ماغريت الرسام العقلاني الذي خان الصورة

*أنطوان جوكي

إلى جانب سلفادور دالي، يعتبر رينه ماغريت (1898 – 1967) الفنان الأشهر داخل الحركة السوريالية. لكن هذه الشهرة التي تتجلى في تعرُّف معظمنا اليوم إلى أسلوبه الفريد فور وقوع نظرنا على أي لوحة من لوحاته، حالت في الوقت نفسه دون إدراك كثر سيرورة إبداع هذا العملاق والهدف الذي سعى خلفه طوال حياته. ولا عجب في ذلك، فالشهرة التي تؤمّن انقشاعاً لمن يحظى بها، قادرة أيضاً على تظليل معالمه حين تقوى أضواؤها.

وللتخفيف من حدة هذه الأضواء وتسليط نظرة كاشفة على عبقرية هذا الفنان، ينظّم مركز بومبيدو في باريس معرضاً ضخماً له يحمل عنوان «ماغريت، خيانة الصور»، ويقترح مقاربة جديدة لأعماله تسمح بقراءتها على ضوء اهتمامه الثابت بالفلسفة.

«جميلٌ مثل لقاءٍ طارئ بين مظلّة وآلة خياطة على طاولة تشريح»، كتب الشاعر الفرنسي لوتريامون في «أناشيد مالدورور» (1869). وأثناء نسخه لوحة جورجيو دو كيريكو «نشيد الحب» عام 1923، اكتشف ماغريت تلك الجمالية الصادمة والاعتباطية التي تسيّرها جملة لوتريامون واعتمدها السورّياليون كمبدأ جمالي.

ولن تلبث هذه الجمالية أن تكهرب الفنان البلجيكي الشاب، فيستبدل المظلّة وآلة الخياطة في لوحاته بقفّاز من كاوتشوك أحمر وتمثال نصفي لإله إغريقي أو بخيّالين على رقعة شطرنج أو بستارات تظلل مشهداً طبيعياً أو بباروكة تعلو وجوهاً مخفيّة المعالم…

b0054362_03015151

لكن بدءاً من عام 1927، انطلق ماغريت في إنجاز لوحات يقابل فيها صورة شيءٍ ما بتعريفٍ مكتوب لا يمت بصلة منطقية إلى هذا الشيء. وما يمكن أن يظهر كمجرّد تطبيق للجمالية التي أسّس لوتريامون لها، لن يلبث أن يفتح فصلاً جديداً في فن ماغريت. ففي هذه اللوحات، يُطلِق الفنان تأمّلاً معقّداً في الصور والكلمات متسائلاً عن ملاءمتها أو تطابقها مع الأشياء التي تمثّلها، وبالتالي مشكّكاً في التراتبية التي وضعتها الفلسفة للكلمات والصور، أو للشعر والرسم، بحيث تحتل الكلمة أو الشعر المرتبة الأولى على مستوى القدرة التعبيرية. وهو ما يحضّه على أن يجعل من فنّه تعبيراً دقيقاً للفكر، فيلتزم مسعى عقلانياً في ممارسته الرسم، ويتخلى عن التقاربات الصدفوية والطارئة بين أشياء متنافرة لمصلحة رسمٍ يقارع بدقّته المعادلات الرياضية. هكذا تصبح كل لوحة من لوحاته حلاً لمشكلة تشكيلية تواجه أي فنان، أو تفسيراً منهجياً لمعادلة بصرية يتصالح داخلها الشيء الممثَّل وطريقة حضوره في إدراكنا والضوء الذي يتوجّب أن يحضر هذا الشيء داخله لدى تمثيله.

ويدين ماغريت بمسعاه العقلاني لمؤسّس الحركة السوريالية البلجيكية عام 1926، بول نوجيه، الذي منح هذه الحركة، بفضل دراساته العلمية، توجّهاً يختلف بطابعه المصبوغ بالعقلانية والمادّية عن توجّه مجموعة أندريه بروتون. توجّهٌ قاد ماغريت باكراً إلى جعل فنّه أداةً إدراكية في خدمة الفكر، وإلى الاصطدام بقناعات السورياليين الباريسيين الذين تقرّب منهم عام 1927، أي في الفترة التي تبنّى بروتون ورفاقه خلالها جدلية الفيلسوف هيغل التي تؤكّد أسبقية الشعر على جميع الأشكال الفنية الأخرى. فللرد على هذه القناعة، نشر ماغريت في مجلة «الثورة السوريالية» عام 1929، نصّاً مصوّراً حلّل فيه موقع الكلمات والصور، متوقّفاً عند العلاقات بينها ومبيّناً إمكان حلول الصورة مكان الكلمة والعكس بالعكس. وفي السياق نفسه، أنجز آنذاك لوحته الشهيرة «خيانة الصور» التي رسم فيها غليوناً وضع تحته عبارة «هذا ليس غليوناً»، كجواب عن التعريف الذي وضعه بروتون وإيلوار للشعر قبل ذلك ببضعة أشهر: «الشعر غليونٌ».

وإذ شكّلت سنوات ما قبل الحرب العالمية الثانية مرحلة صراع ماغريت مع الشعراء، فإن سنوات ما بعد هذه الحرب شكّلت مرحلة مواجهته للفلاسفة، وفي مقدّمهم مواطناه ألفونس دو فالانس ثم شاييم بيريلمان اللذان فتح مع كلّ منهما نقاشاً حادّاً حول موقع فن الرسم، دافع فيه عن القدرات التعبيرية الكبيرة لهذا الأخير، قبل أن يكتشف كتاب ميشال فوكو «الكلمات والأشياء» فيتراسل الاثنان فترة طويلة وينتج من هذه المراسلة الخصبة كتاب فوكو «هذا ليس غليوناً» (1973).
b10d13c8c0e7418195cd9a72dc369aa7

وجدير ذكره هنا، أن مارسيل دوشان هو أوّل من انتقد تراتبية الفنون التي وضعها الفلاسفة. لكن ماغريت، بخلاف دوشان، لم يكتفِ بالدفاع خطّياً عن «الكرامة الفكرية» لفن الرسم، بل سعى أيضاً إلى رفع هذا الأخير إلى مرتبة الشعر أولاً ثم الفلسفة، عبر مدّ رسمه بالموضوعية التي تتحلّى بها مفردات اللغة، كما يتراءى ذلك في لوحات مثل «النائم الجريء» و»أبجدية التجليات» و»الحكيم المعالِج»، التي استخدم فيها العصفور والريشة والقبعة والتفاحة والستارة والشمعة والباروكة والنار والظلال كمفردات تشكيلية ذات دلالات تعبيرية لا متناهية.

وفي الواقع، تتجذّر هذه المفردات ودلالاتها في معرفة ماغريت العميقة بالرسم القديم وبالسرديات والأساطير التي تقف خلفها وتتقاسم جميعاً مُساءلتها موقع الصورة وعلاقتها بالواقع أو الحقيقة. فجدلية الصور والكلمات تعود أولاً، إلى السردية التوراتية الشهيرة التي يحكم النبي موسى فيها سلباً على الصورة بعد أن حوّل تعبُّدها العبريين عن الوصايا العشر. والظلال التي تتكرر في لوحات ماغريت تستدعي تلك التي اعتبرها الكاتب الروماني بلين القديم أصل فن الرسم، وبالتالي تسائل قدرة الفن على تجسيد الواقع، مثلها مثل الستائر التي جعل منها هذا الكاتب أيضاً النموذج الأمثل لمخادعة الصورة، واستعان ماغريت بها للسخرية من قدرته على إنتاج صور واقعية إلى حد تخدع فيه العين. وكذلك الأمر بالنسبة إلى إشراكه النار في لوحاته بالفضاءات المغلقة، كالغرف والبيوت والكهوف، والهدف استحضار حكاية أفلاطون «أهل الكهف» التي تشكّك في تمثّلاتنا الناتجة، وفقاً إلى الفيلسوف الإغريقي، من إدراك حسّي غير مكتمل للواقع.

باختصار، سعى ماغريت، بمحاولته فرض فنّه كشكلٍ منجَز للتعبير عن الفكر، إلى تفجير التقليد الفلسفي الذي يدين العلاقة الإشكالية للصور بالواقع أو الحقيقة. وبفضل مفرداته التشكيلية المحدّدة عمداً وعمليات ترتيبها وإخراجها اللامتناهية، تمكّن من تحويل لوحاته إلى تفنيدٍ منهجي للحِرْم الذي رمته الفلسفة على فن الرسم.

___________

*الحياة

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *