حَرْبُ السَّادس مِن أكتوبر .. إحداثيات النصر وتفاصيل القوة

خاص- ثقافات

*الدكتور بليغ حمدي إسماعيل

من كل عام يجيء يوم السادس من أكتوبر ليحمل للمصريين بصفة خاصة وللشعوب العربية القاطنة بمنطقة الشرق الأوسط المحتدم سياسيا وعسكريا ، حنينا خاصا واستثنائيا لاسترجاع ذكريات النصر وإحداثيات الالتحام العربي الرائع والبسالة العسكرية التي انفرد بها الجندي المصري ، هذه البسالة التي منحت للعسكرية المصرية تفوقا وامتيازا تستحقه بعد سحق العدو التاريخي للشعوب العربية ، أعني وأقصد الكيان الصهيوني .

ولم يعد من باب التكرار واجترار القول غير المفيد أن نتحدث ونداول الحديث عن حرب أكتوبر التي انتصر فيها الجيش المصري ممثلا عن الشعوب العربية التي اتحدت وقتئذ على العدو الصهيوني المتغطرس ، بل إن الحديث بصفة مستدامة لا يصيب القارئ أو المشاهد أو المستمع بقدر من الملل ، لأن نصر أكتوبر بوصفه حدثا استثنائيا في العصر الحديث هو بوابة أمل مطلقة يحتاج إليها أبناؤنا والناشئة من صغارنا إليها وإلى طاقة النور المتصاعدة بقوة من تفاصيل المشهد البطولي الذي قام به الجيش المصري العظيم .

فضلا عن أن الحديث المستدام ولو بصورة سنوية موسمية عن مشهد النصر المصري في أكتوبر 1973 هو حديث عن مشهد مثالي لكيفية التلاؤم والتلاحم والتعلق الإيجابي بين الجيش والشعب ، فمصر أكتوبر 73 لم تكن جيشا فحسب ، ولا جيشا فحسب ، بل كانت نسيجا رائعا لا يمكن فصل أجزائه بين الشعب والجيش وربما أن هذه الصورة السديمية هي التي منحت الوطن سر العلاقة الوثيقة بين شعبه وجيشه .

ويظل كثيرون من أصحاب النظرة السلبية البائسة أن تكرار الحديث عن نصر العرب في أكتوبر 1973 يعد من قبيل الكتابة المدرسية في حصص التعبير الإنشائي رافضين هذا التوجه ومترصدين ذاك الفعل وكأنهم يريدون إجبار الأقلام العربية التوقف عن الإشادة بالنصر العربي والترويج إذن لثقافة التطبيع والتمييع مع الكيان الصهيوني . لهؤلاء أقول إن الحديث عن أكتوبر 73 حربا ونصرا وانتصارا والتحاما عربيا هو خير حديث عن الهوية العربية التي باتت محل خطر وتهديد في ظل محاولات مستدامة غربية بالتعاون من بعض الطوائف والفصائل المتطرفة التي تستهدف تقويض الأوطان ، لذا فلا مناص من الحديث عن نصر مستحق وجيش يستحق وشعب يعطي أروع درس في الالتحام بجيشه ووطنه.

ووسط هذا الجدل السياسي القائم نسبيا والحراك المجتمعي الهائل من كافة الأطياف في مصر يظل أكتوبر يحمل عاماً على صدر عام ذكرى أعظم انتصار للعسكرية المصرية في العصر الحديث ، وسنتجاوز القول بأن مصر جميعها شعباً وجيشاً استطاعت في السادس من أكتوبر أن تنتصر للكرامة والإنسانية وأن تعبر حواجز اليأس لتضرب بذلك أروع وأعمق ملحمة وطنية تجبرنا على التفكير فيها عقوداً طويلة قادمة.

إن انتصار أكتوبر قاده شعب عظيم قبل جيشه الذي قدم للوطن حدثاً فريداً في تاريخه ومجداً مقيماً نظل نتذكره ونُذكِّره أيضاً للأجيال المتعاقبة ، هذا النصر إن أمكن لنا تحليل هدف استرجاعه ذهنياً هو مطمح راق من أجل عدم الوقوع في غياهب الإحباط أو الاستسلام الوئيد لمشاعر اليأس التي تجتاح صدور بعض المصريين ، إن أكتوبر النصر والحدث درس عظيم من شعب قادر على لم شتاته وقت الأزمات والشدائد التي تعصف به ، فالمواطن الذي مزقته وقائع السياسة الداخلية وإبطاء قرار العبور العظيم نجح في أن يعبر أزمته النفسية واجتاز بنجاح مخاطر المرحلة الضبابية والحرب النفسية التي كان يحياها مثلما استطاع البواسل ضباط وجنود مصر العظيمة دائماً في اقتحام واجتيار وعبور خط بارليف الذي صُوِّر للبعض أنه منيع .

مصر أكتوبر بالنسبة لأجيال النصر أكبر من انتصار عسكري على الكيان الصهيوني المتغطرس آنذاك ، وأعمق من مجرد تخطي هزيمة يونيو 1967م ، وأروع من تلك المشاهد السينمائية التي جسدتها أفلام السبعينيات والتي أعقبت النصر ، ولكي يدرك المصريون عظمة الانتصار التاريخي فعليه أن يرجع إلى الوثائق العسكرية الأمريكية التي أفادت عن استيقاظ الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون من سباته الذي لك يكن عميقاً بالقطع واستدعائه كبار مستشاريه حينما علم أنباء الحرب من أجل التشاور وإعداد التقارير التي كالعادة تبوء بالفشل مثلما باءت تقاريرهم بالفشل الذريع في الخامس والعشرين من يناير 2011م والثلاثين من يونيو 2013م ، وجاءت التقارير لتفيد خطورة تقدم إسرائيل وعبورها قناة السويس واحتلالها مدينة القاهرة وضربها بالطائرات والصواريخ ثم الاستدارة إلى سوريا لاحتلال عاصمتها دمشق .

ولاستدراك متابعة الحدث قام وزير الخارجية الأمريكية ومهندس اتفاقيات السلام هنري كسينجر بالاتصال هاتفياً بالدكتور محمد حسن الزيات وزير خارجية مصر والذي كان موجوداً بالفعل في نيويورك للمشاركة في اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة ، وطبعاً كان الاتصال الهاتفي مفاده أن يتوقف القتال الدائر خشية الرد الإسرائلي القوي والطاغي لاسيما وأن مصر وسوريا لا تحتملان هذا الرد .

وكانت صفعة الدكتور محمد حسن الزيات قوية حينما أبلغ هنري كسينسر أن القوات المسلحة المصرية الباسلة أصبحت على الضفة الشرقية للقناة من بورسعيد شمالاً وحتى عيون موسى جنوباً ، وهرع هنري كسينجر إلى الزيات بضرورة وقف إطلاق النار فوراً وعودة القوات المسلحة إلى خطوطها السابقة على العبور العظيم . ثم جاءت صفعة ثانية لوزير الخارجية الأمريكي حينما قوبل طلبه الساذج بالرفض لسبب بسيط في مظهره عظيم في الجوهر والكنه والهدف ، ذلك لأن جنودنا البواسل الأبطال كانوا على أرض المعركة إما النصر أو الشهادة فلم يسمعوا بهذه الأخبار أو الالتفات لاقتراحات كسينجر المجحفة والتي كانت تستهدف تعويق النصر المصري الذي تحقق بالفعل.

ورغم أن قصة أكتوبر محفوظة بالذاكرة والقلوب أيضاً لكن لابد من التذكرة ببعض التفاصيل المدهشة مثل أنه حينما أدرك قادة الكيان الصهيوني بخطورة وفداحة الهزيمة على أيدي هؤلاء الجنود البواسل المخلصين لأوطانهم لجأوا مساكين تحديدا جولدا مائير وموشى ديان إلى الولايات المتحدة الأمريكية استنجاداً بالرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون كي تتدخل مباشرة في الأحداث. هذه مصر القوية وهذا هو نصرها العظيم الذي يريد بعض المتنطعين اليوم أن يتغافل عنه ويتجاهل عظمة وقوة وبسالة هذا الجيش الاستثنائي .

لقد ظل الكيان الصهيوني منذ هزيمة يونيو 1967م يروج بامتلاكه قوة عسكرية لا تقهر ، وأسلحة مبتكرة لا يمكن إقصاؤها بالهزيمة لاسيما من مصر التي لا تفكر في المواجهة لضعفها ، وبعد أن استفاقت إسرائيل الصهيونية على حقيقة وواقع مرير بالنسبة لها خرج العالم بصحفه ومطبوعاته ووسائطه المسموعة والمرئية يؤكد أن أداء العسكرية المصرية فاق كل توقعات الحرب وتقدير كافة الخبراء العسكريين ، وأدرك الغرب الأوروبي وأمريكا أن خريطة المنطقة قد تغيرت ، الأهم من ذلك حيرة علماء النفس في العالم الذين تاهوا وسط دراساتهم وأبحاثهم التنظيرية الفارغة من الحقيقة حينما وقفوا باهتين مندهشين كيف استطاع هذا الشعب بجيشه أن يجتاز مرحلة التعثر والتشتت والحيرة لينتصر على أمريكا الصغرى أقصد إسرائيل.
وفرق كبير بين انتصار أكتوبر العظيم بالنسبة للمصريين وانتصار الكيان الصهيوني علينا في يونيو 1967 ، فالإسرائيليون ظلوا ست سنوات يعايرون مصر والدول العربية بمرارة الهزيمة وطعمها المرير وتوقفوا عند حد هذه الفاصلة الثابتة ، أما المصريون فكانوا خلاف ذلك ، إنهم لم يلتفتوا إلى النصر على إسرائيل فحسب بل لم تكن هزيمة الكيان الصهيوني بالنسبة لكثير من المصريين موضوع الحديث ، بل إن الأجدى لديهم وقتذاك كان الحديث عن بطولات الجندي المصري ، وخصاله الوطنية ، وصفاته الاستثنائية ، وتضافر روح التعاون والتكاتف بين الشعب والجيش وأن المصر قادر على الأخذ بزمام المبادرة والمبادأة .

وحينما اطلع المصريون على نص التوجيه السياسي العسكري الذي صدر في أول أكتوبر من الزعيم الخالد البطل الوطني المخلص محمد أنور السادات والذي نص على إزالة الجمود العسكري الحالي بكسر وقف إطلاق النار اعتباراً من يوم 6 أكتوبر 1973، وتكبيد العدو أكبر خسائر ممكنة في الأفراد والأسلحة والمعدات ، والعمل على تحرير الأرض المحتلة على إمكانيات وقدرات القوات المسلحة. أدرك المصريون وقتها أنهم بالفعل قادرون على عبور الهزيمة النفسية والوصول إلى أقصى مراتب الأمل .

ومثلما أكد خبراؤنا السياسيون الأجلاء بأن أعظم الأسلحة التي واجهنا بها العدو الصهيوني الخبيث والماكر والمستجدي بالمعسكر الأمريكي كان سلاح الصبر أو بتعبير دقيق بدستور الصبر الذي تجسد من خلال تخطيط محكم وعزيمة وطنية وإدارة عسكرية ملتزمة بالواجب الوطني الذي لم تتخلى عنه يوماً واحداً منذ إنشائها.

ولمن يفطن حقيقة الانتصار التاريخي للقوات المسلحة المصرية الباسلة على الكيان الصهيوني يدرك بضرورة الوعي بأن سنوات المرارة والهزيمة في يونيو 1967 واستنزاف دماء المصريين ومشاعرهم بصورة يومية واستحالة العبور بل واستحالة التفكير في الحرب من الأساس كل هذا كان كفيلاً بتحقيق النصر إذا ما فكرنا فيه بشكل إيجابي ، فالمواطن من حقه أن يستسلم لمشاعر اليأس والإحباط التي تعتريه بعد نكسة يونيو وأن تفاصيل المشهد السياسي آنذاك أصبح ينبئ بالانكسار المستدام ، أما على الشاطئ الآخر فهناك رجال يؤمنون بدورهم الوطني وبحقهم في أن يحتفظ سجل التاريخ بأسمائهم لما سيقدمونه من أعمال وبطولات وتضحيات لبلادهم وأوطانهم ولأنفسهم أيضاً ، هؤلاء الرجال الذين أتقنوا بحق دقة التخطيط ، وكما ذكر مرسي عطا الله في كتابه الماتع عن حرب أكتوبر عن صفاتهم التي تجسدت في براعة الإعداد وحسن الحشد وروعة الأداء .

ولك أن تفتخر بعظمة العقل المصري الذي فكر ودبر في وسيلة سحرية لفتح الثغرات في الساتر الترابيع المنيع عن طريق سحر المضخات المائية وليس اللجوء إلى المدفعية أو القنابل أو أنواع المفرقعات المختلفة. وما أجمل أن نستغل براعة هذا العقل الجميل في معركة إعادة البناء الداخلي للوطن وهي معركة شريفة لا تقل أهمية أو شرفاً عن معركة العبور في أكتوبر المجيد.

أكتوبر الذي يظل أهم إحدى العلامات الفارقة في العسكرية العالمية التي ينبغي أن نعتز بها ونكرس ثقافتها لدى أبنائنا وطلابنا ، هذه العسكرية المذهلة التي وقف عندها ذهولاً ودهشة الجنرال الإسرائيلي ناركس نائب القائد العام للجبهة الجنوبية يوم التاسع من أكتوبر 1973 بقوله : ” لابد أن نشهد للمصريين بحسن تخطيطهم ، لقد كانت خطتهم دقيقة وكان تنفيذهم لها أكثر دقة ، لقد حاولنا بكل جهدنا عرقلة عملية العبور وصدها بالقوة وردها على أعقابها ، للكننا ما كدنا نتمثل ما حدث إلا وقد تحققت لهم نتائجه كأننا أغمضنا أعيننا وفتحناها فإذا بالجنود المصريين قد انتقلوا تحت النار من غرب القناة إلى شرقها ووجدناهم صباح السابع من أكتوبر بخمس فرق كاملة أمامنا ” .

ثمة ملمح مهم ونحن نستدعي ذكريات نصر أكتوبر ولا ينبغي تجاهله ، وهو التضامن العربي الفريد الذي حدث قبيل المعركة ، وهذا التضامن بالفعل أذهل العالم وقتذاك ، وربما هي المرة الأخيرة التي تضامن فيها العرب حكومات وشعوب إزاء قضية وطنية وقومية مصيرية قبل أن ينشق الصف ويشب الشقاق يعصف بكيان الأمة العربية ، وهذا التضامن التاريخي تجسد صراحة في التنسيق الاقتصادي لاسيما مع دول النفط حينما تم استخدام سلاح البترول بكفاءة وفعالية فكان التضامن والتوحد علامة فارقة من علامات النصر العربي .

وإذا كانت حرب أكتوبر بداية للتحرير والتنوير وعودة للوعي الوطني ، فهل انعكس هذا على الداخل والخارج العربي بعد ذلك وحتى أيامنا الراهنة ؟ فسيناء منذ العبور وهي تعاني التهميش والإهمال ولا مبالاة المسئولين وتجاهل الحكومات المتعاقبة عليها ، ولا ينكر أحد أن سيناء وجه إليها مخطط داخلي منذ عقود الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك استهدف بقاءها في منطقة الظل وعلى استحياء أقول منطقة النسيان اللهم سوى تواجدها الرمزي في أغنيات الاحتفالات الرسمية فقط . وكان من الأجدى والأحرى إلقاء الضوء عليها وتعميق الرؤية لصالح تنميتها وتطويرها بدلاً من الاكتفاء بالإشادة باسم أرض الفيروز.

أما الانشقاق العربي وتمزيق الصف القومي فحدث ولا حرج ، إن جامعة الدول العربية اكتفت بالصمت المطبق العاجز أمام أية مشكلة أو كارثة تتعرض لها دولة عربية ، وقضية فلسطين الأزلية شاهدة على هذا العجز المستدام ، بالإضافة إلى أن جامعة الدول العربية التي من المفترض أن تعبر عن الحالة العربية تقف موضع المتفرج والغرب والشرق والشمال والجنوب يصنعون الحدث على أراضي الدول العربية من تفتيش نووي إلى تقصي حقائق بشأن الثورات إلى مباركة المستوطنات ..

إن الوطن العربي اليوم الذي تمزقه فتنة السياسة واختلاف الرؤى وحدتها بحاجة ماسة وضرورية لاستعادة روح أكتوبر منذ أربعين عاماً ، لاسيما بعد ظهور أنماط معينة من الوعي السياسي الذي جعل بعض الناس بعيدين تمام البعد عن قضية الأوطان والمشكلات التي تعصف بالشعوب العربية وانشغال بعض البلدان العربية نفسها ببطولات وهمية وافتراضية على حساب شقيقاتها وهو الأمر الذي بدا غريبا على وطن عربي واحد استطاع أن يحقق انتصاراً زَيَّن تاريخ العصر الحديث والمعاصر.

________________
ـ مدرس المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية والتربية الإسلامية
كلية التربية ـ جامعة المنيا ـ مصر

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *