“محاكمة طه حسين”.. لماذا يخسر مثقفو العصر قضاياهم؟

*أحمد شوقي علي

منذ قرابة قرن من الزمان، منذ تسعين عامًا بالضبط، عصفت أزمة كتاب “في الشعر الجاهلي” بالمناخ المصري العام، بعدما تقدم شيخ الأزهر، وباحث في الجامعة، ونائب في البرلمان المصري ببلاغات ضد الدكتور طه حسين، يتهمونه فيها بالإساءة عمدًا إلى الدين الإسلامي ونبيّه محمد، هذا قبل أن ينضم البرلمان الذي يرأسه سعد زغلول إلى الهجوم نفسه على صاحب الكتاب. وبالرغم من ذلك كله، برّأ القضاء، طه حسين، بل وانتصر النائب العام في تقريره لحرية البحث العلمي؛ حتى وإن كان ذلك البحث يشكك في العقيدة، فما الذي حدث اليوم؟ وكيف –بسهولة- يخسر المثقف المعاصر كل قضية يخوضها؟

في تقديمه للطبعة الأحدث من كتاب “محاكمة طه حسين” لخيري شلبي، والموزعة مع جريدة “القاهرة” التابعة لوزارة الثقافة، يقول سيد محمود، رئيس التحرير، إن اختيارهم للكتاب جاء تأكيدًا لتراث “الاستنارة المصري”، من حيث تضمنه نص تقرير النائب العام المصري محمد نور، الذي باشر التحقيق في قضية طه حسين. ويتبنى خيري شلبي في تقديمه للكتاب التأكيد نفسه، لكن الكتاب لا يضم فقط وثيقة تؤكد الموقف المستنير الذي كان عليه القضاء المصري في ثلاثينات القرن الماضي، وإنما يعدّ كله بمثابة وثيقة توضح أسباب هزيمة المثقف المصري أمام الراديكالية.عندما أعدّ خيري شلبي كتابه للطبع للمرة الأولى (صدر العام 1973 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت)، كان هاجسه أن يقدم للقارئ نص تقرير النيابة المنتصر للثقافة المصرية، مكتفيًا بالتعليق عليه، وفي ظل الأزمة التي واجهها نصر حامد أبو زيد العام 1993، وجد شلبي أن إعادة نشر الكتاب ضرورية لحث القضاء على الاحتذاء بموقف محمد نور. إلا أن المقدمة التي كتبها للطبعة الثانية من كتابه، تعكس أحد أسباب انهزام المثقف المصري أمام قوى الأصولية، ولعله السبب الأهم في الهزيمة، كونه يتعلق بدور المثقف نفسه، من حيث انسياقه –من دون قصد- لاستخدام الخطاب الأصولي ذاته للتدليل على براءته من تهم الإساءة للدين أو المجتمع. فالدعوى بتفريق نصر أبو زيد عن زوجتهن باعتباره كافرًا، هي بالأساس دعوى للتفتيش في صدره عما إذا كان مؤمنًا بدِين الإسلام أم لا. لكن خيري شلبي، بدلاً من التأكيد على أن ما قام به أبو زيد ليس سوى بحث علمي في سبيل مقتضيات العلم وحده، ولا يتعلق بمقدار تديّنه، نجده يؤكد “أن نصر حامد أبو زيد ليس فحسب مسلمًا وموحدًا بالله، بل هو جندي من جنود الإسلام في حقيقة الأمر، لأنه بأبحاثه وبالمناهج الحديثة التي يستخدمها يكشف عن معالم العظَمة في الفكر الإسلامي وينشر قيمه”. أو يقول في موضع لاحق إن “نصر حامد أبو زيد إذن يدافع عن النصوص الدينية الأساسية ويدعو إلى حمايتها من عبث الجهلاء وضيقي الأفق الذين تجمدت مشاعرهم وتحجرت عقولهم، فلم يروا في النص الديني ما ينبغي رؤيته، ولم يفهموا من أبعاده ما يرجوه لنا الله سبحانه وتعالى”.. وكأن كل بحث علمي يستهدف عقيدة دينية –بحسب شلبي- لا بد أن ينتصر لها في النهاية! فأين مقتضيات البحث العلمي إذن؟ وما الفارق بين الخطاب العلماني الذي يتبناه خيري شلبي ونصر حامد أبوزيد، وبين الخطاب الأصولي الذي يتبناه أصحاب الاتهامات التكفيرية؟

لا أزايد هنا على موقف خيري شلبي، وإنما ألفتُ إلى الطريقة التي بات يتخذها المثقف للدفاع عن نفسه أو عن غيره من المثقفين، أمام ما يواجهه من اتهامات وتهديدات قد تودي بحياته، من حيث اللجوء إلى خطاب لا يفيد قضيته –وهي هنا علمية- بل يحيد عنها كثيرًا. وهذا الأمر يفطن إليه شلبي جيدًا، حين يصف طه حسين بأنه “آثر أن يتخلص من بعض الأسوار العقائدية المتوارثة التي تكبل حرية الفكر في موضوع بعينه، وذلك في سبيل أن يصل إلى حقائق أكثر نصاعة. إنه بحكم القانون الطبيعي للفكر –وبشريعته- لا يعتبر مارقًا بقدر ما يعتبر باحثًا عن الأكثر موضوعية وشمولية”. وفي وصفه كذلك لمعركة “في الشعر الجاهلي”: إنها انتصار للأسلوب العلمي “وسيادته في الدراسات الأدبية عمومًا، وسيادة مبدأ عدم التسليم بالحقائق الثابتة على علاقتها، فكل شيء يحب أن يخضع لإعادة التقييم انطلاقاً من نقطة الشك في صدق الأحكام السابقة أو حتى في وجود الشيء ذاته، ساد مبدأ الانفتاح على الحياة والحرية في التفكير، وعدم خضوع الباحث لغير روح التحليل ومنهج البحث”.

ولا يمثل ما أسلفته تضاربًا في خطاب خيري شلبي، وإنما يعكس العناصر التي افتقدها عصر نصر حامد أبوزيد، وتوافرت لدى طه حسين. فصاحب “في الشعر الجاهلي” منحته التعددية السياسية القائمة في زمنه، ظهيرًا قويًا يستند إليه، وهيّأت له بيئة مناسبة لممارسة المنهج العلمي الذي ارتضى أن يسلكه: “كان طه حسين يبحث عن بيئة ثقافية تستطيع أفكاره أن تنمو داخلها، ولم تكن تتوفر هذه البيئة إلا في حزب الأحرار الدستوريين. وكانت هذه البيئة بالفعل تتيح لأفكار طه حسين الثورية المتحررة فرصة للانطلاق من دون أي معوقات، وهي فرصة لم تكن لتتوافر له لو أنه انضم إلى حزب الوفد الذي يضم غالبية شعبية كلها محافظة، ولم يكن من المتوقع أن تسمح لطه حسين بانطلاقاته الفكرية المتطرفة في نظرها”.

ونتيجة لهذا السياق المجتمعي التعددي، جاء تقرير النيابة بحفظ القضية، ليس لأن هناك ضغوطًا سياسية مورست على القاضي محمد نور، لكن لأن نور –إضافة لاستنارته الواضحة في تحقيقه للقضية- يؤمن بتلك التعددية. فبالرغم من أن تقريره يكشف معارضته الشديدة لما جاء في كتاب طه حسين من ذكر للنبيّين إبراهيم وإسماعيل، ونسب النبي، ويعتبرهما إساءتين صريحتين للدين الإسلامي الذي هو دين الدولة بحسب الدستور، إذ قال “وقد بيّنا حين بحثنا الوقائع كيف قاده بحثه إلى ما كتب، وهو إن كان قد أخطأ في ما كتب”، إلا أنه بالرغم من ذلك يرفض أن يفتش في نية طه حسين عن تعمّده الإساءة للدين الإسلامي أم لا: “إلا أن الخطأ المصحوب باعتقاد الصواب شيء، وتعمد الخطأ المصحوب بنية التعدي شيء آخر”، لينهى تقريره -الذي قدم خلاله جهدًا بحثيًا مميزًا لا يليق إلا بناقد أدبي حصيف- منتصرًا للبحث العلمي: “وحيث إنه مما تقدم يتضح أن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدي على الدين، بل إن العبارات الماسّة بالدين التي أوردها في بعض المواضع من كتابه، إنما قد أوردها في سبيل البحث العلمي مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها”.

قد تبدو الإجابات التي يضمها كتاب “محاكمة طه حسين”، على سؤال خسارة المثقف بديهية. ربما تجيب عنها مواقف كثيرة، وليست فقط قضية طه حسين أو نصر حامد أبو زيد أو فرج فودة أو أحمد ناجي أو إسلام البحيري أو فاطمة ناعوت.. وإنما يبقى السؤال الأصعب: كيف لا يخسر مثقفو العصر قضاياهم؟

(*) كتاب “محاكمة طه حسين”، هو إصدار مشترك ما بين “الهيئة العامة المصرية للكتاب” وجريدة “القاهرة”، في إطار سعي الجريدة لاستكمال سلسلة “كتاب القاهرة”، والتي كانت قد توقفت بعد ثورة 25 يناير. وتصدر السلسلة شهريًا ويوزع الكتاب مجاناً مع عدد الجريدة الذي يصدر يوم الثلاثاء من كل أسبوع.
_______
*المدن

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *