اكتشاف قصائد حب مجهولة لبابلو نيرودا

باريس – أنطوان جوكي

حتى اليوم، ما زلنا نجهل ظروف وفاة الشاعر الشيلي الكبير بابلو نيرودا (1904 – 1973). فهل سرطان البروستات هو الذي صرعه، كما تؤكّد الرواية الرسمية، أم أنه اغتيل بحقنة قاتلة عشية سفره إلى المكسيك، لمنعه من الشهادة على جرائم نظام الجنرال بينوشيه، كما صرّح كثيرون من المقرّبين منه؟

الأكيد هو أن هذا العملاق لم يقل كلمته الأخيرة، وبالتالي ما زال يخبّئ مفاجآت سارّة، آخرها قصيدة ملحمية طويلة بعنوان «أنشودة المأثرة» (Cancion de gesta) صدرت ترجمتها الفرنسية للمرة الأولى حديثاً برفقة نصّها الأصلي عن دار «زمن الكرز» الباريسية، مع 21 قصيدة مجهولة عُثر عليها أخيراً لدى ترتيب أرشيف نيرودا وصدرت عن دار «سيغيرس» الباريسية حديثاً برفقة الترجمة الفرنسية لها ونصوص أخرى بخط يد الشاعر.

«أنشودة المأثرة» كتبها نيرودا في ربيع 1960، أثناء سفره إلى أوروبا على سفنية «لويس لوميير». وكما يوحي به عنوانها، إنها ملحمة شعرية بكل معنى الكلمة: ملحمة النضال من أجل الحرية في أميركا اللاتينية، وتحديداً في بلدان الكاريبي.

منذ مطلع القصيدة، يوضح الشاعر: «هذا الكتاب ليس نواح رجلٍ مستوحد ولا انبعاثاً من العتمة، بل سلاح مباشر ومصوّب، ومساعدة بسيطة أمنحها إلى إخوتي الشعوب من أجل (الاحتفاء) بكل يوم من أيام نضالهم». هكذا نقرأ هذه القصيدة كتحية لجميع مقاومي سياسة الولايات المتحدة في خمسينات القرن الماضي، وللمكافحين من أجل الاستقلال والحقيقة.

تحية للكوبيين أولاً الذين يشبّه الشاعر بلدهم بـ «وردة الكاريبي الشفّافة حيث يتعاظم ألم الآملين» وحيث انطلقت ثورة (1959) توقظ الأمل في قارّة بكاملها، واصفاً بإعجابٍ كفاحهم، انطلاقاً من جبال سييرا ماسترا، الذي وضع حداً لبطش نظام باتيستا الرهيب بالشعب الكوبي. بعد ذلك، يوسّع فضحه جرائم العسكر ليشمل أرخبيل الكاريبي بكليته، مستعيناً بصور ذات شحنة تعبيرية عنيفة: «آكلو لحوم البشر الدمويون/ المتقنّعون بزي جنرالات بطوليين: / مملكةُ جرذانٍ لا ترحم/ سلالةٌ من بصقاتٍ عسكرية (…)/ ورديةُ آلامٍ عظمى/ والدولار يدير الصفاقة (…)».

وفي هـــذا السياق، يتوقف عند آثار الطغيان في الباراغوي وبوليفيا قائلاً: «فـــي جنوب أميركا الأمازوني/ تحفر نُدَب الاستبداد/ جدران الباراغوي المتلفة/ وحــــجارة بوليفيا المُرّة»، ويحتجّ على وضـــــع جزيرة بورتوريكو التي يسمّيها «مرفأ البؤس» حيث «يبيع (الحاكم) مونوز اللغة والصواب، الأرض واللذة/ يبيع شرف قارّتنا المسكينة». ولا ينسى الشاعر نيكاراغوا: «نيكاراغوا، قلب البجعة/ سلالة السيف الغاضب/ أبعدي الأجراس عن صدرك/ والتفاحة النَزِقة عن حياتك/ وبالنار والدم اقطعي الحبال/ التي تتوّج نسلكِ بالشوك».

باختصار، يمزج نيرودا في هذه القصيدة الحِرْم السياسي والحماسة الملحمية والانفعال الغنائي من أجل تمجيد تلك الحركة التحرّرية التي أشعلت الثورات في أميركا اللاتينية بهدف «توطيد الوضوح والشفافية في العالم». وإذ يتعذّر اليوم تلقّي هذا النص كما في عام 1960، لكن وضع عالمنا الراهن الذي تخضع معظم الشعوب فيه لسلطة المال ومؤسساته، يجعل النصيحة الأخيرة التي يسديها الشاعر في نهاية قصيدته تصدي بقوة في آذاننا: «افتحي عيونكِ أيتها الشعوب المذلولة/ ثورة سييرا ماسترا في كل مكان».

832f832507534735bf997e8f5b8d4be0

وكما في الكثير من قصائده، يغتنم نيرودا فرصة كتابة هذه القصيدة للتعريف بمهمة الشاعر الأولى، أي الالتزام بواجبات ذات فائدة عامة. ففي م طلعها يقول: «أنا قادمٌ من الشعب وأنشد له/ شعري نشيدٌ وعقاب». ومع أن مرور الزمن على هذا النص أضرّ قليلاً بطابعه الملحمي، لكنه ما زال يسيّر نبرةً مؤثّرة، كما حين يستحضر الشاعر فيه عذاب الإنسان الأسوَد: «أن تنام متعباً مع الموت/ وتعيش مرةً أخرى كل صباح». نضيف إلى ذلك أن السخرية التي يقطّرها نيرودا في أماكن مختلفة فيه تلطّف الجانب التفخيمي في أسلوبه، لكن من دون أن تمسّ بالشحنة الطوباوية التي تعبره وتختم خطابه: «ويسير الزمن على الساعات/ إلى أن يصبح جميع الناس سعداء./ وهكذا يبدأ التاريخ مرة أخرى».

يبقى أن نشير إلى أننا نعثر في هذه القصيدة على نبرة «النشيد العام» (1950) وأسلوبه ونفَسه، ما يجعلنا نرى فيها امتداداً له.

أما القصائد الـ21 غير المنشورة من قبل، والتي نقلها الشاعر الفرنسي جاك أنسيه إلى لغة رامبو، وجمعتها دار «سيغيرس» في كتاب بعنوان «ألمس قدميك في الظل»، فقد كتبها نيرودا بين عامَي 1956 و1973، وتكمن قيمتها في إسماعنا من جديد صوت الشاعر في جانبه العفوي.

وتبدو القصائد الأولى ملتهبة بنار الحـــب: «أبداً لستُ وحدي، معكِ/ على الأرض/ عابــراً النار». وفيها يولد الشاعر مجدداً داخل العالم بفضل حضور الحبيبة، بينما يزول الواقع من دونها: «معتمٌ ليلُ العالم من دونك يا حبّي». وتبدو لغة نيرودا البسيطة في هذه النصوص مشحونة بشهوانية قصوى، كاشفةً في اتحاد الحبيبين الحميم علاقة الشاعر بالعالم: «أنتِ وأنا الأرضُ وثمارها». وحتى في المبالغة، يلجأ نيرودا إلى الإيجاز في صوره: «حبٌّ، لا ينضب، هو خمرنا».

وفي القـــــصــــائد الأخـــرى، نســــــتـــشف الموضوعات العزيزة على قلبه، فنراه يحتفي تارةً بالسفر: «(…) يتنقّل على كيفه/ ويغيّر نجمه مثل قميص»، وتارةً ببلده: «(…) علَمٌ لوّنته القرون رويداً رويداً من فرط الدم والعذاب»، وتارةً بأبناء وطنه: «(…) عرفتُ رفاقاً/ سيدافعون دائماً عنّي/ لأن شعري تسلّم/ فور نطقي به/ ميدالية آلامهم».

أما النصوص المعروفة التي ترافق هذه القصائد فتسمح بمقاربة شعر نيرودا في مادّيتـــه وشكله الأوّلين نظراً إلى حضورها بخطّ يده، أي كما تركها بعدما فرغ من كتابتهــا. وتدهشنا هذه القصائد بقلّة التشطيب أو التصحيح فيها التي إن دلـــّت على شيء فعلى قوة هذا العمــــلاق الإـبداعية ونعمة حلول الوحي الشعري عليه مكتملاً. ولا نعجب بعد ذلك حين نقرأ في إحدى قصائده: «لا أعرف/ لا خطّ ولا يد/ من كتب هذه الجملة».

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *