دموع السيدة العذراء

خاص- ثقافات

*يوسف غيشان

المكان: مادبا.

وهي بلدة صغيرة الى الجنوب من العاصمة الأردنية عمّان.

الزمان: أحداث أيلول الأسود في العاصمة عمّان.

المشهد: أسرة أردنية ضالعة  في الفقر تقطن بيتًا  طينيًّا، أب موغل في الشيخوخة، أم وأربعة أطفال .. أنا  أكبرهم، دجاج مرعوب من صوت الطلقات، بحيث صار تفريق الديك من الدجاجة أمرًا مستحيلا، مع الاحترام لنابليون بونابرت.

أمّي تكذب … نعم إنها تكذب … أمامي وأمام أخوتي . . أمام الجميع… يا للهول !!!

لم يكن الطفل آنذاك، وربّما حتى الآن، يستوعب الكذب الذي مارسته الأم على رؤوس الأشهاد والعباد .. كذب واضح جليّ كالفضيحة… كطعنة خنجر.. كسكتة قلبية.

فالأم تعرف تماماً – كما نعرف أخوتي وأنا –  بأنّ جارنا أبو يونس فدائي مدجّج، وكنا نراه كل ّ يوم خارجًا  أو عائدًا  إلى بيته الترابي المستأجر الملاصق لبيتنا وهو يتأبط الكلاشنكوف.

( أخمس حديد ) وتتهدّل من خواصره بضع قنابل يدوية متعددة الأشكال.

أمّي كانت تكذب تماما  حينما أجابت العسكري  بالنفي،  لمّا سألها إذا ما كان جارنا أبو يونس ينتمي للمنظمات الفدائية، لا بل أنّ أمّي  أفرطت، دون أن يطلب منها العسكري ذلك، في حلف الأيمان الغليظة التي تفيد بأنّ جارنا أبو يونس، ليس له في هذه السواليف وأنه (زلمه بده يعيش ع  باب الله ) .

أمّي كانت تكذب دون أن يرف ّ لها ضمير … يا للهول!!!

لم أنبس ببنت شفة خلال الحوار مع العسكري، لكنّي بعد أن هدأ حوش الدار، وعدنا نفرّق بسهولة بين الديك والدجاجة، خرجت، أنا، مكتظا بالغضب والخذلان، لأنّ أمي كانت تكذب بهذه الصفاقة والثقة.

    بقيت أسير على غير هدى في السهول المحيطة بالمدينة وحيدًا وحزينًا حتى الموت.

عدت إلى البيت في الهزيع قبل الأخير من الليل  مهدودًا  من التعب والخيبة.

باب البيت  كان مفتوحاً (  كالعادة )، أبي العجوز وأخوتي نيام، ثمّة ضوء ينوس من طرف الغرفة، اقتربت… كانت أمي تركع بخشوع أمام صورة السيدة العذراء، الشمعة في طريقها الى الزوال … سمعت أمّي تصلي بصوت مسموع وتطلب المغفرة من السيدة العذراء لأنها كذبت وحلفت الأيمان الغليظة (والكذب خطيئة مميتة كما علّمتنا الأم )، وسمعتها تستعطف العذراء وتبرّر فعلتها :

–      يا عذرا يا شفيعة .. أنا كذبت مشان عياله الزغار، خفت يوخذوه وما يظلّ  إلهم  والي !!!!

أقتربت من أمي بهدوء

اقتربت أكثر

وأكثر

كانت ثمّة دمعة عملاقة تتلألأ بين أجفان السيدة العذراء .
_______
*كاتب أردني

ghishan@gmail.com

 

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *