مصـعد

خاص- ثقافات

*محمود شقير 

تأتي إلى المبنى الكبير بطبقاته العديدة، تجد المصعد متعطلاً كالعادة، يسوء مزاجها، تؤكد لنفسها أن هذا يحدث بسبب حظها العاثر، تصعد الدرجات المئة، مع بعض لحظات من التوقّف بين الحين والآخر لالتقاط أنفاسها، ولا تأخذ قسطاً كافياً من الراحة، فما إن يظهر على الدرج رجل أو امرأة، حتى تواصل صعودها، كي لا يقال عنها إنها امرأة متعبة.

تصعد إلى مكتب الرجل الذي تزوّج ثلاث مرات، فلم يحالفه الحظ، ما اضطره إلى أن يعيش بقية عمره وحيداً لا يفكر بتكرار محاولاته البائسة، يجلس أطول وقت ممكن في المقهى مع أصدقائه المنهمكين في لعب الورق وتدخين النراجيل. كان لا يدخن ولا يلعب الورق، بل يكتفي بالجلوس قرب أصدقائه، يراقبهم حيناً، ويشرد ذهنه حيناً آخر، يتأمل حياته التي لم تكن سوى ركام من التفاهات التي لا تساوي شيئاً. كان _ دون إرادة منه_ يغرق في تأمل هذه التفاهات، ليس من أجل استخراج العبرة منها، وإنما لقطع الوقت، وللابتعاد المؤقت عن المنغّصات التي لا تفتأ تحاصره.

تدخل عليه المرأة التي مات زوجها منذ سنة. كان قد انتهى من شرب قهوة الصباح، ومن تصفّح الجريدة اليومية، وقراءة صفحة الوفيات. تذكر في اللحظة الأخيرة أنه لم يقلم أظافره التي استطالت وتكونت تحتها طبقة سوداء، أخرج المقص من جيبه، ثم أعاده إلى مكانه، مؤجلاً الأمر كله إلى أن تغادره هذه المرأة التي أخذت تقتحم عليه حياته الخاوية منذ أسابيع.

تخرج من حقيبتها أصنافاً من قماش طرّزت عليه أشكالاً شتى، لعله يوافق على اختيار نماذج منها تعتمدها المؤسسة التي يعمل فيها، تمهيداً لعرضها في المعرض المنتظر، تتحدّث عن مهنة التطريز حيناً، ثم تنهمك في الحديث عن حياتها الشخصية حيناً آخر، وحينما تراه منشغلاً عنها في تأمل الطبقة السوداء المنفّرة، تخرج من حقيبتها مقصّاً، تنهمك في تقليم أظافره، يستحيل بين يديها إلى طفل وديع، تقول له بلهجة يختلط فيها الزجر الهين مع شيء من الحنان المكبوت:عليك أن تستحمّ في الحال. تنـزل الدرجات المئة وهي تجرُّه من يده، دون اكتراث لضحك الموظفات الباحثات عن فرصة للضحك، تمضي به إلى حمّام بيتها القديم، تجرّده من ملابسه، وهو ذاهل، تأمره بالجلوس في الطشت الفسيح، تدلق فوق جسده عشرين سطلاً من الماء، تلفّه بمنشفة، تأخذه إلى السرير، ينام فيه وقتاً، ثم يصحو، فلا يجد المرأة، يبحث عنها في الطرقات مثل مجنون، لا يستر جسده سوى منشفة، ما لبثت أن تمزّقت بعد حين.

________

*روائي وقاص فلسطيني

من مجموعته القصصية “صورة شاكيرا”/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ 2003

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *