كيف هو الصعود إلى كرسي النَّسر.؟!

خاص- ثقافات

*عمر ح الدريسي

عادتي في القراءة، لها مكانتها بين التزاماتي الروتينية اليومية وواجباتي العلمية، دأبا على محاولة التوازي والحفاظ على التوازن، وكما يُقال خير الأمور أوسطها، بحيث  صادفت ليلة المناظرة الثانية للانتخابات الرئاسية الأمريكية،  بين السيدة هيلاري كلنتون، المرشحة عن الحزب الديمقراطي، و السيد دونالد ترامب مرشح الحزب الجمهوري، إتمام إعادة قراءتي لرواية “كرسي الرئاسة” للكاتب المكسيكي، الذي عاش في أمريكا، كارلوس فوينتس.

وأنا أتابع المناظرة، التي  كانت حبلى بالسجال، دشنها السيد ترامب بفضحه لـ هيلاري بعدم التحفظ على المعلومات ذات الصبغة العمومية، وثلاثين ألف رسالة إلكترونية، وهنا عصفت بي الذاكرة (Le Feed-back) إلى السبعين رسالة، التي توزعت عبر فصول رواية “كرسي الرئاسة” للكاتب المكسيكي، الذي عاش في أمريكا، كارلوس فوينتس،  والتي تبادلها سياسيو الرواية فيما بينهم…تجد فيها رسائل حب، رسائل تهديد بكشف المستور، رسائل وشاية ومؤامرة…وتجد فيها الرسائل المخلة بالحياء.  وردت عليه  السيدة هيلاري، بعدم سوء نيتها في ذالك، وهاجمته في نفس الوقت بعدم اكتراثه للأقليات والملونين والمهاجرين وفقراء البلد والمعوقين،  بل وعدم اهتمامه بأداء واجباته المالية اتجاه مكتب الضرائب، مما حتم على المدعي العام  الأمريكي، التدخل على إثر هذا الإتهام، في تمويل حملة ترامب الانتخابية.

إلا أن لحظة المناظرة التي كانت أشد سخونة، بحيث أطلق عليها أحد المعلقين “مناظرة الخلاعة”، بينما ارتأيت أن أسميها “مناظرة القتل الرمزي”، بحيث كان الضرب من تحت الحزام قويا، وتناولت هجومات ذات بعد شخصي، بعيدا عن التحفظ اللازم للخصوصيات و الاحترام التام للأخلاق العامة، وبالنظر إلى التنافس الحميم بين المتسابقين، فإن السيدة هيلاري كلنتون، وجدت فرصتها في عرض المُسير، لموضوع تسريب فيديو، يتحدث فيه السيد دونالد ترامب عن النّساء بوضاعة، ويصنفهن تحت علامات، وبعد الإحراج الذي وُوجِهَ به أمام الجمهور والكاميرات ورؤساء سابقون للبيت الأبيض، لم يجد من مفر، بل قدم اعتذاره، وبرر ذالك بأنه حديث غرف نوم، ولا يخصه إلا وحده، ولا يقصد إيذاء أحد، ولايجب أن يُؤاخَذَ عليه. وجاء رده قاسيا على هيلاري وقال: سأطلب من المدعي العام، التحقيق بقضية رسائل البريد الإلكتروني المسربة. ستكونين في السجن إذا أصبحت مسؤولاً عن هذا البلد”، وذكرها بفضيحة زوجها السيد بيل كلنتون، عندما كان رئيسا في فترته الثانية،  حادث المتدربة “لوينسكي”، حيث خضع لاستجواب الكونغرس، و قال أنه دمر حياة امرأة، وذالك ما جعل القضاء يمنعه من ممارسة مهنته في المحاماة… !!

هذه السجالات، جعلت هيلاري تطلق ابتسامتها الجميلة التي تخفي غابة كثيفة من الدهاء والصبر على الألم القاتل، إلى حين يسمح لها الوقت بالرد، ولما تستجمع قواها، ربما تُطيح ترامب بضربة قوية في الرئاسيات، وتستغل تشنجه وعصبيته وكبريائه البورجوازي وتدفعه إلى أتون الإرتباك والفظاظة والتلف، وربما تفوه بشيء قلب عليه المقلب، وجعلت من عجرفته الإسفين الذي يدك صاحبه، حيث ردت عليه ببرودة دم قائلة، “أعدكم بالعمل مع الجميع وآمل أن أنتخب”، معتبرة أنه “كما قلت ترامب ليس مناسبا ليكون رئيساً للبلاد ورئيساً للأركان“..

هذا المشهد بالذات انتقل بي إلى ما تحتويه رواية “كرسي الرئاسة”، للكاتب الأمريكي اللاتيني، كارلوس فوينتس  خصوصا، المقطع المفتاحي في السرد حيث ذات يوم في سنة 2020 سينقطع نظام الاتصالات، من طرف السيدة السمراء، كوندليزا رايس “وزيرة خارجية سابقا) رئيسة الولايات المتحدة الأمريكية (في الرواية)، عقابا للمكسيك الذي تجرأ على الاحتجاج  ضد الاحتلال العسكري الأمريكي لكولومبيا، فلم تعد هناك هواتف أو فاكسات أو أنترنيت، البلد يغوص في كابوس لا حدود له، وتبقى الوسيلة الوحيد للاتصال هي الرسائل التقليدية، ومن خلال هذه الرسائل النصية البريدية المتبادلة  حول الانتخابات الرئاسية المقبلة للمكسيك،  يبرز التنافس الشرس ما بين كبار الموظفين على السلطة، كرسي الرئاسة أو عرش النسر، العنوان الأصلي للرواية.. النسر المتشبث بالصبار والملتقط لأفعى بمنقاره، حيث لم يكن لورينزو تيران، الرئيس المنتهية صلاحيته، يستطيع الترشح مرة أخرى، لذلك بدا السؤال “من يصعد ليعتلي وكر النسر؟” مُلحا، هل يمكن للرئيس أن يكون امرأة..؟

إلا أن  لـ صديقة الرئيس لورينزو تيران الحميمة والجميلة، ماريا دل روزاريو غالفان، كان لها هدف واحد: “… أن تأكل سياسة، أن تحلم سياسة، أن تلتذ وتتلذذ بالسياسة وتتألم منها أيضا…”. ولهذا تشأ الصدف أن  تقع عيناها على “هذا الجمال الخلاسي” لـ  نيكولاس فالديفيا، الشاب الثلاثيني، فتهبه ماريا جسدها، وتقول له “سأكون لك… عندما تصبح رئيسا للمكسيك”، وَعْدُهَا مبني على ما تعرفه من صعوبات ومشقة المغامرات السرية جدا لِـ تحقيق ما تريده من خليلها، في مواجهة مكر وألاعيب كل رجال السياسة الذين تعرف أسرارهم، وأكبر دليل نص رسالة الرئيس السابق  للمكسيك  حين عودته من المنفى إلى الرئيس الحالي تيران، “… تخيل ماذا يعني كل ذالك بالنسبة لرجل مثلي، كان يعيش ذات يوم في وسط التملق والمداهنة، ليستيقظ في اليوم الكئيب التالي ليجد نفسه مطرودا من منصبه، ويسأل ذالك السؤال المضني “أين ذهب جميع أصدقائي؟”، “مع أنك فزت في الانتخابات، فلا تنس أبدا أنك في نهاية الأمر ستخسر سلطتك”، “إن النصر الذي جعلك رئيسا، سيؤدي في نهاية الأمر وبشكل حتمي إلى الهزيمة، وستصبح حينها الرئيس السابق”.. !!

أثناء المناظرة الرئاسية الأمريكية، وعندما لم يتورع كل مرة، المرشح دونالد ترامب في الصراخ، باتهامه المرشحة هيلاري كلينتون بقوله، “أنت كذابة”، أنت تكذبين مرة أخرى”، أستحضر شعار الشخصيات في الرواية، وهو الغاية تبرر الوسيلة، وكل الطرق تؤدي إلى روما، لذلك نجد تلك الشخوص لا يتوانون عن فعل أي شيء في سبيل الوصول إلى الكرسي، فالكذب، الخيانة، المجون، التحايل، الابتزاز، الوشاية و حتى الاغتيالات كلها أمور مبررة، وهو ما يبرز بشاعة الهوة الأخلاقية التي يقبعون فيها.

وأثناء انتقال المرشحين إلى مناقشة المشاكل الطاقية والمالية والتفوق الأمريكي الاقتصادي، كان العالم العربي بنفطه الخليجي وحروبهم في سوريا في قلب السجال، مما جعل السيد دونالد ترامب يبدي تؤثره الإنساني، بحالة الطفل عمران من مدينة حلب المنكوبة بقصف البراميل والطيران الروسي، ونسي الطفل حنظلة، ومحمد الذرة والطفل إيلان، لكنه حين حديثه عن العراق كان يستعمل ضمير الجمع “نحن”، والعراق قابع تحت أيدي الفساد  الطائفي والمتطرفين. والمزيد من تبادل الاتهامات بين المرشحين، أحالني  إلى مجريات الرواية والرسائل  المتبادلة بين شخصيات متآمرة وينعكس في خطابها الواقع السياسي بطابعه الميكيافيلي. تتكرر عندي حالة الوجود المكسيكي في الرواية  كحالة الوجود العربي في بحر الطغيان الأمريكي.

فلاغرو بتاتا، في أن واقعة مناظرة الرئاسيات الأمريكية بين السيد دونالد ترامب والسيدة هيلاري كلينتون، وسجالهما السياسي، لهو إلا مرآة ميكيافيلية على الشاشة، يتابعها مباشرة الملاين عبر العالم،  للكثير من  سياسي البلدان المختلفة، والرواية أيضا ببعدها السردي والحبك الجمالي واللغة الشعرية للكاتب فوينتس، لوحة فنية  تعكس ما عاشه ابن الدبلوماسي في الولايات المتحدة، كبلد متخيل، وبلد أخر واقعي وهو المكسيك، بلد مُثقل بتبعات وجوده جار، لقوة إمبريالية عظمى و كانت بينهما سابقا حربين، مثلما يعيش العالم العربي على الهدم  بالحروب من الداخل ومن الخارج، بثقل القوى العظمى، وعلى رأسهم روسيا وأمريكا … !!

للتواصل: drissi-omar1@live.fr

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *