آرثر ميللر في مواجهة الوهم الأمريكي

القاهرة- هو أحد أهم كتاب الدراما في القرن العشرين، كما يعد أبرز كاتب مسرحي أمريكي على الإطلاق. نالت أعماله الدرامية شهرة عالمية واسعة، وترجمت إلى لغات عديدة، كما تم عرضها على أغلب مسارح العالم بمعالجات مختلفة، خاصة مسرحية: «موت بائع متجول»، التي يعتبرها النقاد واحدة من أفضل المسرحيات الأمريكية، و«عربة تجرها الرغبة»، و«كلهم أبنائي». اكتسب آرثر ميللر تلك الشهرة لأنه استطاع التعبير عن مأزق المواطن الأمريكي أثناء فترة الكساد العظيم في مطلع الثلاثينيات وما بعدها، كما عكست أعماله انحيازاً جمالياً وفكرياً شديد الوضوح، ومن يقرأ أعماله يدرك أن الحلم الأمريكي كان مجرد وهم باهظ الثمن، ينهك الجسد ويقتل الروح، ومن يقرأ سيرته الذاتية، يدرك أنه كان ضحية للنظام الأمريكي أكثر من مرة.

شهد ميللر تقلبات درامية خلال عمره الطويل، إذ ولد عام 1915 في نيويورك لأسرة ثرية، إلا أن الأزمة الاقتصادية التي بدأت عام 1929 أصابت الأسرة بالإفلاس التام، وكان عليه أن يعمل في الرابعة عشرة من عمره ليساهم في إعالة الأسرة. كان يعمل في توزيع الخبز في الصباح الباكر، ثم يتوجه إلى مدرسته سيراً على الأقدام، بعد أن كان يذهب إليها في سيارة بسائق خاص. وبعد إنهاء الدراسة الثانوية، درس الصحافة بجامعة ميتشغان، وكان عليه العمل في أكثر من وظيفة من أجل توفير مصروفات الجامعة. بالطبع تأثر بهذه التجارب وانعكست في أعماله الإبداعية ومواقفه السياسية.
كتب ميللر أولى مسرحياته «لا مكان للأوغاد» أثناء دراسته الجامعية، ونال عنها جائزة من الجامعة، ثم حصل عنها على جائزة أخرى، فقرر أن يصبح كاتباً مسرحياً، وبدأ يدرس المسرح في الجامعة، وفي عام 1937، كتب مسرحيته الثانية «تكريم في الفجر»، وحصل عنها على جائزة كذلك. وبعد التخرج عام 1939، رفض وظيفة كاتب سيناريو في شركة فوكس للقرن العشرين رغم الأجر الكبير، وفضل عليها العمل في مشروع مسرحي، إلا أن الكونجرس أمر بإلغاء المشروع لأنه قد يتضمن تعاطفاً مع الاتحاد السوفييتي.
بعد هذا الإحباط الكبير، اضطر ميللر إلى كتابة بعض المسرحيات الإذاعية حتى ابتسم له الحظ وتمكن من عرض مسرحيته «الرجل ذو الحظ الكبير» على خشبة المسرح عام 1940، إلا أن المسرحية لم تعجب الجمهور وتوقف عرضها في الليلة الخامسة، تجاوز هذا الإحباط، وكتب مسرحيته الشهيرة «كلهم أبنائي»، التي حققت نجاحاً كبيراً على مسارح برودواي عام 1947. حصل على جائزة أحسن مؤلف عن المسرحية، وتم الاعتراف به ككاتب مسرحي كبير في الولايات المتحدة.

وفي العام التالي، كتب مسرحية «موت بائع متجول»، التي لاقت نجاحاً ساحقاً فور عرضها على أحد مسارح برودواي وتم عرضها أكثر من سبعمئة مرة على خشبة المسرح، ونال عنها عدة جوائز، أهمها جائزة بوليتزر للدراما، ومنحته شهرة عالمية لأنها عبرّت عن محنة ملايين العائلات في جميع أنحاء العالم. واصل الكتابة للمسرح وللسينما حتى عام 2004، وأنجز خلال تلك الفترة ثلاثين مسرحية إضافة إلى كتاب مقالات عن المسرح، ولكنه لم يحصل على نجاح ساحق آخر سوى عام 1968، حين كتب مسرحية «الثمن»، وهي دراما عائلية رأى بعض النقاد أنها في نفس مستوى «موت بائع متجول».
كان ميللر يرى نفسه امتداداً للكاتب النرويجي الكبير هنريك إبسن، الذي جعل خشبة المسرح غرفة معيشة تناقش المشاكل الاجتماعية تهدف إلى رفع وعي المشاهد بواقعه، ولكن ميللر توسع في مناقشة المشاكل الاقتصادية بتأثير من تجربته الحياتية وأفكاره اليسارية، فكانت مسرحياته نافذة على حياة الطبقة المتوسطة بمعاناتها وطموحاتها وأحلامها وأوهامها. ورغم إغراقه في وصف نمط الحياة الأمريكي، إلا أن قدرته على تطوير الحبكة وبراعته في رسم الشخصيات منحت أعماله طابعاً رمزياً وجعلتها مقبولة في ثقافات أخرى.
كانت الخمسينيات هي الفترة الذهبية في حياة ميللر، إذ أصبحت مسرحياته تعرض على أكبر مسارح الولايات المتحدة وأوروبا، وتحول أغلبها إلى أفلام سينمائية شهيرة. وفي عام 1951، تعرف على مارلين مونرو وتزوجها عام 1956، وهو ما جعله تحت الأضواء وأصبح عرضة للكثير من الشائعات. وفي نفس العام، بدأ يتعرض للمشاكل، إذ كان عليه أن يمثل أمام إحدى لجان الكونجرس للتحقيق معه حول أنشطته السياسية بعد اعتراف صديقه الحميم، المخرج الشهير «إليا كازان» عليه بأنه ذو ميول شيوعية. رفض ميللر الاعتراف أمام اللجنة بأسماء من شاركه الأنشطة السياسية، فتم الحكم عليه بالغرامة والسجن وسحب جواز سفره ومنعه من السفر. رغم حصوله على البراءة بعد استئناف الحكم، إلا أن تلك المحنة أثرت فيه بشدة، وجعلته يتبنى قضايا المظلومين، خاصة من الأدباء حول العالم، وبذل جهداً كبيراً في هذا المجال، وهو ما أدى إلى انتخابه رئيساً لنادي القلم عام 1965. وعلى جانب آخر، أدت حملاته القوية في الدفاع عن الأدباء الذين يتعرضون للقمع إلى منع عرض أعماله في عدة دول على رأسها الاتحاد السوفييتي. أما عن مواقفه السياسية، فقد كان ينتقد «إسرائيل» بشدة، رغم كونه يهودياً، وهاجم سياسة الاستيطان وقمع الشعب الفلسطيني، كما كان دائم الانتقاد لسياسات وممارسات الحكومات الأمريكية المتعاقبة حتى وفاته، ولم يقتصر نقده على التصريحات الصحفية فقط، بل يمكن اعتبار مجمل أعماله انتقاداً للنظام السياسي والاقتصادي الأمريكي.
بدأ ميللر يحصد ثمار مشواره الأدبي في التسعينيات، إذ حصل على ميدالية الفنون الأمريكية عام 1993، وحصل على جائزة المسرح من نادي القلم، باعتباره من رواد الدراما الأمريكية عام 1998، وحصل في العام التالي على جائزة دورثي وليليان جوش من أجل دوره البارز في إسعاد البشرية ومساعدتها على فهم الحياة. ونال ميدالية التميز من مؤسسة الكتاب الأمريكية عام 2001، وحصل على جائزة أفضل كاتب مسرحي من إسبانيا في العام التالي. ولم يقتصر تكريمه على دوره الأدبي، بل كرّمته الحكومة الأمريكية على دوره الإنساني في دعم الأدباء المضطهدين.
توفي ميللر نتيجة أزمة قلبية وهو في التاسعة والثمانين من العمر، يوم 10 فبراير/شباط 2005، بعد سبعين عاماً من الإبداع جعلت منه الاسم الأبرز في القرن العشرين بين كتاب المسرح على الإطلاق. وكانت جنازته قد شهدت حضوراً كثيفاً للأدباء والمخرجين والممثلين، وأطفأت جميع مسارح برودواي أنوارها في تلك الليلة احتراماً، وأطلقت جامعة ميتشغان اسمه على مسرحها. وفي العام الماضي، أقيمت عدة احتفاليات لإحياء الذكرى المئوية لمولده، كان أبرزها توقف مسرح شكسبير في لندن عن تقديم عروضه المعتادة لعرض مسرحية «موت بائع متجول» تكريماً لمبدع تمكن من تحويل ألمه الخاص إلى مبادرات إنسانية لدعم المظلومين، وأعمال إبداعية خالدة.
___
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *