في النقد والمنقود

*إلياس فركوح

هل النقد في أزمة؟
سؤالٌ أطرحه لاحقاً على إجابة معممة مفادها: نعم، يعاني النقد أزمةً في الثقافة العربية.
كأني، عند تساؤلي رغم معرفتي بالجواب شبه المحسوم لدى أغلبية “المعنيين والمتابعين”، كمن يضع العربة أمام الحصان! أو كمن يتجاهل أكداساً من الكتابات، والحوارات، والتصريحات المعترضة والناقضة لأكداسٍ أخرى من الكتابات النقدية، والمشككة في نتائجها غالباً، أو تلك “المحسوبة” على النقد، المالئة صفحات الجرائد والمواقع الإلكترونية. والحقيقة أني، بالعكس تماماً، أتساءل آخذاً بالاعتبار كُلاً من هذين الجانبين المشكلين للمسألة قيد النظر والبحث: الناقد المتجلي في دراسة أو مقالة، والمنقود الحاضر في نصّ أدبي خضع لتلك الدراسة أو المقالة.

إني ممن يرون في عملية النقد ضرباً من “القراءة” خاصة بأصحابها، كأفراد، يختلف الواحد منهم عن الآخر باختلاف ما يختزن من طبيعة معارف، وانتقاءات، ومصادر، وزوايا للمعاينة ناتجة، بالضرورة، عن سؤالٍ رئيس وأوّل ينشغل به. وكذلك الأمر في ما يتعلق بأصحاب “الكتابات” الخاضعة للنقد، ما يقودني للجهر بضرورة إعادة النظر بالقول الشائع إيّاه: يعاني النقد أزمة في الثقافة العربية. أن نعيد النظر فيه لا لنفيه أو الاعتراض عليه؛ بل لتشريحه وإبعاده عن التعميم و”القول الفصل”!

اللافت، في معظم “الردود” الرافضة لمخرجات القراءات النقدية والمحتجة عليها، ميلها نحو “الشخصنة”، وبالاتجاهين معاً. فالناتج النقدي مرذول مرفوض كون صاحبه “شخصاً” غير جدير بمسؤولية إجراء قراءته الخاصة، أو ثمة نقص ما في سيرته الثقافية، أو خاضع للمزاجية والهوى، أو حتّى للارتزاق! وبالمقابل، فإنّ النصّ المشمول بهذا الناتج يعود لكاتب هو “شخص” حُرمَ من الكتابات النقدية التي يستحقها عن جدارة، كماً وكيفاً، وبالتالي ثمة إهمال مقصود له ولإبداعاته، ما ينتهي به للاعتقاد الجازم بأنه مُسْتَهْدَف بـ”مؤامرة”! أما إذا جاء الناتج القرائي لـ”صالح” نصّ ما في سياق تنافسيّ، وفاز؛ عندها سرعان ما ينفتح غطاء “صندوق باندورا” لتخرج منه كلّ الشياطين وشرورها!

الشياطين وشرورها هي مجموعة التوصيفات اللاذعة، والأحكام القطعية، والمظلوميات النائحة، والتفاخر الذاتي، وانتهاءً بالضرب “تحت الحزام” – كما يقال، عند تشخيص كل ما هو خارج نطاق الأدب والأخلاق والمسألة قيد البحث! بناءً على ما سبق، تراني أتساءل إذا ما كنا نتوفر على قدر من مرونة التفكّر والحوار، يساوي ذاك القدر من القدح والمرارة، بحيث نحقق قراءات للنصوص الناقدة والمنقودة في آن؟

أشدد على كلمات بعينها هي: التفكّر، الحوار، قراءات؛ إذ أرى في تجاهلها مكمنَ الخلافات والاختلافات حين تتحوّل إلى شتّى ضروب “المعارك” المتشحة بالأدب وهي منه براء. والمنادية بالموضوعية، بينما نراها مأخوذة بالذاتية ومستلبة بالشخصنة. والداعية للإنصاف، في الوقت الذي تصرفه كلاماً اتهامياً للآخر يصل حدّ التجريح واغتيال الشخصية بكلّ مكوناتها، من دون سَنَد!

وسط هكذا حالات تتكرر في المشهد الثقافي العربي، يتساءل المرء عمّا إذا كنا، حقاً، على قدر دعواتنا لإعمال الفكر في شؤون حياتنا وكيفية تدبرها. وأننا فعلاً، لا قولاً يُصرف بالمجّان، نتصف بمرونة الحوار ونبذ مقولة “نحن على حق”، والإنصات الصادق لرأي سوانا. وأنّ مفهومنا للنقد يتضمن فهماً واستيعاباً لحالة النسبية الكائنة في كلّ قراءة، وفقاً لكلّ قارئ/ ناقد، وبالتالي فإنّ الصواب المطلق أو الخطأ المطلق ليسا من طبائع الحياة.

ليسا من طبائع الحياة في الأدب، إذ جميع الكتابات الخارجة من أتون اليومي لا تحتمل الركون إلى أيّ إجابة مطمئنة. وليسا من طبائع الأدب السائر في الحياة، إذ تختلف التغذية الراجعة الناتجة عن قراءة نصّ واحد وتتعدد باختلاف القرّاء وتعددهم.

وبالتالي ليسا من لزوميات مخرجات النقّاد وأحكامهم؛ إذا آمنا أن النقد ضرب من القراءة بحسب أصحابها.

(لوحة الفنان إسلام زاهر)
______
*ضفة ثالثة 

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *