللغة والصورة كمعادلين لصراع اليقظة والنوم. وكأن على السارد/‏‏‏ البطل أن يختار بين اللغة النابعة من عالم الواقع/‏‏‏ اليقظة، والصورة التي تمثل اللاوعي/‏‏‏ المنام.
اللغة هي ابنة اليقظة، كونها ابنة الثقافة التي لا تتحقق بمعزل عن الوعي، على العكس من الصورة التي يمكن لها أن تتحقق في المنام مثلما تتحقق في الواقع، كون الصورة، كمعطى طبيعي، أسبق من اللغة كمعطى ثقافي.

3

كيف تُعلِّق لغة اليقظة على صورة المنام؟ إنها، في ظني، لعبة هذا النص.. وحيث لا يختلف الوعي بالنوم، إن أمكن له أن يتحقق، عن الوعي بالموت.
يُدخلنا الفيلم من اللحظة الأولى في رحلة قصيرة (غرائبية بالضرورة)، تتألف من خمس نقلات، تمثل خمس محكيات متصلة. من الجلي أن الفيلم ينتهج بنية الحكايات المولدة، فلا حكاية مركزية في الحلم. وهنا يتجلى طموح النص السينمائي في محاكاة البنية السردية للحلم، القائمة على مزق متشابكة بخيوط تظل واهية بمنطق الدراما التقليدي. اجتهد النص لمحاكاة عالم الحلم سردياً وبصرياً أيضاً عبر مشترك واحد هو الحالم، الذي يعمل كمنشور تتحد الأطياف وتلتقي عند نقطة وجوده. وحيث تساوي الحكاية، بالضبط، وجود منتجها.
يبدأ الفيلم بمغادرة الحالم لسيارته في ضاحية صامتة. يدلف إلى محل حلويات بلا استئذان. بنهم، يبدأ في التهام أصناف مختلفة بطريقة لا تخلو من برية، غير عابئ بالبائع الذي يراقبه باستغراب صامت. المشهد «الحسي» للفم الذي تنساب منه لزوجة الحلوى ما يلبث أن ينهض في مقابله مشهد حسي آخر لفتاة، تنهمك في مشهد حميم مع البطل. الطعام والجسد: كلاهما هنا وجه للآخر. وفعل الالتهام يبدو نفسه في الحالتين. في هذه المحكية يهيمن سرد البطل عن فكرة «البطولة» نفسها، فهو دائماً «ضيف في حلم شخص آخر»، هو «كومبارس» في منام يحتل بطولته شخص جدير بدور البطولة في المنام. يفعل السارد ذلك بينما انهمك في مشهد مع الفتاة الطارئة، وكأنه يعترف بكونه ليس بطلاً لها، كأنه استعارها من حياة رجل آخر. فكرة «البطولة» سؤال ملح، وكأن المنام يشترك مع الواقع في خصيصة واحدة على تباعدهما في جميع الخصائص الأخرى: تهميش الشخص النائم والتأكيد على كون وجوده زائداً، ملحقاً كهامش على متون أشخاص آخرين.
تنتهي المحكية الأولى لتبرز محكية ثانية، حيث يسرق اللصوص سيارة البطل التي تركها مفتوحة. يغادر المحل بسرعة لكن اللصوص يكونون قد غادروا. يستجدي الشرطة التي لا تعيره التفاتاً.
مشهد سريع، غير أنه يعمق من قلق السارد حيال صراعه: ماذا لو استيقظ ليجد أن سيارة «الواقع» سُرقت فعلاً؟
وفي انتقال ثالث سريع، يثبت السارد بصره على أسرة صغيرة تتناول طعامها، ليسرد حكاية فرعية عن رجل يختار في كل يوم شخصاً ليدفع الحساب عنه. يعود السارد للمحل، في نقلة رابعة ليدفع ثمن ما أكل. وهنا، في مفارقة مدهشة، يطلب من البائع أن يلتقط النقود بسرعة من جيب بنطاله، لأنه قد يستيقظ بين لحظة وأخرى. يخاف النائم أن يستيقظ، كأن اليقظة ترادف الموت، وفي قلب جديد لما اتفق عليه، يخشى أن «يغمض عينيه» فيعود للواقع، كأن النوم يرادف البقاء مفتوح العينين بينما يمثل الواقع – على مستوى رمزي – أن يحيا المرء مغمضاً: «كنت خايفا أرمش أو أغمض، لحسن أصحى، زي ما بيحصل لأي سبب».
تتحقق النقلة الرابعة عندما يهم السارد بالعودة لسيارته، فيفاجأ بطفل عابر يقذف في حقيبتها بعلب حلوى. يركض خلفه منادياً، فيعود الطفل متأبطاً رجلاً عجوزاً، يخبره بغموض أن شخصاً ما ترك له هذه العلب ومضى، قبل أن يمنحه علباً أخرى قائلاً إنها «من محله الخاص». سيترك السارد العلب كلها للطفل، ليكتشف، في نقلة أخيرة، أن معه «كيس سكر أبيض» هو ما سيصحبه للنهاية. كأن العثور على الطفولة وإحدى علاماتها هو، بالذات، العثور على الموت. هنا، سنتأكد مع الحالم أنه لن يستيقظ هذه المرة. الحلم هذه المرة يحقق النبوءة التي بذرها السارد في المشاهد الأولى: «أنا عارف أني في يوم هافضل مكمل.. وعايش هنا.. ومش هاصحى تاني».
الفيلم هو هذا اليوم، الأخير. النائم هذه المرة لن يعود للواقع. هكذا ينتهي النص بعتبة تكشف عن بعض سلمات، تحيل إلى سواد سادر ونهائي. حلم ينتهي بالموت (أو ربما بحلم آخر)، بدلاً من أن تقطعه الحياة. إن ذلك يحدث عندما يعترف السارد بأن أحلامه الأخيرة بدأت تصبح أكثر شبهاً بالواقع، وكأن المسافة عندما ضاقت، عندما أوشك العالمان أن يصيرا عالماً واحداً، حضر الاختيار النهائي، حاسماً وغير قابل للإرجاء: «النوم هو الخلاص.. هو الحقيقة والطريق».
ربما لذلك تتخذ وتيرة الغوص في شرط الحلم نسقاً تصاعدياً، يصير قوامه أكثر كثافة بالتقدم للأمام، حتى يتخذ العالم في النصف الثاني من الفيلم صورة أشد تجريداً، إلى أن يفقد قوامه المادي متحولاً بالكامل لصورة منعكسة على سطح السيارة ومرآتها مخلصاً لتشوشه النقي، وبحيث تتحد الموجودات في التأكيد على جوهرها كأشباح لوجود اندثر بالفعل. كأن التقدم في الحلم/‏‏‏ الفيلم هو تعميق لزحفه الحثيث على كافة المفردات الدخيلة من عالم الواقع، وبحيث يصفو الحلم في نهاية المطاف لنفسه، ولشرطه المستقل.
الحلم، ليس فقط «واقع» هذه التجربة، لكنه سؤالها. أي عالم هو الحقيقي وأيهما الزائف؟: «الحقيقة الوحيدة اللي اعرفها إن طالما مفيش غير عالم حقيقي واحد.. يبقى التاني مزيف». لعبة تقلب قانونها نفسه رأساً على عقب عندما يحضر تساؤل آخر: من أدرانا أن الحلم هو الواقع والعكس؟ أي عالم هو ما يمكن اعتباره عالمنا الحقيقي؟ وإن أمكن أن يكون النوم هو اليقظة الجوهرية.. فهل يمكن أن يكون الموت هو الحياة الحقيقية؟
___
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *