يوسف وهبي.. الرجل الذي عاش ألف عام

*إيهاب الملاح

لم يكن الممثل العملاق، يوسف وهبي، وعميد المسرح العربي، مجرد فنان موهوب لعب دورًا رئيسيا ومميزا في مسيرة فن التمثيل العربي، ولا كان فقط رائدا من رواد المسرح والسينما، بل كان ظاهرة فنية وثقافية مختلفة في سياق ثقافي واجتماعي، كان يموج بالحركة والصراع ورغبة مستعرة في النهوض، وفي إطار رؤية كلية وشاملة.

في كتابها الجديد «يوسف وهبي ـ سنوات المجد والدموع»، الصادر أخيرا عن دار الشروق، والذي قدم له الناقد الفني والسينمائي القدير كمال رمزي، تعيد الإعلامية والكاتبة الصحفية راوية راشد، تسليط الأضواء على رائد من رواد الفن والمسرح والسينما في تاريخنا الثقافي الحديث، وتطمح إلى تقديم ما هو أكبر من «سيرة ذاتية» و«قصة حياة»، إنها تقدم لوحة بانورامية لقطعة من تاريخ مصر والعالم العربي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر وطيلة النصف الأول من القرن العشرين، من خلال استقصاء وتتبع تفاصيل الرحلة العامرة لفنان موهوب، حفر اسمه بحروف من ذهب في تاريخ الفن والثقافة العربية؛ اسمه «يوسف وهبي».

تقول المؤلفة في مقدمتها للكتاب «لقد حاولت أن أفهم عالم يوسف وهبي وعوالم من عاصروه، فوجدت نفسي أغوص في تاريخ فن المسرح الذي تشابكت أيامه ولياليه مع كل الأحداث الاجتماعية والسياسية التي عاشتها مصر منذ مطلع القرن الماضي، لكن أوراق يوسف وهبي لم تسعفني فقد كانت مذكراته أشبه بمسرحية كتبها على عجل تاركا التفاصيل التي عاشها مبهمة وكأنه يدفعنا للبحث عنها، وكان عليَّ أن أعيد بناء الزمن وأنا أتعمق في تفاصيل حياة هذا الرجل ليس كفنان فقط ولكن كإنسان اعترف في مذكراته للجميع بأنه عاش ألف عام».

وتوضح المؤلفة أن هذا الكتاب بطله ليس من صُنع الخيال. إنه صاحب اسم له رنين، امتد حضوره إلى ما بعد رحيله، وأصبح جزءًا نابضًا بالحياة في ذاكرة الجميع، عاش حياته محاربًا، مقاتلًا، تذوق حلاوة النجاح والانتصار، ثم مرارة الفشل والهزيمة، لكن بإرادة من فولاذ، ينهض، ليبدأ مشواره من جديد. يوسف وهبي، لم يكن حلمه أن يغدو ممثلًا مرموقًا وحسب، بل أن ينشئ مدينة كاملة للفنون، اختار لها اسما مصريًا، فرعونيًّا، يعبر عن نزعة وطنية ترنو إلى إثبات الذات في مواجهة الاستعمار.. عنوانها «رمسيس».

فكرة الكتاب بدأت حينما عثرت المؤلفة على ثلاثة كتب صغيرة الحجم عليها صورة باهتة مرسومة بدون اهتمام ليوسف وهبي. تقول راوية راشد «شدني العنوان (عشت ألف عام). اشتريت الكتاب بأجزائه الثلاثة من بائع صغير من على سور الأزبكية لسببين: أولًا، إن الكتاب مطبوع عام 1962 في مطابع دار المعارف؛ وبالتالي فتعتبر هذه النسخة نادرة. وثانيا، لأن يوسف وهبي كأحد أعمدة المسرح المصري الحديث قد أهمله مؤرخو المسرح لأسباب مبهمة، رغم أن التاريخ يذكر له أنه أول من قدم المسرح بصورته الحديثة في مطلع الثلاثينيات، واستمر عطاؤه ممثَّلا ومخرجا ومترجما ومؤلفا ليس على خشبة المسرح فقط ولكن للعديد من الأفلام السينمائية».

وتشير المؤلفة إلى أنها «حاولتُ، في هذا الكتاب، أن أبذل كل ما في وسعي كي أوفي فنانا كبيرا مثل يوسف وهبي حقه رغم صعوبة كتابة كل شيء عنه فقد عاش أحداثا كثيرة وكانت أعماله الإبداعية المتعددة (مؤلفا ومخرجا وممثلا) أكبر وأكثر من أن يتضمنها كتاب واحد، وهذا الكتاب ما هو إلا قطرة في بحر عطائه الفني ونقطة ضوء صغيرة لملامح حياته التي عاشها على مدى خمس وستين عاما، وكان كل ما يخشاه ألا يتذكره أحد ولا تعرفه الأجيال الجديدة وكم أتمنى أن يكون الآن راضيًا عنا».

ويوضح كمال رمزي في تقديمه للكتاب أن راوية راشد، تتبعت بقلب يقظ، مشوار الرجل الذي عاش ألف عام.

هي تدرك أنه لم يكن وحيدًا؛ ذلك أن المسرح، بالضرورة، عمل جماعي. بالتالي، يقدم الكتاب بانوراما عريضة، لمعاصري يوسف وهبي، من أمثال عزيز عيد، روز اليوسف، نجيب الريحاني، أمينة رزق، فضلًا عن طابور طويل، لكل منهم ملامحه الفنية والنفسية المستقلة.. «حاولت الكاتبة، بدأب وجدية، رصد ملامحها، وعلاقتها مع بطل الحكاية، سواء بإيجابياتها أو سلبياتها».

تنطلق المؤلفة من قراءة مذكرات «يوسف وهبي»، في سياق مذكرات أخرى مثل «روزاليوسف»، و«فاطمة رشدي»، و«محمد التابعي»، و«فتوح نشاطي»، و«محمد عبدالله»، لتحاول مقاربة ملامح الحياة الفنية في مطلع القرن وتأثيرها على الحياة الاجتماعية في زمن اشتعلت فيه ثورة 1919 وتأجج فيها الحس الوطني، حيث ارتفعت الحناجر تنادي بحرية البلاد وهي تغني للشيخ سيد درويش «قوم يا مصري»، وكان لا بد أن يتغير المسرح وأن يتغير المجتمع كله، وكان لا بد أن يثور «ابن عبدالله باشا وهبة»، وأن يحترف التمثيل ضاربا عرض الحائط بكل القيم والتقاليد التي أحاطت بعصره وحياته.
والغريب، بحسب راوية راشد، أن المسرح بمفهومه البسيط في مطلع القرن الماضي قد سَحَر منذ اللحظة الأولى يوسف وهبي، من خلال الفرق الجوالة التي كانت تقدم عروضها في قرى ونجوع مصر، حيث كان الناس يتجمعون ليشاهدوا المشخصاتية بملابسهم الغريبة وهم يصرخون بأعلى أصواتهم بعبارات غير مفهومة، كان فن «التشخيص» أكثر جذبا لهم من فنون «خيال الظل» التي كانت سائدة في ذلك العصر. ولكن -تتساءل المؤلفة- ما الذي يجعل طفلا في الثامنة من عمره كان أبوه كبير مفتشي الري في أسيوط يقرر أن يصبح مشخصاتيا مثل الذين شاهدهم في فرقة «أبو سليم القرداحي» التي زارت المدينة؟

الإجابة لم يذكرها يوسف وهبي في مذكراته، لكنها كانت واضحة تماما في كل كلمة نطق بها، لقد أحب المسرح ووقع في أسره فحوَّل مجرى حياته من شاب كان يعده أبوه ليكون طبيبا إلى مجنون بالفن وثائرًا على أسرته ومجتمعه ونفسه، لتعصف به الريح في طريق طويل وصفه هو في مذكراته بأن طوله ألف عام.

وكانت فرقة «سليم القرداحي» هي بداية الحلم الذي عاشه يوسف وهبي سنين حياته، وكأن المسرح هو الذي اختاره من بين الآلاف ليكون مؤسسا لعصر جديد في الفن الذي عاش له وضحى بالكثير من أجله للدرجة التي دفعته إلى تبديد ثروته التي ورثها عن أبيه ليقيم مسرحا حديثا على غرار مسارح أوربا وهو «مسرح رمسيس» وليقدم فنا رفيعا قلب كل الموازين الفنية التي كانت سائدة في عصره.

يحفل الكتاب بالمعلومات والتفاصيل الغنية عن حياة وسيرة عميد المسرح العربي وعن نجوم الفنانين في العصر الذهبي للمسرح، وكذا عن تقاطعات مسارات الفن والسياسة والثقافة مع بقية مسارات الحياة الاجتماعية والسياسة في مصر وخاصة في الحقبة الليبرالية (1923-1952)، وما بعدها.
______
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟!

(ثقافات) طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟! إلى يحيى القيسي لَمْ نَلْتَقِ في “لندن”.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *