صونيتشكا: صعوبة العنوان لا تهم.. بل أن نستمتع

* وجدي الكومي

ستشجعك السطور المكتوبة على الغلاف الخلفى لهذه الرواية “صونيتشكا” على اقتنائها وقراءتها، ستقرأ على غلافها الخلفي أن كاتبة الرواية لودميلا أوليتسكايا هي أكثر كُتّاب روسيا المعاصرة ترجمة إلى اللغات الأخرى، هذا أول ما سيشجعك على اقتناء الرواية، معلومة أخرى وضعها ناشر الرواية “الكرمة”، التي صدرت ترجمتها في القاهرة، أن هذه الكاتبة باعت أعمالها أكثر من أربعة ملايين نسخة في جميع أنحاء العالم، إذا كنت مثلي، قارئ يبدأ الكتاب من غلافه الخلفي، ستقتني فورا هذه الرواية، خاصة إذا قرأت أن “صونيتشكا” نالت عدة جوائز، منها ما هو في فرنسا، ومنها ما هو في إيطاليا، وأن الكاتبة لودميلا أول من نالت جائزة البوكر الروسية.

تحكى “لودميلا” في روايتها القصيرة قصة عادية، بطلتها فتاة روسية تسمي “صونيتشكا”، تعمل في مكتبة أشبه بالقبو، وتكاد تكون منعزلة عن مجتمعها، لا تشعر بقضاياه الكبرى، هي فقط  قارئة كتب نهمة، وبسبب القراءة اكتسب جسدها شكل “الكمثري”، واكتسب أنفها شكل الكمثري، هكذا تبدأ “لودميلا” في الصفحة الأولى ملاعبة قارئها، يتبدى أسلوبها اللاذع القادر على اقتناص المفارقة، بينما هى ترسم شخصيات أبطالها بأبسط الكلمات، تقترب بنا من ملامح بطلتها “صونيا” وتجعلنا نتعرف عليها، فنقرأ: لم يكن يا للأسف ثمة أي مبالغة في دعابة شقيقها الأكبر، فأنفها فعلا مبهم الخطوط، وأشبه بالإجاصة، أما صونيتشكا نفسها، فكانت طويلة القامة نحيلتها، وعريضة المنكبين.

تمضي سطور الرواية بقارئها رويدا رويدا على الرغم من أن التقديم الذي قدمته الكاتبة كان عاديا، بسيطا، وربما هذا ما جعل الحكاية مثيرة، بساطتها، وقدرتها على جذب قارئها بسهولة، لا توجد هنا تفاصيل مهولة عن روسيا بعد الحرب العالمية الثانية، ولا توجد قضية كبرى، القضية الأساسية التي سطرتها كاتبة الرواية لودميلا، هي حدوتة الفتاة محبة القراءة، التي تلتقي زوجها المستقبلي، الفنان المغمور روبرت فيكتورفيتش الذي كان مجندا في الحرب، وكان مسجونا لسنوات قليلة، وعمل رساما في إدارة أحد المصانع، ما الجديد في الحكاية، أو ما هو الاخاذ الذي يجعلنا نتقدم في القراءة؟ إنها البساطة المفرطة في الحكي، الذي أهّل الكاتبة لهذا النجاح الهائل في عالم الأدب.

يحاول روبرت فيكتورفيتش التعرف على “صونيا” والتقرب منها، وفي لقائهما الثاني يباغتها ببورتريه يحمل وجها نسائيا نبيلا لملامحها، بهذه الطريقة يفاجئها “روبرت” بطلب يدها، المفارقة هنا أن كاتبة الرواية لم تبرر سر الإعجاب الذي جعل “روبرت” يطلب الاقتران بـ”صونيا”، قبلها بأسطر تصفه وصفا قاسيا، فتقول: كان محبا للنساء، فيأخذ منهن، ولا يعطيهن، كان حذرا جدا من التعلق بهن، ويخاف أن يتحول هو نفسه إلى طاقة لتلك الغريزة النسائية المحيرة.

ترسم لودميلا ملامح “روبرت” بالاتكاء على دناءته في معاملة النساء، ونبتلع مع ذلك رغبته في الزواج بصونيا، التي لا يميزها جاه، أو مال، أو حسب، أو نسب، هي فتاة عادية جدا، تعمل في مكتبة أشبه بالقبو، لكنها تجد عرض “روبرت” للزواج فرصة لا يجب أن تفلتها، لذلك ما أن يقدم لها البورتريه، حتى تقبل عرض زواجه فورا، تقول لودميلا: لم تكن صونيا واثقة أن ثمة شخص يطلب يدها حقا، فتسأله: هل هذا مزاح؟

تتسلل بين الحكاية تفاصيل العالم الذي تمر فيه سفينة الرواية، صونيا وروبرت يبدآن حياتهما والفقر يحاصرهما، والشعور بالقمع والشعارات المسعورة التي تكاد لا تستر الرعب الدفين لشتاء الحرب الأولى، تنجح الروائية الروسية في منحنا نبض العصر، وأفكار الشخصيات، وتعكس باقتدار الظروف التي يعيشها الناس في المجتمع السوفياتي الحديدي.. تقول صونيا: “سوف نننتصر، وسنعيش عيشة سعيدة”، فيرد عليها روبرت بجفاف ومهارة: “لا تتوهمي، فنحن نعيش عيشة رائعة الآن، أما فيما يخص النصر، فإننا سنظل أنا وأنتٍ في عداد المهزومين”.

الديكتاتوريات الهائلة تسحق الأفراد، ويتبدى ذلك في حصار الأنظمة المستبدة لمواطنيها، وسحق آية آمال في حياة كريمة، وهو ما يتسلل بين سطور الرواية عبر صوت “روبرت” الذي يقول عبارة أخرى مفتاحية: “أيا كان المنتصر فهو من بين آكلة لحوم البشر”، وكذلك حينما يقول: “في الأحوال كلها من يهلك هو الإنسان وحياته الخاصة.. نامي يا صونيا”.

تبدلت حياة صونيتشكا بعد انجابها طفلتها، تانيا، ودعت إلي الأبد شغف القراءة، وحب الكتب، حلت محلها هموم الحياة المضطربة والفقر والبرد والأفكار القلقة اليومية عن الطفلة التي تنمو، وتكبر، وتتحول إلى فتاة مراهقة، تدخل في علاقات مع أقرانها، وتزدحم حياة صونيا بشغف زوجها بفنه، وصنعه الدمي من الأشكال العجيبة، التي كان يقصها من الورق، تدفن صونيا كل الهموم التي تنتابها، في الولع بابنتها، لكن هذه الأخيرة تجلب صديقتها “ياسيا” لتقيم معها في المنزل، وهو ما يجعل الرواية القصيرة تتشعب في منحى جديد، إذ يتورط “روبرت” معها في علاقة عشق، تزوره الفتاة في مرسمه، فيرسم لها البورتريهات البيض، أكثر من خمسين بورتريه يرسمهم للفتاة المراهقة صديقة ابنته، يغيب روبرت عن البيت ليال عديدة، لا تعبأ صونيا بالغياب، ستعرف لاحقا بعد علاقة زوجها بالفتاة، حينما يموت علي صدرها، وتدخل مرسمه، فتجد بورتريهات “ياسيا” العديدة، الوحيدة التي تشعر بالغيرة حينما تكتشف العلاقة بين الأب والصديقة هي الابنة “تانيا”، تقدم لنا “لودميلا” صورة عن مشاعر النساء ملتبسة للغاية عن المعهود عن الروسيات، إذ تتقبل صونيا خيانة زوجها مع الفتاة التي استضافتها في بيتها من قبل، بل ترحب بها بعد رحيله، ولا تمانع في أن تقيم معها، وسط استهجان الكثيرين من جيرانها وأصدقائها، ربما المشاعر التي تكنها صونيا لغريمتها، هو ما جعل الرواية في صفحاتها الأخيرة تبدو شائقة، وتستحق أن تكون بطلة لا مثيل لها في كل الكتب التي قرأناها، وما يضفي على الرواية طابعا استثنائيا فريدا وسط الأعمال المترجمة حديثا عن الروسية إلى العربية، الطريقة التوثيقية التي اختارتها لودميلا أوليتسكايا لإنهاء الرواية بسطور حددت فيها مصائر الشخصيات الأربعة، تجعلك تفكر في إعادة قراءة العمل من جديد.

(*) قبل أسابيع كانت الروائية الروسية متّجهة إلى احتفال لمنظمة “ميموريال” الحقوقية لتكريم تلاميذ حول كتابات لهم عن “تاريخ بديل لروسيا”. قبل وصولها، بدقائق تعرّضت إلى رش بمادة زرقاء على وجهها تبيّن في ما بعد بأنها تحتوي على مادة الأمونياك (غاز النشادر) والذي ينتج عنه التهابات جلدية. ويرجع المتابعون الاعتداء على أوليتسكايا إلى قراءتها في التاريخ الروسي المعاصر الذي تكشفه كتاباتها…

___
*المدن

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *