ماريا.. ماريا

*أمجد ناصر

قال الرجل: أنا الآن في السبعين، ما الذي يرجوه رجل في السبعين، بل ماذا يفعل رجل في السبعين قادم من بلد بعيد في ردهة فندقٍ قاتمٍ كروح هذه البلاد، كسمائها، كحاناتها، كألوان بزات الرجال الخارجين بمظلات ملونة من العالم السفلي لا يلوون على شيء؟ ماذا أفعل هنا بحق السماء؟

تذكَّر أنه جاء إلى هذه المدينة جندياً في الحرب. كان شاباً في الخامسة والعشرين، وفي حانة قاتمة قاتمة، ذات جدران قاتمة، ووجوه رواد قاتمة رأى ذلك الوجه الذي أنار، فجأة، كل شيء: الحانة، ورق الجدران، وجوه الرجال القاتمين العاكفين، بإخلاص ديني، على كؤوسهم. هل يمكن أن تطلع شمس في حانة قاتمة؟ في ليل قاتم؟ شمس صغيرة ضاحكة تلمع في ليل قاتم وتضيء جوانبه؟ ليل قاتم. ليل ثقيل. كرَّر الرجل السعبيني تلك الكلمات أكثر من مرة. لو كان الرجل السبعيني يعرف امرأ القيس، لقال إنه ليلٌ كموج البحر أرخى سدوله، ولكنه لا يعرف امرأ القيس فقال إنه ليل قاتم. ليل ثقيل.

آه.. “ماريّا”، “ماريّا”. قال الرجل السبعيني. تلفظَّ بهذا الاسم كتعويذة. نطق حروفه بتمهلٍ حرفاً حرفاً كمن يستعيد حلاوة عرفها فمُ شابٍ في الخامسة والعشرين من عمره. كان اسمها “ماريّا”… كانت… انقطع بث راديو سيارة يقودها رجل خمسيني يستمع إلى حكاية الرجل السبعيني في شارع في المدينة القاتمة نفسها ولم يعرف، المستمع الذي راح ينجذب الى الحكاية، إن كانت “ماريا” نادلة في تلك الحانة أو مجرد زبونة عابرة. لكن الرجل السبعيني التقى “ماريا”، بالتأكيد، في تلك الحانة، في ذلك الليل الثقيل. كانت عندما تتحرك يتكهرب كل شيء حولها. شمس صغيرة ضاحكة أنارت روحه الشابة الذاهبة الى حرب…

دخلت سيارة الرجل الخمسيني شارعاً انقطع فيه البث عند نقطة حاسمة في الحكاية، لكن صوت الرجل السبعيني عاد مرة أخرى يروي حكايته وهو يجلس في ردهة فندق ينتظر حدثاً تمناه طويلاً. يقول الرجل السبعيني إنه لم يصدق، أصلاً، أنَّ الحب يمكن أن يحدث هكذا من شرارة قدحت في ليل قاتم، لكن إن لم يكن هذا الذي يضيء جانباً من ليل المدينة ويختطف الأعماق، هذا الذي ترتجف له الأوصال، هو الحبُّ فما عساه يكون؟

ينقطع البثُّ مرة أخرى، لكن الرجل الخمسيني الذي يقود سيارته في نفس المدينة القاتمة يستنتج أنَّ “ماريا” أحبَّت، بالانجذاب نفسه، الشاب ذا الخمسة والعشرين عاماً الذاهب الى حرب تدور على الجانب الآخر من الحدود، وأنهما توعدا، إن عاد حياً، على حياة طويلة بعد ذلك . كان قد حدثها عن بلدته الصغيرة ومزرعة عائلته والسماء المنقشعة هناك، والأولاد الذين سيأتون، ويمكنهما أن يفكِّرا، منذ هذه اللحظة، بالأسماء. ولكن كلا. لندع الأسماء لاحقاً. يقولان.

انتهت الحرب. خرج منها الرجل، الذي ترك قلبه في مدينة قاتمة، حيّاً. عاد الى بلاده مباشرة ولم يمرّ بمدينة “ماريا”. هكذا رتبت القيادة عودة الجنود. كلّ محاولاته للمرور بمدينة “ماريا” باءت بالفشل. لكنه يحتفظ، إلى جانب صورتها في محفظته الجلدية، بعنوانها. صورتها كانت حرزه الحريز، ولعلها هي، لا شيء آخر، التي نجَّته من الهلاك في حرب هلك فيها كثيرون. يكتب إليها فور عودته الى دياره. يقول إنه حدَّث والديه عنها، وإنهما أحبَّاها، بالسمع، مثلما أحبَّها هو، وإنه جهزَّ بيت الزوجية في المزرعة.. فتعالي بسرعة.. تعالي بسرعة.

ينهض الرجل السبعيني من أريكة الفندق المريحة. ينظر إلى ساعته. العقارب اللعينة تكاد لا تتحرك. الوقت بطيء ومراوغ. يتمشَّى قليلاً في الردهة. ينظر إلى الشوارع المضيئة في الخارج. يسمع حركة الناس المتعجّلين دخول العالم السفلي. يعود إلى أريكته ويقول لنفسه: أنا الآن في السبعين. مرَّت مياه كثيرة تحت الجسر. كيف أمكن لي ألا أنسى ذلك الوجه طيلة هذه السنين؟ بل كيف تسنَّى لي أن أنسى فعلتها التي لم تفسرها قط؟ آه ماريا. ماريا. كيف فعلت ذلك بي، يقول.

لم يكن الرجل الخمسيني يسوق سيارته في نفس المدينة القاتمة، مدينة “ماريا”، على غير هدى. إنه ذاهب إلى موعد مع صديق في وسط المدينة ويخشى أن يتأخّر كعادته. لكن حكاية الرجل السبعيني التي يبثّها راديو سيارته أسرته، ويريد أن يسمعها حتى النهاية. يبدو أن قدرته على تقمّص الشخوص والمشاعر لم تغادره رغم أنه دلف الى خمسيناته.

يعود الرجل السبعيني إلى أريكته ويظل ينظر الى الساعة. ثم يتذكَّر أنها حجزت، كما أخبرته في رسالة برقية، مقعداً على متن باخرةٍ ستصل إلى ميناء مدينته في اليوم الفلاني. يقول الرجل: لا أعرف كيف مرت الأيام التي استغرقتها رحلة الباخرة حتى وصلت إلى الميناء. ذهبت قبل وقت طويل من وصول السفينة. تأنقت كما لم أفعل من قبل. نظرت كذا مرة الى المرآة. تحسست ذلك الخافق بين أضلاعي وقلت له: لا بأس. لن يطول الوقت. ثم رأيت السفينة ترسو في الميناء. خرج الركاب المنهكون من رحلة شاقة وطويلة تباعاً، ولكنها لم تكن بينهم. لم أر ذلك الوجه المنور، ولا تلك المشية الهشة. سألتُ عنها فقالوا إن هناك أمتعة بالاسم نفسه موجودة في الشحن ولكن من دون الراكبة.

يأخذ الرجل أمتعة المرأة التي لم تأت. يغالبه الفضول فيفتح أحد الصناديق. يجد فيه ثياباً تشبه ثياب العرس. كانت هيأت كل شيء، يقول الرجل لنفسه. ولكن لماذا لم تأت؟ ماذا حصل؟ ما حصل سيعرفه بعد أن تصله رسالة قصيرة منها بعد أيام. الرسالة تقول التالي: آسفة، لم أستقل السفينة في اللحظة الأخيرة. لم أستطع المجيء، أعرف أنني قطعت وعداً بذلك ولكن لا يستطيع المرء، أحياناً، الحفاظ على كل الوعود التي يقطعها. أعتذر مرة أخرى، راجية أن ترسل أمتعتي إلي. كان يريد أن يعرف لماذا لم تأت؟ سطور الرسالة وغموض كلماتها لا تشفيان الغليل. ما الذي حصل؟ هل التقت شخصاً ما قبل الرحلة بلحظات ووقعت في غرامه؟ ولكن كلا. يصعب تصديق ذلك. ليس في آخر لحظة تقع أشياء كهذه. هل امتحنت علاقتنا، قبل أن تضع قدماً على درج السفينة، ولاح لها الأمر غريباً برمته؟ يتأوه الرجل السبعيني، ثم يقول: ولكن علاقتنا كانت حقيقية. حقيقية؟! يتساءل. ما معنى هذه الكلمة؟ لم أعد أعرف. المهم أنه قرر، بأثر من الصدمة، ألا يعيد الأمتعة، بل سيمزق الثياب. يقول الرجل السبعيني إنه فعل ذلك لأنه جنَّ جنونه. ندم، لاحقاً، على ما فعل. كان عليه، أضعف الإيمان، أن يحتفظ بقطعة منها!

يتشوَّش البثُّ المنبعث من الراديو، يحاول الرجل الخمسيني أن يضبطه ولكن من دون جدوى. يريد أن يعرف ماذا حصل بعد ذلك. ما حصل يمكن استنتاجه من السياق. فقد تزوج الرجل السبعيني من فتاة أخرى، رائعة كما يقول، من بلدته. كم مضى على زواجنا؟ يسأل نفسه. ثم يجيب: خمسة عقود. إنه زمن طويل، يقول الرجل السبعيني، ويضيف: حتى إن كلبه الثاني الذي اقتناه بعد موت كلبه الأول بات هرماً جداً الآن.

أثناء تقطّع البثّ يفهم الرجل الخمسيني، من سياق القصة، أن هناك اتصالاً حصل بين الرجل السبعيني و”ماريا” وأنهما اتفقا على اللقاء في مدينتها، في فندق قريب من مكان لقائهما الأول. وهذا هو اليوم الموعود. بعد قليل ستحضر. كيف حصل الاتصال بعد نحو خمسة عقود على افتراقهما لم يعرف الرجل الخمسيني، وليس ذلك مهماً. المهم أن اللقاء سيحصل. يتذكَّر الرجل السبعيني أن لماريا شعراً كستنائياً وخصراً ضامراً وصدراً مندفعاً إلى الأمام. يتساءل : أما يزال شعرها يحتفظ باللون نفسه؟ أما يزال لها ذلك الخصر الضامر؟ أم أن الأيام فعلت بشعرها وخصرها ما فعلته بشعره الذي شاب وتساقط ومحيط بطنه الذي أصبح مدوراً. ولكن الأهم، يتساءل الرجل السبعيني: أما تزال تمتلك ذلك اللمعان الذي يشعُّ من عينيها، خصوصاً، عندما تضحك؟

ليس مهماً، المهم أن تحضر. هذا ما يقوله.. ينظر إلى ساعته ويعرف أن الوقت قد أزف.

لكن سيارة الرجل الخمسيني تدخل، مجبرةً، في الطريق الى الموعد في نفقاً طويلاً، فينقطع البثّ. يسرع أكثر مما هو مسموح لسيارة تسير في نفق، لكن النفق اللعين يكاد لا ينتهي، وما إن يخرج من النفق ويعود البثُّ مرة أخرى حتى يسمع الرجل السبعيني يقول: أنا الآن في السبعين، كم سأعيش؟ خمس سنين، ست سنين، أتمنى، طبعاً، أن تكون عشراً. حينها سيكون، بالتأكيد، قد مات كلبي، وسنقتني كلباً آخر. ستطلب زوجتي أن نسميه بالاسم نفسه أيضاً، وسأقبل على الأغلب.

يعرف الرجل الخمسيني أنه يستطيع سماع القصة معادة في وقت آخر. فهذا ما تدأب عليه الإذاعة الرصينة التي لا يستمع إلى غيرها. لكنه لم يفعل. فهو يريد أن يحتفظ، في نفسه المتردّدة، بالاحتمالين قائمين: أن لا تكون حضرت في آخر لحظة كما فعلت قبل أكثر من أربعين عاماً، لكي تُبقي، ربما، تلك الذكرى بنداوتها الأولى، أو أن تكون حضرت ولم تكن هي التي توقعها بعدما نكلت بها الأيام.

تذكَّر الرجل الخمسيني شاعراً ستبقي من مجلد أعماله، بعد أن يتغمده النسيان برحمته، بضعة سطور، كتب قصيدة يتحدث فيها عن “بنلوبي” التي انتظرت “عوليس” عشرين سنة، ولما وصل قالت لنفسها: آه، أمن أجل هذا الرجل الرث ذي الركبة الجريحة ظللت أحوك لهفة صامتة كل هذه السنين؟!

طبعاً قد تكون للقصة نهاية ثالثة.. ولكنه لن يعرفها، بل لا يـــريد أن يعرفها.
________
*ضفة ثالثة

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *