خـريف غامض

خاص- ثقافات

*محمود شقير

مرّت شهور الصيف كلها دون أن يبادلها الحديث.

بل إنه تحاشى في كثير من الأحيان الاقتراب منها، كي ينجو من ثرثرتها المملة، ومن حكاياتها الكثيرة التي لا تنتهي.

كان يأتي إلى المسبح في وقت متأخر من الصباح، يغمر جسمه في الجانب الضحل من الماء، ثم ينـزوي في ركن بعيد يتصفّح مجلة أو يقرأ كتاباً، وحينما يشتدّ لفح الشمس ينتقل إلى أقرب مظلة شاغرة، يتمدّد تحتها، يجيل نظره لحظة في أجساد النساء المتناثرات هنا وهناك، ينهمك في تدوين بعض الملاحظات التي قد تنفعه ذات يوم في كتابة رواية ظل ينتظر ولادتها أعواماً، فلم تغادر أعماقه حتى الآن.

لا يدري لماذا قرّر في هذا الصباح الخريفي أن يأتي إلى المسبح.

فالطقس لم يعد ملائماً للسباحة، والمسبح بدا خالياً من روّاده تقريباً. أحسّ بالأسى وهو يرى الكراسي الفارغة والطاولات الجاثمة في صمت، وتساءل: لماذا تبدو الأمكنة باعثة على الأسى حينما يهجرها الناس؟ حدق مليّاً في ماء البركة ، كانت هبات خفيفة من الهواء تترك تموجات رقيقة على وجه الماء.

أعاد على نفسه السؤال، لماذا قرر في هذا الصباح الخريفي أن يأتي إلى المسبح؟

ربما كانت تلك الفتاة التي جلست بالقرب منه قبيل أيام هي السبب، جاءت صحبة امرأة أخرى، عرف خلال الحديث العفوي الذي جرى بينه وبين المرأتين، أنها زوجة أخيها، وقد جاءتا للمرة الأولى إلى المسبح، وهي، كما يبدو، لم تجئ للجلوس بالقرب منه عن قصد مسبق، كل ما في الأمر أن كرسياً من تلك الكراسي التي يمكن فتحها إلى أقصى حدّ ممكن، لكي تتحوّل إلى سرير مريح، كان شاغراً، لذلك جاءت وتمدّدت هناك. لحقت بها زوجة أخيها وجلست على حافة السرير، فظهر نصف نهديها تقريباً دون أن يبدو عليها أي ارتباك. راحت المرأتان تثرثران حول مسائل كثيرة كما لو أنهما في البيت، ولم تتوقفا عن توجيه الحديث إليه كما لو أنه أحد أفراد الأسرة. كان منظره يوحي بشيء من الألفة التي جعلت المرأتين غير منتبهتين إلى أنهما تتحادثان مع رجل غريب، بل إن زوجة الأخ قالت للفتاة دون تردد: حينما يرزقك الله بابن الحلال الذي سينال إعجابك، ستأتين معه إلى المسبح طوال أشهر الصيف. ردت بهدوء وثقة: لست مستعجلة على الزواج. كانت فتاة جميلة في السابعة والعشرين. قال لها دون مقدمات: أنت في سن مناسب للزواج. قالت: أعرف، لكنني أحب أن أختار عريسي بدقة وانتباه. قال لها: أنت جديرة بعريس ممتاز. ابتسمت، وزوجة الأخ قالت: فعلاً إنها جديرة بعريس ممتاز. حلّت لحظة صمت، تشاغلت زوجة الأخ بالنظر إلى البركة حيث يسبح بعض الشبان وهم يتصايحون. مرّت الفتاة بباطن كفها على بطنها العاري، قبضت بكلتا يديها على أطراف سروال السباحة الزهري الذي ترتديه، وأنـزلته إلى ما تحت سرّتها، ظهر شيء من شعر عانتها، بعد لحظة أعادت السروال إلى موقعه. كان كل قصدها أن تعدّله على جسدها، لم تشعر بأي حرج وهي تفعل ذلك أمام الرجل الذي بدا وكأنه أحد أفراد الأسرة. بعد استراحة قصيرة نهضت الفتاة وزوجة أخيها وانطلقتا إلى الماء، لم تخرجا من هناك إلا قبيل الغروب، خرجتا، لملمتا أشياءهما بسرعة وغادرتا البركة، والرجل غير قادر على استجماع أفكاره المشتّتة، لكي يقول للفتاة شيئاً، أو لكي يسألها إن كانت ستأتي في اليوم التالي إلى المسبح، أو في اليوم الذي يليه، بل إنه لم يعرف اسمها، لم يجد وقتاً لكي يسألها عن اسمها، على الأصح، لم يجد مناسبة لطرح مثل هذا السؤال عليها، لكنها في حقيقة الحال مسّت قلبه، ولم يشعر بأنه هو الزوج المناسب لها، فلماذا أصابه كل هذا الانجذاب نحوها؟ وما جدوى ذلك، ما دامت معنية بالتدقيق في عريسها المنتظر، الذي سيكون بكل تأكيد، أصغر منه بعشرين سنة على أقل تقدير؟ قال لنفسه: كل شيء ممكن في هذه الحياة، لماذا لا يكون هو عريسها المنتظر؟ (خذ بيكاسو مثلاً، الذي أقام علاقة دامت عشر سنوات، مع فتاة في الثانية والعشرين من عمرها وهو في الثانية والستين. لكنك لست مشهوراً مثل بيكاسو. ومع ذلك، من يدري؟) قرّر أن يأتي في اليوم التالي إلى المسبح لعلها تأتي. جاء في اليوم التالي، وجاء في الأيام العشرة التي تلت ذلك، ولم تأت الفتاة، كأنها لم تكن ذات مساء تتمشى هنا فوق بلاط المسبح بكل خيلاء. اغتمّ باله وتحسّر على تلك اللحظة العابرة، التي لم يستطع استثمارها على نحو معقول. فكر أن يجوب أحياء المدينة وشوارعها لعله يعثر عليها أو يلتقيها صدفة. لم يفعل ذلك، اكتفى بالمجيء إلى المسبح لعلها تعود إليه ذات يوم.

دقّق النظر في الجهة البعيدة التي يقع عندها كشك البوظة المغلق، رأى امرأة تجلس هناك. لم يعرف أنها هي دون غيرها، لأن حشداً من أرجل الكراسي والطاولات وقف حائلا بينه وبينها. كانت كعادتها كلما خرجت من الماء، تمشّط شعرها، أو تضع على خديها أصباغاً مختلفة، أو -وهذا قليل الحدوث عموماً – تبكي بصمت، فيحتشد من حولها الأولاد والبنات، يسألونها عن سبب البكاء، فلا تكفّ عنه ولا تجيب السائلين.

جلس في الجهة المحاذية للمسبح، تأمل نوافذ الفندق القريب: إنها مغلقة بإحكام، فثمة ريح خفيفة وغبار، ولا أحد من زبائن الفندق معنيٌّ بالسباحة كما في الأيام الخوالي، إلا أنه في اللحظة ذاتها رأى صبياً يخرج من صالة الفندق وهو بملابس السباحة، ألقى الصبي بجسده في الماء دون احتراس، تابعه مراقب المسبح بانتباه، إلى أن وصل الجهة الضحلة من الماء، ثم عاد إلى الاسترخاء في كرسيه وكأنه على وشك أن ينام.

انتبه الرجل فجأة، فإذا بالمرأة تقف على مقربة منه، وفي يدها كرة مطّاطية، بدا مصعوقاً للحظة حيث لم يتوقّعها بتاتاً. قالت بعفوية زائدة ودون مقدمات:

_ هيا، سنلعب أنا وأنت في الماء.

جذبته من ذراعه، مضت تتقلقل مثل حافلة وهو يسير خلفها دون رغبة منه، حاولت أن تمازحه بدفعه إلى جوف الماء، تمسّك بالسياج الحديدي:

_ اتركيني، سأنـزل في الماء وحدي.

قفزت، هوت في قلب الماء، أثارت من حولها دائرة واسعة من الرذاذ. مدّ قدميه بحذر، هبط في الجهة الضحلة، خوّض في الماء وهو يرتجف من شدة البرودة. رمت الكرة في اتجاهه، قالت له إن ذلك ضروري لمقاومة البرد. استمرّت اللعبة، أحس بالسأم بعد وقت، همَّ بمغادرة الماء، تشبّثت به :

_ سأعلّمك لعبة أخرى.

جعلته يقف على أرضية المسبح فاتحاً ساقيه على وسعهما، سبحت تحت الماء ودخلت من بين ساقيه، حينما ابتعدت عنه توقفت عن السباحة:

_ الآن جاء دورك، هيا ادخل بين ساقي.

أحسّ بالحرج، كان فخذاها في غاية الامتلاء، حدق في عينيها ليتأكد من نواياها، لم يستطع أن يرصد شيئاً محدّداً، تشاغل بالنظر إلى الصبي الذي اقترب منهما، وهو يسبح بمهارة، وعيناه تلمعان مثل عيني سمكة. حدجه الرجل بنظرة زاجرة، فانثنى مبتعداً وهو يغمر وجهه تحت الماء.

نادته من جديد، خجل أن يخبرها بأنه لا يجيد السباحة، قال:

_ لا أجيد الغطس.

اقتربت منه، حاولت أن تجره إلى الجهة العميقة من الماء، تملّص منها في خوف، ضحكت ثم انهمكت لحظة ترنو إلى المراقب وهو يقفز في الماء ويسبح مثل دلفين:

_ هل أناديه لألعب معه؟

_ افعلي ما تشائين، أنا لا دخل لي.

_ لا، لن أناديه، سأبقى إلى جوارك.

استدار الرجل ومشى بصعوبة في الماء ثم خرج، تبعته فوراً، ركضت إلى حيث حقيبتها وملابسها، حملت كل شيء واتجهت نحوه، وقفت قربه وهو ينشّف جسده المرتجف:

_ من ينظر إلى الشيب في رأسك يعتقد أنك تجاوزت الخمسين.

قال في مناكفة مقصودة:

 _ تجاوزت الخمسين فعلاً.

_ مع ذلك، ما زلت في غاية الصحة والشباب.

تجاهل كلماتها، لام نفسه لأنه جاء إلى المسبح هذا اليوم. تمدّد على البلاط بحثاً عن شيء من الدفء، استمر هواء الخريف يلسع جسده. أدركت أنه يتجنب الحديث معها، صمتت وراحت تمشط شعرها كالعادة. حدق في السماء، رأى غيمة قادمة من بعيد، استعرض حياته: وجدها سلسلة متلاحقة من الخيبات والأحزان. أخرج دفتراً وقلماً، دوَّن بعض الملاحظات التي قد تساعده على كتابة الرواية المنتظرة.

ألقى نظرة سريعة على المرأة، لم تكن تعيره اهتماماً، ويبدو أنها نسيته تماماً. تأملها خلسة، ولأول مرة وجد فيها كائناً يملك أن يقول شيئاً له دلالة ما. قال وهو يرنو نحو الغيمة التي أخذت تقترب:

_ هل تحبين التأمل في السماء؟

لم ترفع رأسها نحوه، قالت دون اهتمام:

_ ليس دائماً، أنا مشغولة في أغلب الأوقات.

_ هل تعيشين وحدك؟

توقفت فجأة عن صبغ خديها، حدقت فيه وفي عينيها شك ما:

_ كيف عرفت؟

_ أنا لا أعرف شيئاً، إنه مجرّد سؤال.

_ رأيتك قبل أيام وأنت تتجوّل في حينا، عرفتك وأنا أتابعك من الشباك.

_ لا أذكر أنني تجولت في أي مكان منذ أسابيع، ربما رأيت شخصاً يشبهني.

_ أنا متأكدة من كلامي، وأعرف لماذا كنت هناك، كنت تبحث عنها.

_ من هي؟ من هي التي كنت أبحث عنها؟ (هل ثمة من يقرأ أفكاري ويقوم بتجسيدها في مكان ما؟)

_ تعتقد أنني بلهاء، لا أعرف شيئاً! رأيتها وهي تكشف لك عن أسفل بطنها.

_ ما الذي تقولينه يا امرأة؟ الأفضل لك أن تكفّي عن هذا الكلام.

عادت إلى الانهماك في أخذ زينتها بحيث بدت وكأنها لا تشعر بوجوده مجدّداً. أدرك أنه أمام امرأة مثيرة للفضول، مرّت في أعماقه لحظة ندم لأنه ظل يتجاهلها طوال الوقت. فكر أن يسألها إن كانت تعرف أين تسكن الفتاة، أيقن أنها لن تدله على بيتها حتى لو كانت تعرف أين يقع. عليه تأجيل السؤال حول ذلك، سيطرح عليها السؤال في الوقت المناسب. والآن، ثمة فرصة ملائمة لجمع معلومات قد تفيده في كتابة الرواية، اقترب منها:

_ أحب أن أسمع منك كل شيء عنك أنت بالذات، قد أكتب عنك شيئاً ذا بال.

_ هل أنت كاتب؟ مش مبين عليك أنك كاتب.

_ إنني كاتب، وأنا لست من الذين ينتحلون صفات ليست لهم.

أغمضت عينيها لحظة:

_ وأنا طفلة، سكن في قبو مجاور لبيتنا كاتب، حذّرتني أمي منه، قالت إياك أن تقتربي من غرفته، لأنه يقبض على الأطفال، يضعهم في حقائب سوداء، ويرسلهم إلى أماكن مجهولة.

_ هل تصدقين هذا الهراء؟ الكتّاب أناس مسالمون. إنهم الأكثر مسالمة في هذا الكون.

_ كلامك صحيح، بس في هداك الوقت خفت وصدّقت. عن أيش بدك تكتب بالضبط؟

_ عنك وعني وعن أوضاعنا المفجعة. هل هناك شيء آخر؟

_ وما علاقتي أنا بالأمر؟

_ أنت، وأنا، والآخرون جزء من هذه الأوضاع.

_ ما بتخاف؟

ابتسم محاولاً إخفاء غروره:

_ إذا كنت لا تمانعين فسوف أسألك عدداً من الأسئلة، ولا داعي للتفاصيل المحرجة، هل توافقين؟

أخذت تجمع ملابسها المتناثرة:

_ لماذا لا أوافق؟ طبعاً أوافق، بس مش اليوم.

_ متى إذاً؟ هل ستذهبين الآن؟

_ أنا آسفة. فطنت إلى أن لدي موعداً مع الطبيب، هل يمكن تأجيل ذلك إلى وقت آخر؟

_ ما دامت هذه رغبتك فليكن. هل يناسبك الغد؟

_ طبعاً. لماذا لا يناسبني؟ هنا، في هذا المكان؟

_ معقول جداً. وإذا كان الطقس بارداً، نجلس في صالة الفندق ونشرب شيئاً ساخناً.

في الصباح التالي، وصل إلى المسبح مبكّراً بعض الشيء.

كان الطقس أميل إلى البرودة، وثمة احتمالات لسقوط المطر، لم يجد في المسبح أحداً. اتجه إلى صالة الفندق، احتسى فنجان قهوة، انتظر طويلاً، لكنّ المرأة لم تأت، ظلّ يقلّب الأمر في ذهنه ويفكر في الأسباب التي حالت بينها وبين المجيء، حتى بلغت به الحيرة منتهاها. قرّر أن ينتظر حلول الصيف القادم، لعله يراها من جديد، ولعلها تدله على مكان تلك الفتاة التي حكمت عليه حكماً قاسياً بذاك الغياب.
________

*روائي وقاص فلسطيني

من مجموعته القصصية “صورة شاكيرا”/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ 2003


شاهد أيضاً

قصة “الظل” لإدغار آلان بو

(ثقافات) قصة الظل[1]. إدغار آلان بو ترجمة: عبد القادر  بوطالب                أنت الذي تقرأ ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *