عام دراسيِّ جديدٍ

خاص- ثقافات

محيي الدين كانون *

كان جدَّه دائماً يقول  له بسخرية : ( يا حازم ــ  كلُّ شيءٍ يمْكن تفْسيرَه في عالمِنا هذا حتى الأَحْلام ) ، لمْ يهتمْ (حازم ) لمعنى الجمْلة ، وركنَها في ذاكرتِه ، لأنّه يعْلم أنَّ الكثيرينَ منَ الكِبار يفْسرون الأَشياءَ بغموضٍ كبيرٍ ، ورُبَّما لم  يأبْه  لهذه الجُمْلةِ بسببِ من الغموضِ الذي يكْتنفها ؛ لأَنَّه يعْرف أنَّ  أحْلامَه لا تحتاجُ  لتفسيرٍ ، أحْلامُه تتمَحْور في أنّ  يكونَ طياراً يرتدي البزْةَ الكُحّلي  الخاصَّة بقائدِ الطائرةِ ، يزورُ دُول العالم ِ ويطوفُ  كلَّ أَنحائه النائيةِ ، وأَنْ تكونَ له طائرةُ خاصة ٌيحلقُ بها في الفضاءِ كُلّما أرادَ ، ومِثْل هذه الأَحْلام يمكنُ تحْقيقها  ، ولا تُفسر إلاَّ بالجِدّ والمواظبةِ على الدروسِ والتفّوق في كُلِّ عامٍ دراسيّ جديدٍ  .

في اليوم الثاني  ، استيقظَ (حازم ) حزيناً ومهموماً فقد رأى في منامِه أستاذة اللغة العربية  تصَفه  بالعناد . وعلي الرُّغم  من تفوقه  في اللغةِ العربية ِ ، وحُب وتناءِ مدرسيه الآخرين له ، فلمْ ير موجباً أو سبباً معقولاً لهذه القَسْوة  وسط اندهاش واستغراب زملائه في الفصْل ، كتَم ذلك في نفْسه ، وقررَ عدْم الذهابِ إلى  المْدرسةِ أبداً . وبالفعل كان في كُل صبَاح يتظاهر أمام والده بالدخولِ للمدرسةِ من بابِها الكبير ، ولكنّه بمجرد أنْ يتوارى قليلًا داخلَ المدرسةِ ، ينْعطفُ فيما بَعْد ويمْرقُ من بابِ صغيرٍ جانبيّ ، وينْزِل عبَر سلالمٍ صغيرةِ إلى حقْل واسعٍ مترامي الأطرافِ حيثُ تتكاثفُ فيه أشجار الزيتونِ واللوزِ ، وتحلق فيه أسراب من العصافير المختلفة  بألوانها الزاهية  وسط بهرة الشمس المشرقة  . يجلس (حازم  ) تحت إحدى الأَشجار مستمتعاً بزقزقة العصافير، ودفءِ الشمْس ، ويظلُّ يراجع كُلَّ دروسِه  عدا اللغة العربية إلى حين سماعه لجلبة تلاميذ المدرسة وضوضائهم عند نهاية الدوام المدرسي .

لاحظت والدة ( حازم )   في اليوم التالي حزنه الشديد ….فليس هو بحازم   النشط ، المرح ، البسّام ، سألته مباشرة :
–         ما بك يا حازم ؟!
حكى لها حازم بالتفصيل عمّا رآه ليلة البارحة في منامِه ، وقرر ألا يذهبُ للمدرسة هذا العام .
ضحِكت والدته قائلةً برصانة معهودة :
–        إنه مجرد حُلم من أحلام كثيرة مزْعجةٍ .
ردّ ( حازم ) باندهاش مفْعم :
–        وهلْ هناك  أحلام  مزعجة ؟!
–   نعم …عندما ننام  قد نرى أحلاما  أو رؤى أو كوابيس .

ردّ حازم بنغمة مستنكرة :
–     هذه  ليست أحلامي ، أحلامي أن أصبح طياراً ، أقود طائرتي الخاصّة ، وأحط بها
في كل بقاع الدُّنيا .
أستدرك ( حازم ) وكأنه في عَجلة ٍ من أمْره ،  وبحماس لئلا  يفوتُه  السؤال :
–        وما معْنى كوابيس ؟!
–       إنها  نوع من الأحْلام المزعجة …وجدُّك يدلّك علي التمييزِ بين الأحلام      والكوابيس  والرؤى .

تذكر( حازم )عبارة جدَّه الأثيرةَ : ” كل  شيء يمكن فهمه وتفسيره حتى الأحلام ”   عندئذٍ ذهبَ  (حازم )  مهرولاً حيثُ ينزلُ جده في الطابقِ الأرْضي . كان  الجد دائماً  يناديه  بهذه العبارة : ” يا كابتن حازم ”  لمعرفتِه  هوْسه بالطيران والطائرات الورقية  والبلاستكية  والمعدنية ، وكان دائما يقترحُ عليه عندما يرسم طائرة ، أن يلوّنَها بذلك اللون حتى صارت له ألفة بألوان كثيرة و أنواع من الطائرات مختلفة , رآه جَدُّه مسرعاً نحْوه لاهثاً  ودقاتِ قلْبِه مسرعة تسبقُه فسأله مندهشاً :
–        ما بك يا حازم  ؟!
روى ( حازم )  لجده  الحُلْمَ بكل تفصيلاته كأنه يشاهده أمامه ملوناً علي الشاشة الفضية ، فلم يملك  الجَدُّ إلا  القهْقَهةُ حتى توارت عيناه الصغيرتان تحت جفْنيه المثقلتين قائلاً بحماس طفوليّ :
–        مبروك  ” كابتن حازم ” سوف تتحقق كل أحلامك .
–       كيف ؟!
–       أستاذة اللغة العربية التي تلبس نظارة  جنود المَظلّات ، ولها زعانف  السّمكة هي الطائرة في حُلْمك ، وعليْك  ألاّ تهْرب منها  ، وتخافها إذا كنت تريدُ أن تصبحَ طياراً وأمّا الحقلُ المليءُ بأشجارِ اللوْز والزيتونِ فهو فضاء العالمِ الذي سترحلُ أليه وتحط فيه بطائرتك الجميلة ، والباب  الصغير الضيّق الذي ستمرق منه إلى الحقل الكبير يعْنِي الجُهْدَ الذي ستبدله  في الدّراسةِ  والتفذُوقِ في كُلّ عامٍ دراسيّ جديدٍ …..هكذا ــ يا حازم ستصبحُ طياراً … يحلق في سماءِ الله الواسعةِ .
_______

* كاتب وأديب من ليبيا

شاهد أيضاً

كأس وظلال

(ثقافات) كأس وظلال عبد القادر بوطالب تلك الظلال التي طوت تفاصيل أجفاني سارت خلفي ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *