الجـراد

خاص- ثقافات

*محمود شقير 

الجراد لم يصل بعد.

والأولاد لم يكفّوا طوال ساعات ما بعد الظهر عن اللعب على أطراف الحقول، ركضوا هنا وهناك باندفاع، ركضت البنت خلفهم. إنها البنت الوحيدة بينهم، ولم تكن خائفة لأن أخاها يعتبر نفسه زعيم عصابة الأولاد.

شمّر أحدهم ثوبه وراح يبول دون سابق إنذار، (من قال إنه ينبغي على الولد أن يعلن النفير العام قبل أن يبول؟). نظرت البنت نحو الولد في فضول، تلقّت على الفور صفعة مؤلمة. تلمّست خدها مذعورة وراحت تبكي، قال لها أخوها بلهجة آمرة:

_ اذهبي إلى البيت، ولا تعودي إلى اللعب معنا.

ابتعدت البنت بخطوات متعثرة. لم يكترث لها الأولاد، وحينما لاحظوا أن عين الشمس أخذت تحتجب، صاحوا مهتاجين مستنفرين. رأوا كتلة من قتام، تدوّم في الأفق الغربي، الكتلة تتحرك هابطة نحو الحقول كأنها سحابة من غبار، الشمس تحتجب خلف الكتلة الضخمة، والنور يصبح شحيحاً كما لو أننا في مسرح خافت الأضواء. البنت تنسى الصفعة، تنسى أوامر أخيها، تنطلق خلف الأولاد، تدوس بقدميها الجراد.

حطّ الجراد فوق الحقول، راح يأكل الأخضر واليابس. خرج الناس بالعصي والفؤوس، خرجوا بكل ما في حوزتهم من وسائل للقتال. أشعلوا النيران لعلّ دخانها يطرد الجراد، والجراد لا يكفّ عن تحويل الحقول إلى أرض جرداء.

شعر الرجل الذي يسند قامته على عكّازين، بالأسى.

أطلق واحدة من بنات أفكاره. غادرت رأسه في الحال، كانت بنتاً بضّة النهدين، ناضجة الأنوثة ولها ردفان وافران. رآها الناس وهي تركض نحو الحقول في كامل فتنتها، توقّفت عن الركض في الجهة التي يأتي منها الجراد. انضمّت إلى الحشد الذي يقاوم الجراد، ظلت كذلك حتى أدركها التعب، جلست لكي تستريح، ظنّ الناس أنها ستغادر الحقول إلى بيتها، لكنها نهضت، ربطت على خصرها شالاً وراحت ترقص باستغراق تام. التفّ من حولها عدد كبير من الرجال والنساء والأولاد، رقصوا بحذر أول الأمر، ثم اندفعوا يرقصون بشكل محموم.

لم يبتعد الجراد تماماً، ولم يتوقف الرقص.

قال الولد لأخته:

_ هذا يكفي، عودي إلى البيت الآن.

قال الرجل الذي يسند قامته على عكّازين للبنت:

_ يكفي هذا، عودي لأنني أريد أن أنام.

لم يسمعه أحد وهو يوجه كلامه إليها، لم تتوقف عن الرقص ولم تأبه لأوامره. كرّر القول:

_ قلت لك عودي، أريد أن أنام.

لم تكترث له، أمعنت في الرقص، ولم تكتف بذلك، بل إنها خلعت فستانها، لأنه، كما قالت فيما بعد، أخذ يعيق حركة جسدها المشبوب. رقصت وهي في قميصها الداخلي كما لم ترقص من قبل، والرجل الذي يسند قامته على عكازين، مدّد العكازين بالقرب من بدنه النحيل، ونام.

عادت إليه قبيل الفجر بقليل. اقتربت منه وهو يغطّ في النوم، قرعت رأسه عدة مرات. استيقظ وهو مثل الملخوم، فقد كان، كما قال فيما بعد، مستغرقاً في حلم لذيذ. دخلت رأسه، أغلقت خلفها الباب، خلعت حذاءها باستهتار تام، قذفت به دون قصد نحو الركن المعتم، توجّع الرجل قليلاً، (فالأمر يتعلق برأسه في نهاية المطاف) احتمل ذلك دون تذمر أو استنكاف. اتجهت البنت نحو الحمام، فتحت صنبور المياه، ظلت مسترخية في الحوض الأبيض اللمّاع، وهي تغني بصوت مغناج، ساعة كاملة،كما قال فيما بعد، بعض الجيران.

_______
*روائي وقاص فلسطيني

من مجموعته القصصية “صورة شاكيرا”/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ 2003

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *