محاضرات بورخيس الملهِمة‮

*مريم سليمان

اعتدت أثناء القراءة أن أضع خطوطاً أسفل السطور التي أشعر بأهميتها أو بجمالها، وبطبيعة الحال فإن بعض الكتب تكون بأكملها في غاية الأهمية والجمال،  ومع هذه الكتب أعرف أني لن أرجع من وقت لآخر  لقراءة السطور التي حددتها فقط ؛ لكن إلى الكتاب بأكمله،  كما حدث مع هذا الكتاب الذي بين أيدينا وهو كتاب”صنعة الشعر” للشاعر والكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس ترجمة صالح علماني، الصادر في طبعة ثانية حديثة عن دار المدى.

والكتاب كما تخبرنا المقدمة هو”سلسلة محاضرات عن الشعر ألقاها بورخيس ضمن برنامج نورتون لكتشرز، بأسلوب شديد التفرد بقدر ما هو جارف لا يقاوم، وهو حالة وسطية بين الكلام والكتابة، موجّه إلى مستمعيه بطريقة غير رسمية وشديدة التأثير”،  وهذا حقيقي بالفعل إلى الحد الذي جعلني أنسى تماماً أني أقوم بقراءة كتاب، وأشعر كما لو أني جالسة هناك على مقعد في تلك القاعة في جامعة هارفارد في خريف 1967 أصغي بتقدير إلى تلك الكلمات الملهمة.

CMOC9aHUcAA8Otn
لعل المتلقي المتعمق لهذه المحاضرات سريعاً ما سوف يكتشف أنها مثل وثائق مليئة بالأسرار والألغاز والأدلة التي ينبغي تتبعها للوصول إلى الهدف،  وسوف يلاحظ أن بورخيس يصطحبنا منذ السطور الأولى وحتي السطور الأخيرة في رحلة عجائبية بالمعني الحرفي للكلمة.

ففي حديثه عن علم الجمال في بداية المحاضرة الأولى يقول “كلما تصفحت كتباً في علم الجمال راودني إحساس مقلق بأنني إنما أقرأ أعمالاً لفلكيين لم ينظروا إلى النجوم قط،  ما أعنيه هو أن مؤلفيها يكتبون عن الشعر كما لو أن الشعر واجب،  وليس ما هو عليه في الواقع: عاطفة ومتعة”، ثم يتحدث عن رفضه تعريف بنيديتو كروتشه للشعر قائلاً:”لقد قرأت علي سبيل المثال،  بتقدير كبير،  كتاب بنيديتو كروتشه حول علم الجمال، ووجدت التعريف بأن الشعر واللغة هما تعبير حسن ولكننا إذا ما فكرنا في التعبير عن شيء بعينه،  فإننا سننتهي إلى مسألة الشكل والمضمون القديمة؛ وإذا لم نفكر في التعبير عن شيء بعينه،  فإننا لن نتوصل إلى شيء على الإطلاق.

ولهذا نتقبل هذا التعريف باحترام،  ونبحث عن مزيد، نبحث عن الشعر، نبحث عن الحياة.

والحياة مكوّنة – وأنا واثق من ذلك- من الشعر، الشعر ليس شيئاً غريباً: إنه يترصد، كما سنرى، عند المنعطف ويمكن له أن يبرز أمامنا في أي لحظة”.
وهكذا قام بورخيس بغرس بذرة التساؤل في عقل المتلقي منذ البداية..التساؤل حول ماهية الشعر بأنه إن لم يكن الشعر تعبيراً فما هو إذن؟
ثم وكمكافأة علي الانتظار تأتي الإجابة في الفصل الأخير بالقرب من نهاية المحاضرات، حيث يقول بورخيس : “قد توصلت الآن إلى نتيجة (ويمكن لهذه النتيجة أن تبدو حزينة) بأنني لم أعد أؤمن بالتعبير.

إنني أؤمن بالتلميح فقط، يمكننا محاولة جعل القارئ يتخيل فقط،  وإذا كان القارئ متيقظاً كفاية يمكن أن  يكفيه تلميحنا البسيط”.
ومرة أخرى وخلال التلقي المتعمق لهذه المحاضرات، فإننا نكتشف أنها ليست فقط وثائق مليئة بالألغاز والأدلة؛ لكنها أيضاً وثائق مليئة بالجمال تشير إليه أينما يكون وتذكّرنا به بعذوبة بالغة،  ليس فقط في إطار الموضوعات الكبرى، لكن أيضاً في إطار الجمل والفقرات المتناثرة هنا وهناك التي تبدو أنها عابرة،  وهي عابرة بالفعل لكن مثل شهب متوهجة بالضوء.
لننظر مثلاً إلى هذه الجملة من المحاضرة الأولى”الجمال دوماّ بانتظارنا، يمكن له أن يتبدّي لنا في عنوان فيلم”،  هذه الجملة تحفز ذاكرة من يقرأها لكي تستدعي على الفور وبامتنان عنواناً ما يمثل الجمال والشعرية، بنفس الطريقة التي تحفزنا بها رؤية الشهب أن نتلو أمنياتنا.

ولننظر الآن إلى فقرة أخرى كاشفة قيلت في المحاضرة الرابعة، تؤكد لنا أن هذه الوثائق المليئة بالألغاز والجمال هي أيضاً بالغة الكمال،  إلى الحد الذي جعلها لم تغفل أي شيء تقريباً،  وأضاءت كل الزوايا بما فيها ملامح العالم الداخلي للكاتب،  وأنه في كثير من الأحيان “يسرّب” بعض الكلمات في نصه بدافع الحب.
يقول بورخيس:”لا شك في أنه لم يكن يفكر في الطب،  ربما كان يفكر في الشعر،  ولكنه ربما كان يفكر في الحب وأراد أن يسرّب هذه الجملة فكتب: “الحياة بالغة القصر والفن بالغ الطول لفهمه”.
في أحد اللقاءات تحدّث بورخيس عن الفن قائلاً: “مهمة الفن هي تحويل ما يحدث لنا إلى رموز،  إلى موسيقي،  إلى شيء يمكنه أن يبقي في الذاكرة، هذا هو واجبنا،  وإن لم نحققه سوف نشعر بالتعاسة”.

ويمكننا أن نجد المزيد من التفاصيل  حول هذا المفهوم في المحاضرة الأخيرة حيث يتحدث بورخيس عن جوهر عملية الكتابة قائلاً: “أظن أنني قد توصلت،  إذا لم يكن إلي بعض الحكمة، فإلي شيء من الحس السليم.

إنني أعتبر نفسي كاتباً، ما الذي يعنيه بالنسبة لي أن أكون كاتباً ؟ يعني ببساطة أن أكون مخلصاً  لمخيلتي. عندما أكتب شيئاً لا أطرحه على أنه حقيقي موضوعياً (فالموضوعي الخالص هو حبكة من الظروف والأحداث)، وإنما حقيقي لأنه وفيّ لشيء أعمق.

 عندما أكتب قصة، أكتبها لأني أؤمن بها: ليس كما يؤمن أحدنا بشيء تاريخي محض، وإنما بدقة أكبر،  مثلما يؤمن أحدنا بحلم أو بفكرة”.
وفي مذكرات ويليس بارنستون(1) يتحدث بورخيس باستفاضة عن هذا الإخلاص للخيال إذ يقول: “أظن أن الشاعر يجب أن يعيش بالذاكرة،  إذ ما هو الخيال علي أية حال؟ أعتقد أن الخيال مصنوع من الذاكرة والنسيان. إنه نوع من المزج بين هذين الشيئين.
وفي سياق المذكرات نفسها نجد ثنائية الذاكرة والنسيان مجدداً،  ليس في إطار الخيال هذه المرة،  لكن في إطار التحوّل العرفاني” إنّ الطبيعة الاستثنائية للتأمل العرفاني تستفيد أكثر من غياب الذاكرة الواضحة في تلك الحالة أكثر مما تستفيد من الافتقار لمصطلحات وصفية مناسبة لنقل الرؤية.

من هنا فكرة النسيان واستحالة التعبير المترافقة مع التحوّل العرفاني”.
وفي هذا يقول بورخس:”خلال حياتي كابدت تجربتين عرفانيتين،  ولا أستطيع أن أتحدث عنهما لأن ما حدث لا يجوز وضعه في كلمات،  بما أن الكلمات،  على أية حال،  ترمز لتجربة مشتركة.

مرتان في حياتي انتابني شعور معين،  كان شعوراً مدهشاً ومذهلاً. شعور غمرني واجتاح كياني.

كنت أشعر بأنني لا أعيش في الزمن بل خارجه، لا أعلم كم استمرّ هذا الشعور،  بما أنني كنت خارج الزمن”.

هوامش:
(1) ويليس بارنستون، مع بورخيس..مساء عادي في بوينس آيرس، ترجمة د.عابد إسماعيل، دار المدى، ط 2 ،  2014

—————————-
*أخبار الأدب

 

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *