ساعات “دالي” الرّخوة وثوب “بينيلوبي”

*لانا المجالي 

( 1)

الآثار التي نحتفي بها ونزورها في المتاحف؛ أزمنة أجدادنا المتجمّدة.
وجوه أحبابنا الموتى في اللاوعي؛ نوستالجيا تصويريّة.
وردة مجفّفة بين أوراق دفترٍ قديم؛ قصّة حبّ مصلوبة على سور المدرسة الثانويّة.
وحتى نبرأ من “بتذكر آخر مرّة شفتك” فيروز، علينا ترك الماضي في الماضي.

( 2 )

الزمان يكون في حياة الإنسان بثلاث حالات؛ صلبة/ الماضي، وسائلة/ الحاضر، وغازيّة/ المستقبل.

ولا بد من الإشارة هنا إلى معضلة شكل الزمن؛ خطّيته التي يعتنقها معظم الفلاسفة، أو دائريته التي استخلصها نيتشة من “فكرة العود الأبدي” في الأساطير الهنديّة القديمة حول إمكانيّة التقاء زمن الماضي مع زمن الحاضر في نقطة محوريّة هي “الآن”، أو بمعنى آخر؛ كل شيء سيتكرّر ذات يوم كما عشناه سابقا، وأن هذا التكرار سيستمر إلى ما لا نهاية!

( 3 )

الماضي لا يموت، بل يتجمّد فقط؛ بدليل أننا نتذكّره كلّ يوم، وهو ما تفسّره مقولة ابن عربي: ” الزمان مكان سائل، والمكان زمان متجمِّد”، وما توصّل إليه عالم النفس السويدي جان بياجيه حول أن “المكان زمان ساكن، والزمان مكان متحرك”.

( 4 )

الذي ينسلخ عن ماضيه الصلب، يفقد الصخرة التي تقيه من الانزلاق في سيولة الحاضر.

(5 )

في لوحة “إصرار الذاكرة” التي رسمها سلفادور دالي عام 1931، يبدو الزمن إمّا عديم القيمة- كما تمثله ثلاث ساعات رخوة ذائبة تشبه اللسان-، وأمّا غائبا تمثّله السّاعة الأخيرة، وهي صلبة، لكنها ملقاة على وجهها فوق ما يشبه الطاولة، فيما يزحف النمل عليها.

اللوحة التي تملك خلفية قاحلة تضم عناصر دالي الفنيّة المفضلة، مثل الشاطئ، والوحش الحالم أو النائم الذي يجسّد نفسه فيه ، حظيت – حتى الآن- بتأويلات كثيرة، ومتباينة أحيانا، ومع أنني لا أميل إلى تفسير الفن- إلا أنني أحببت رؤية الفيلسوف البريطاني جيمس بالارد الذي قال عنها: “الطبيعة المصنوعة من الأشياء اليومية في هذه اللوحة، تمثّل عالم ما وراء زمن الساعة؛ عالم حدث فيه كلّ شيء ولم يعد هناك شيء مشوّق أو مثير للاهتمام، كما لم يعد هناك المزيد ممّا ينبغي فعله. هذا هو المكان الذي جلس على شاطئه البشر ولم يستطيعوا تجاوزه”.

أما تعليق دالي حول ساعاته الرخوة، فهو لم يخرج على طبيعة الفن السريالي، إذ قال مرّة : ” تماماً كما يدهشني أن موظفاً في مصرف لا يأكل شيكاً، يدهشني أيضاً أن أيّ رسام قبلي، لم يفكّر في رسم ساعة رخوة”.
ويبقى السؤال: هل كان الفنان الإسباني يعمل ضمن المبدأ السريالي الذي يستخدم “اللاوعي” في رؤية العالم، أم كان ممتلكاً وعيه الاستثنائي بالزمان والمكان والعلاقة التي تجمعهما، كما نرى في لوحته المدهشة؟

(6 )

كيف لي وما أنجبتُ سوى الـ ” ليت” ،
أنْ أدّعي بأنّ ضجيج أحفادي
سيمزّق هذه العُزلة؟!

حالة المستقبل الغازيّة تحجب عنا شكله، وتحرمنا من السيطرة عليه، لا أحد يستطيع ضبط الغاز سهل الانتشار، دون أن تغادرني مقولة عالِم الرياضيات ( أ. ن. وايتهد)، وهو يكشف: “لقد نشأ النوع الحالي من النظام في العالم من ماضٍ لا يمكن تخيّله، وسوف يلقى حتفه في مستقبلٍ لا يمكن تخيّله”.

( 7 )

التكنولوجيا بمجتمعاتها الافتراضيّة، جعلت مفهوم “الزمكان” الذي جاءت به نظريّة آينشتاين النسبيّة، يعيش عصره الذهبي، إذ سمحت للإنسان أن يكون في أكثر من مكان خلال لحظة زمنيّة واحدة، لكنها حرمته – في المقابل – من خاصيّة الاستمتاع بالأشياء، وأجبرته على الدخول في ماراثون العدو قصير المسافة.

( 8 )

لا يمكن أن نتناول الزمان، دون أن نعرّج على مقصلته، الانتظار، عبر ثلاثة أمثلة:
المثال الأكثر شهرة، هو مسرحيّة “في انتظار غودو” لصموئيل بيكيت التي تدور أحداثها حول شخصين مشردين مهمّشين معدمين معزولين، ينتظران عودة “غودو”؛ كي ينقذهما، رغم علمهما أنّه لن يأتي، ما يجعلنا نتساءل حول شخصية “غودو” ومن يكون؟؛ هل هو المخلص، الأمل، أم الزمان نفسه؟.

أما بينيلوبي زوجة ملك إيثاكا (أوديسيوس)، في أوديسة هوميروس، فقد اكتوت بنار الانتظار بعد أن ذهب زوجها مقاتلا في حرب طروادة ، ما دفعها إلى استخدام الحيلة لرفض عروض الزواج؛ ومنها التظاهر بغزل ثوب، مدّعية أنها سوف تختار زوجاً حين تنتهي منه، لكنها كانت تنقض غزلها في كل ليلة، حتى ضرب بثوبها المثل.

وأخيرا، أترككم مع الشاعرة السوريّة بشرى البشوات، وهي تصف الانتظار بجماليةٍ مبدعة، إذ تقول:

في غيابك
أنا لوحة مترعة بالألوان
أبتاع زبد البحر، وأنفخ رغوة الصابون عن أصابعي الجافة
في غيابك
نما الغبار على جسدي
صار الغبار ترابا وأنتَ لم تأتِ.
______

*العدد 49 من مجلة الإمارات الثقافيّة

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *