عن الصداقة والأدب!

خاص- ثقافات

*مرزوق الحلبي

في اقتصاد السوق يُمكن أن يكون لكل قيمة سعرها. لكن في الحياة لا يُمكن تسليع كل قيمة. يُمكن أن نسعّر ساعة العمل لكننا لا نريد أن نسعّر ساعة التطوّع. أو لنقلها بشكل مختلف، يكون الإنسان مستعدا للتطوع في عمل وتقديم وقته وخبرته لأجل العطاء لكنه غير مستعدّ للقيام بالعمل نفسه مقابل أجر. تحضرني مثل هذه الفلسفات في ضوء العلاقة الإشكالية بين الصداقة وبين الأدب لجهة أن هذه الصداقة صارت رهينة الأدب أو سببا في تعاسته.

كيف؟

يحدث أن يخيّرك صديقك بين الاعتراف به شاعرا أو كاتبا أو حرق بطاقة الصداقة في موقد قريب أو تمزيقها على مرأى منك ومن المارة دون أن يرفّ له جفن. فتضحك وتحسب أنها مزحة ثقيلة تنبع من مزاج عكِر أو خيبة ما. لكن سرعان ما تكتشف أنها مُعضلة حقيقية يزجّك بها أحدهم دونما رغبة منك. منبع ذلك الاعتقاد السائد أن الصديق ملزم بدعم صديقه كتب شعرا أو نظم نظما أو انتحل صفة أديب أو شاعر، أو أتى بكلام أطفال في العاشرة يتدربون على السجع أو كتابة الإنشاء قصد إدهاش المعلّمة أو شدّ انتباه استاذ اللغة العربية في المدرسة.

وماذا تختار؟

عادة ما لا أخفي رأيي في نصوص تُعرض علي. وعادة ما أكون صريحا متوخيا الوضوح في القول. وعادة ما أسوّغ رأيي وأبيّن أسانيده معتمدا على ما اكتسبته في الدراسة والتجربة والحدس. وعادة ما أوضح رأيي في الشعر وفي النصوص وفي الأدب والثقافة عموما وأقول صراحة ما هو الشعر في رأيي المتواضع أو غير المتواضع، وما هو الأدب وما هو النص القائم بذاته الشعرية الجمالية، وما هو النص المسنود بأخشاب أو زوايا حديد. وأكتب في هذا وأمارس بعض التنظير قاصدا أن أنقد المشهد والنصوص. وعادة ما أحرص على الفصل بين رأيي في نص وبين صداقتي للكاتب، بين كتاب وضعه في عهدتي أحدهم للقراءة وبين طبيعة معرفتي به. وهما أمران لا يجوز الربط بينهما اشتراطا كما يُريد البعض. بل أتشدد في الربط بينهما توازيا. فأقول أنني مخلص للأدب مثلما أنا مُخلص للصديق، وأني ملتزم بواجبات القصيدة مثلما أنا ملزم بواجبات الصديق أو الجار. فلا أقول رأيي في كتاب إلا بعد قراءته ثلاث مرات تفكيكا وحفرا!

وما الذي يحصل؟

قليلون منهم يتقبلون مبدأ التوازي بين الأمرين ـ الإخلاص للصداقة/الجيرة وبين الإخلاص للأدب. وكثيرون جدا هم الذين يرفضون هذا المبدأ ويصرّون على الربط بينهما. فإذا كنتَ صديقا حقا فلا بدّ من تطويبك لهم شعراء وأدباء. وإلا فأنت لست بصديق وربما لم تكن كذلك! سيصير وضعك مُربكا عندما تكون أنت نفسك أديبا أو شاعرا أو ناقدا أو صاحب شأن ورأي في هذا الباب. عندها، ستكون “شهادتك” مطلوبة وبإلحاح خاصة إذا كنتَ تفضلت بها على أحد لا تربطك به علاقة سابقة صداقة أو معرفة! فكيف تُعطيها للغريب ولا تُعطيها للصديق القريب؟ ستكون عُرضة للهجوم أحيانا وللافتراء أحيانا أخرى. ومن ثم يأتي الظنّ وتُعزى لك اعتبارات غريبة. وفي النهاية ستتعرض للتشكيك في إبداعك وقدراتك وأحكامك الأدبية بُغية “إسقاطك” بالضربة القاضية! يضعون صداقتك لهم في الامتحان بدل أن يضعوا نصوصهم الركيكة على المحكّ. يُنكرون الصداقة بدل أن يعترفوا بأنهم لا يكتبون شعرا أو أدبا وإنما يجربون وغالبا ما يفشلون.

وماذا أنت فاعل؟

تضحك من أمر يستدعي البكاء. وتوضّح من جديد مبدأ التوازي وأن القصيدة تستدعي الإخلاص منك، وأن الأدب يتطلّب إخلاصا من صاحبه خاصة من الناقد كما توجبه الصداقة تماما، وأن الإخلاص قيمة لا تُقدر بثمن ولا يجوز مبادلتها بقيمة أخرى أو مقايضتها أو اشتراطها. خاصة إذا كان لديك مشروعك الشعري أو الإبداعي وأنك تقصد تكريس حياتك وسنواتك له ومعه. سيهتز كيانك من هول ارتطام الصداقة بالشعر ومن شدة التوتّر الذي يفرضه الصديق عليك وعليهما. تتظاهر بدايةً أنك غير مصدّق وأن الأمر لا يتعدى كونه سوء فهم سيزول. لكن سيصدمك أنه غير زائل وأنه ستنشأ عن هذا الموقف مواقف أخرى أشد إيلاما. سيؤلمك أنك لا تستطيع أن تقول رأيك في الشعر لأن هذا الرأي ينسف كل ما يكتبه صديقك، وأنك لا تستطيع أن تكون صادقا مع القصيدة لأن صديقك سيعتبر صدقك معها خيانة لصداقتكم، وأنك مضطر ـ حسب منطق أصدقائك ـ أن تخون رسالتك الأدبية في سبيل إرضاء اعتقادهم الذي يكون في بعض الحالات وهما طفوليا أنهم شعراء كبار وأنهم مُبدعون في مستوى درويش ومُنيف!

وحصيلة المشهد!

في المحصّلة، سنجد أن معظم الصداقات مُسيئة للأدب وسببا في تعاسة المشهد الثقافي. لأن الكثيرين يُسقطون عليها أنماط القبيلة فتصير المعادلة “أنصر صديقك، شاعرا كان أو متدربا أو مراهق كتابة”. ومن هنا هذه الصداقات الافتراضية و”الحقيقية” بين كَتَبة يتوهمون أنهم شعراء مُجيدون ومخلّدون أو كتاب من الطراز الأول بينما المفردات مكسرة ومشوهة عند أقلامهم ومهروسة هرسا بين أصابعهم. صداقات على مدّ النظر تُنتج نصوصا على مدّ النظر يسكنها الوهم في أنها ستصير يوما معلقات أو موروثا مقدسا قِبلة الدارسين ومنتهى أرب الأدباء الشباب! هكذا، عندما تصير ذروة الشعر مئة “”Like في ذيل الصفحة أو “بينج بونج”: “أحببت المعاني الرائعة في قصيدتك”/”شكرا على مرورك”، حتى آخر الليل! فإذ بهذه الكلمات الخاوية تتصدر المشهد والأمسيات بينما النصوص في معظمها هياكل كرتونية لا تستطيع السير في الحيز أكثر من خطوة أو خطوتين.

صداقات تغتال النصوص فيبقى الوهم والخواء!

_______

*شاعر فلسطيني

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *