وهج الروحانية في وجه التعصب

*د. علي محمد فخرو

الإنسان في الأساس هو كائن روحاني، نفخ الله سبحانه وتعالى فيه من روحه الأبدية. فالجانب الروحي في تكوينه موجود حتى ولو خبا بين الحين والآخر أو تشوّه. وطرق ووسائل كل الحركات الروحانية هي محاولات لإصلاح ذلك التشويه أو لإنارة ذاك الذي أظلم؛ إذ أن الجانب الروحي في الإنسان قابل للسمو مثلما هو قابل للتراجع والسقوط.

إذن فإن ما عبر عنه المؤرخ الشهير أرنولد توينبي «بالحضور الروحي» موجود بمستويات متباينة في الإنسان، ليصل إلى أعلى مستوياته في التصوّف، تلك الحالة الروحية التي تزول فيها الحواجز بين الفرد والمطلق. ونحن هنا لسنا معنيين بذلك المستوى العالي من الحضور الروحي، إذ لاتصل إليه إلا قلة القلة من البشر المنتمين لكل الديانات. وفي جميع الأحوال فإن خصائص الحالة الروحية الصوفية، التي وصفها البعض بالإشراق العقلي النوراني أو بالإحساس بالخلود، أو بما لا يمكن وصفه بالكلمات، هي حالة فيها الكثير من الغموض الذي لن يفيدنا فيما سنطرحه.

نحن معنيون بالروحانية التي يمكن أن يصل إليها غالبية الناس، أي بمستوى الحضور الروحي الذي سيؤثر تأثيراً مباشراً وعميقاً في حياة البشر وفي تنظيم مجتمعاتهم، بحيث لا تنطلق من الفرد وجعله مركز الكون، ولا تجعل رغباته وحاجاته فوق حاجات الآخرين وحاجات بقية الكائنات، وإنما تنطلق من النظر إلى الكون كله، مادة وكائنات دنيوية وسماوية، تتعايش في انسجام وتناغم وتعاضد ضمن وحدة وجودية كما أرادها الخالق والموجد.

ذلك الحضور الروحي هو في جوهره سينمّي ويغذِّي وعي الحب في الإنسان لنفسه وللآخرين ولكل ما يحيط به، فالحب الداخلي سيعكس نفسه حباً خارجياً لكل الأشياء في محيط الإنسان، وعندما يترسَّخ هذا الوعي في الإنسان سيكون هو الممُر للانتقال إلى السلام والتعاون والتسامح والعدالة في التعامل مع الآخرين، كما سيكون دافعاً للابتعاد عن الفردية والأنانية والشكوك المتخيلة والطمع والتنافس المتوحش. هنا ستنضج تجربة تجاوز الذاتية وتسمو عليها.

إذن، فأول ثمار الحضور الروحي سيكون الوعي بالحب، لكن الحضور الروحي لا يوجد بصورة عفوية عند الغالبية من الناس، إنه يحتاج إلى من يزكيه وينميه ويرعاه ويوجهه. وهذه مهمة البيت والمدرسة والجامعة والمسجد والكنيسة، وكل وسائل الإعلام والتواصل. هذه الوسائل والجهات إن لم تعمل كوحدة متفاهمة الأجزاء والأدوار، فإنها لن تنجح في تحييد الموجة العولمية في السياسة والاقتصاد والثقافة، التي تُشجع الفردية الأنانية المستقلة الممارسة لذاتية لا تعترف إلا برغباتها وحاجاتها وحدها. إنها فردية استهلاكية حسية نهمة تنميها عن طريق الإعلام والإعلان قوانين السوق وممارساته المادية المتوحّشة القائمة على التنافس والصراع والانتصار على الآخرين.

هنا تأتي الوظيفة الأخرى للحضور الروحي الذي يواجه ذلك الصعود المذهل للفرد الأناني من خلال طرح مبدأ موجود في كل الديانات، مبدأ: «عامل الآخرين بما تحب أن يعاملوك به»، إنه معيار روحي يراد به تذكير الإنسان بأنه جزء من الكل وليس الكل كله. إنه تطبيق عملي لمبدأ وحدة الوجود والذي تقوم عليه كل المدارس والحركات الروحانية.

تلك كانت مقدمة لفهم الدور الكبير الذي يمكن أن تلعبه الروحانية المعتدلة المعقولة في مواجهة رذيلة التعصب، التي أصبحت مشكلة كبرى في حياة العرب.

تعصب الجماعات والطوائف

بداية، نحن لا نتكلم عن التعصب الفردي البحت، حيث يتصف بعض الأفراد بالانغلاق على الذات وتضخيمها لتمارس الاعتداد بالرأي ورفض رأي الآخرين بصور تعنتية، فهذا موضوع له مجاله الخاص به: مجال علم النفس بتشخيصاته وعلاجاته النفسية.

وإنما نحن معنيّون بتعصب الجماعات والطوائف الإيديولوجي في السياسة، والمذهبي الطائفي في الدين، والقبلي والعائلي في الاجتماع، والانغلاقي المتزمت الرافض للعصر في الثقافة. فهذه الأشكال من التعصبات التي تمارسها بعض الجماعات، التي لها قادتها وأتباعها ومنابرها وداعميها بالمال والنفوذ، هي التي تهدد نسيج المجتمعات العربية بالتمزق والعفن، وتقود تلك المجتمعات إلى إمكانية الانزلاق في فوضى الهمجية الفكرية والممارسات العنفية الإرهابية والتدمير الممنهج للقيم المدنية.

وإذا كان لا بد من إبراز التعصب الأخطر في هذا الزمن الرديء الذي تعيشه الأمة حالياً، فانه بلا أدنى شك: التعصب الطائفي المذهبي الذي يهدد بتدمير الحياة السياسية المدنية في الأرض العربية والعالم الإسلامي. ولعلّ أخطر ما فيه ادعاؤه القدسية والكلام باسم الله سبحانه وتعالى واستعماله الدين في صراعات السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة.

إن التعصب الطائفي، مثله مثل الإيديولوجي، يتمثّل في دوغمائية عقلية غير مرنة وغير متسامحة من جهة، وفي هياج عاطفي غير محكوم بتوازن نفسي وروحي من جهة أخرى، وهو يولّد في الإنسان الفرد خوفاً وذعراً وعدم اطمئنان لدى وجود إمكانية وجوده خارج الطائفة أو الجماعة أو القبيلة التي ينتمي لها.

والنتيجة لمثل هكذا تعصب تكون كارثية، إذ أنه يؤجل أو يلغي كلياً ولادة أو نمو المواطن في دولة مدنية، هي الوطن. ذلك أنه بمرور الوقت يؤسس بنية فكرية وشعورية تقود إلى تزييف وحرف الوعي الجماعي للمواطنة وللشعب الواحد وللأمة الواحدة. ومع مرور القرون وتعاقب الأجيال يتكلس التعصب ويصبح، في نظر أصحابه، هو الحقيقة المطلقة التي يجب أن تحكم حياتهم وعلاقاتهم مع الآخرين، وتكون الضحية في النهاية هي الهوية الجامعة للأمة، ويصبح الولاء للهوية الفرعية هو فوق الولاء للأمة والوطن.

إزاء تلك الصورة القاتمة لتموضع التعصب في الحياة العربية يطرح السؤال الآتي نفسه: هل باستطاعة الروحانية، التي وصفنا سابقاً، تقويم اعوجاج التعصبات تلك وقلبها جميعها إلى انتماءات فكرية ودينية واجتماعية تغني الحياة الثقافية العربية، بدلاً من إدخالها في صراعات مريرة تعتمد تاريخاً مضى وانقضى وأفكاراً لأناس عاشوا في أزمنة غير أزمنتنا التي نعيش؟

الجواب هو أن ذلك لن يكون سهلاً، ولكن ممكن بشرط أن تكون منطلقات الروحانية التي نريد بناءها ونشرها وترسيخها في الإنسان العربي غير مبنية على الأساطير والخرافات والأوهام السحرية وممارسات الشعوذة وسيطرة مرجعيات كهنوتية متزمتة متخلفة، وإنما روحانية منطلقاتها العقل والعلم والقيم الربانية العليا وجوهر الوجود الإنساني عبر تاريخه الطويل.

تلك الروحانية، بتلك المنطلقات المعقولة المرتبطة بواقع الحياة والحضارة، ستستطيع، من خلال بناء وعي الحب والاستعمال الدائم لشعار «عامل الناس بمثل ما تريد أن يعاملوك به» حل إشكاليات التعصُب، ليس من خلال محو التباينات في المذاهب الدينية أو الاختلافات في الإيديولوجيات، وإنما من خلال تعايشها مع بعضها البعض في وئام وقبول الآخر، وذلك بترسيخ ممارسة عادات الحوار والتسامح واحترام وجهات نظر الآخرين، والوصول إلى الاقتناع بأن وحدة الدين والإيديولوجيا لا تتناقض مع تعدد الفهم والقناعات. بل العكس هو الصحيح، إذ أن التعددية ضمن الوحدة هو الطريق للإغناء والتطوير والإبداع والتجديد في عوالم الدين والسياسة والثقافة على الأخص.

الروحانية والديمقراطية

هنا يجدر الحديث عن وجود نوع من العلاقة الجدلية بين ما تقوم عليه الروحانية التي وصفنا سابقاً وما تُلزم به من صنوف الممارسات، وبين الأسس التي تقوم عليها الديموقراطية السياسية – الاقتصادية العادلة وما تفرضه من أساليب ومؤسسات تحميها. من الممكن لتلك الروحانية أن تكون أحد أهم الوسائل لبناء الديموقراطية، ومنعها من السير في مسالك المظهرية الكاذبة والمظالم المبطنة المخادعة.

إن الروحانية لن تكون فقط في صالح الديموقراطية وأداة من أدواتها، وإنما ستكون أيضاً ضد الاستبداد الذي يعيش على وجود الانقسامات والتعصبات فيما بين مكونات المجتمع.

وإذا كانت الليبرالية، من خلال الحريات والقوانين، تساهم في حماية الديموقراطية، فإن الروحانية، تحمي الديموقراطية من خلال مشاعر الحب والتضامن ووحدة الوجود والمصير، بل إنها تجعلها ديمقراطية أكثر عدلاً وإنصافاً ومساواة وتراحماً. إنها ديمقراطية الوهج الرباني والمسؤولية الإنسانية.

إن التاريخ يعلمنا بأن الديانات والمذاهب والإيديولوجيات والأنظمة قد جرى حرفها نحو التحزب المريض والعصبيات المنغلقة على نفسها وأتباعها، وذلك بسبب غياب الحضور الروحي في شعاراتها وأهدافها ووسائلها، وعند قادتها وأتباعها. إنه تذكير بالأمانة التي عرضها الله العلي القدير على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها لثقل مسؤولية حملها. لكن الإنسان رضى أن يحملها، ولكنه فشل في حملها بسبب جهله وغروره وأنانيته من جهة، وبسبب- وهذا هو الأهم- تناسيه بأنه قد أريد لها أن تكون أمانة روحية في المقام الأول، وأن تستنير دوماً بالوهج الرباني الذي نفخه اللُطف الإلهي فينا.

التعصب الأخطر

إذا كان لا بد من إبراز التعصُب الأخطر في هذا الزمن الرديء الذي تعيشه الأمة حالياً فهو بلا أدنى شك: التعصُب الطائفي المذهبي الذي يهدد بتدمير الحياة السياسية المدنية في الأرض العربية والعالم الإسلامي. ولعل أخطر ما فيه ادعاؤه القدسية والكلام باسم الله (سبحانه) واستعماله الدين في صراعات السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة.

ديموقراطية الوهج الرباني

عندما يترسَّخ وعي الحب في الإنسان سيكون هو الممر للانتقال إلى السلام والتعاون والتسامح والعدالة في التعامل مع الآخرين.
_____
*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *