الجنازة

خاص- ثقافات

*حازم شحادة 

كانت جنازةً عادية لجنديٍّ سوريٍّ عادي.
حضرَ أهلُ قريتهِ من ذوي الدخلِ المحدودِ وبعضُ الرِفاقِ البعثيين من ذوي الدخلِ غير المحدود.
كفنوا الشهيدَ بعلمِ البلادِ المُختلفِ عليه بينَ أطرافِ الحربِ العاصفةِ بالبلاد، ثمَّ مشى الجميع.
حين وصلوا المقبرة تولّى بعضُ الشبابِ مهمة إنزالهِ إلى القبر.
في تلكَ الأثناءِ كانت السماءُ صافية والعصافيرُ تُغرِّدُ.
ـ الطبيعة لا تهتمُّ كثيراً بمزاجِ البشر.
قالَ رجلٌ كهلٌ للشابِ الماشي إلى جواره..
لم تتركِ العبارةُ أيَّ أثرٍ في نفسِ الشابِ فهمسَ بإذنِ صديقهِ الماشي إلى جواره في الجنازة:
ـ متى سيكفُّ هؤلاء الحمقى عن اعتبارِ أنفسهم حكماءَ لمجردِ أنّهم كبروا في السِّن.
نظرَ الرفاقُ الحزبيونَ إلى ساعاتهم تباعاً داعينَ ربَّهُم أن تنقضي المراسمُ بسرعةٍ فقد كانَوا يشعرُون بجوعٍ شديد.
كانت أمُّ الجندي صامتة وقد لفَّها الجنونُ من رأسها حتى أخمصِ قدميها.
حولها، جلوساً على الأرض، تجمَّعت نسوةٌ ناحباتٌ مرتدياتٍ الأسودَ الفاحم.
كلُّ شيءٍ بدا عادياً في تلك الجنازة العادية لجنديِّ فقير..
حتى الشيخ الذي تولّى مهمة الصلاة على روحه ساورهُ شكّ عنيفٌ بعدَ خمسِ سنواتٍ وآلاف الجنائزِ..
لكنه استغفرَ ربهُ.. وتابعَ الصلاة.
كلّ شيءٍ كانَ عادياً.
صوتُ القرآن الحزين.
الملامحُ المرهقة لكائناتٍ خائبةٍ تنزفُ دماً وألماً و..حياة..
أسلاكُ الكهرباء المقطوعة التي لا تؤذي أحداً.
الشوارعُ الإسمنتية المُحَفَّرة..
حفيفُ أجنحةِ الشياطينِ فوقَ البلدِ غيرِ الأمين.

لكن..
عندما اقتربَ والدُ الشهيدِ من قبرِ ابنه وقفزَ فيه ثمَّ تمدَّدَ قربهُ..
وحينَ شقَّ صوتٌ مفجوعٌ قلبَ السماء..
ـ فوقنا سوياً.. فوقنا يا أخوتي أهيلوا التراب.
لم تعد تلكَ الجنازة عاديةً.. على الإطلاق.

____
*شاعر وكاتب قصة قصيرة من سوريا

شاهد أيضاً

قصة “الظل” لإدغار آلان بو

(ثقافات) قصة الظل[1]. إدغار آلان بو ترجمة: عبد القادر  بوطالب                أنت الذي تقرأ ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *