القلق طبيعي وينقلب مرضاً إذا كسر «تكيّف» البشر معه

*محمد عويس

يحمل كتاب «القلق» في نسخته الإنكليزيّة (صدر مترجماً ضمن سلسلة «عالم المعرفة». تأليف: موشي زيدنر، جيرالد ماثيوس، وترجمة: معتز سيدعبدالله، الحسين محمد عبد المنعم، في 328 صفحة)، رقم 101 مضافاً إلى كلمة القلق. وصدر الكتاب الإنكليزي في العام 2011 عن «مؤسّسة سبرينغر» الأميركية الشهيرة، ضمن سلسلتها المسمّاة «علم النفس 101»، ما يعني أنها سلسلة كتب تقدّم معلومات أساسيّة مبسّطة عن القلق، وفق ما ورد في مقدمة المترجمين للكتاب. وأشار المترجمان إلى أنّ سلسلة «علم النفس 101» تضم مجموعة من الكتب المميزة من بينها الإبداع والموهبة والذكاء والقيادة واختبار نسبة الذكاء، وعلم النفس اللغوي. وارتأى المترجمان أنّ تلك الكتب تستحق الترجمة نظراً إلى أهميتها وقيمتها العلميّة، إضافة إلى بساطتها، وسهولة استيعابها من جانب غير المتخصصين، وفائدتها للمبتدئين في دراسة علم النفس.

واستطرد المترجمان ليشيرا إلى أنّ التأليف العربي المتوجّه للجمهور العام عن تلك الموضوعات، هو قليل تماماً. وأشارا أيضاً إلى أن الجمهور العام من القرّاء العرب غالباً ما يجد صعوبة كبيرة في متابعة المؤلفات العلميّة العربيّة نظراً لأسلوبها العلمي المختص، وصعوبة مفاهيمها ومصطلحاتها.

f5045dac-0a2a-425e-a085-67ac71f90761

النموذج المعرفي

عبر صفحات كتاب «القلق»، يتضح أنّ النماذج السائدة حاضراً في تفسير الأسس النفسيّة للقلق تستند إلى النموذج النفسي المعرفي Cognitive. واستطراداً، رأى رواد الدراسات الحديثة عن القلق أنه تحيّز (بمعنى الخطأ والخلل المعرفي) في التفكير، وهو ما ظهر في بحوث تشارلز سبيلبيرغر، ريتشارد لازاروس، آرون بيك، ونورمان أندلر وغيرهم. إضافة إلى ذلك، يلاحظ الكتاب استمرار التراكم في البحوث العلميّة عن موضوع القلق، إضافة إلى تصاعد الاهتمام بذلك المرض لدى عموم الناس، بل أنّ الزمن الحـاضر يــوصف بأنّه «عصر القلق».

ويرجح مؤلّفا الكتاب أن يكون القلق من أكثر أنواع الأمراض النفسيّة شيوعاً، ويشيران إلى أن الاضطرابات المرافقة له تتحوّل مرضاً مزمناً إذا لم تعالج، بل ربما أدّت إلى خلل فعلي يستمر مدى الحياة. ويوردان أيضاً أن نتائج مسح شامل أجري في الولايات المتحدة، أشارت إلى أن اضطرابات القلق تشكّل القاسم الأكبر من مشاكل الصحة العقليّة فيها، كما تعتبر أكثر التصنيفات شيوعاً في التشخيصات المرضيّة النفسيّة، وفقاً لـ «الدليل التشخيصي الإحصائي للاضطرابات العقليّة». وفي أميركا، تفوق أعداد الذين يتردّدون على الأطباء نتيجة القلق، أعداد من يقصدون الأطباء للعلاج من نزلات الإنفلونزا! وكذلك، أصبح القلق أكثر شيوعاً من الكآبة المرضيّة التي تعتبر من الاضطرابات النفسيّة الفائقة الانتشار.

ووفق الكتاب عينه، ثبت أن القلق من أهم العوامل التي تؤدي إلى نوبات الكآبة المرضيّة، ومحاولات الانتحار، بل ربط باحثون بين اضطرابات نفسيّة في مقدّمها القلق، ومجموعة متنوّعة من الأمراض الجسميّة تشمل الربو والقرحة الاثني عشريّة، وأمراض الأوعية الدموية في القلب، ومتلازمة تهيّج الأمعاء وغيرها.

وفي سياق آخر، يبيّن الكتاب أن العصبيّة هي من العوامل الخمسة الكبرى المحدّدة للشخصيّة، إضافة إلى ارتباطها بالقلق. وكذلك يشكّل القلق مؤشّراً ينبئ بمدى الرضا (أو عكسه) عن الحياة والسعادة، والأحوال الوجدانيّة. ويلفت الكتاب إلى أن المستويات المرتفعة من القلق تعرّض الأشخاص للمشكلات الزوجية، وتؤدي أحياناً إلى إدمان الكحول والمخدرات.

السياق هو المفتاح

وفقاً لمراجعات حديثة أجراها مينكا وزينبرغ (2006) تبين أنّ قرابة 29 في المئة من سكان الولايات المتحدة يعانون (أو كانوا يعانون) واحداً أو أكثر من اضطرابات القلق في وقت ما من حياتهم. وعلاوة على ذلك، تشير التقديرات إلى أنّ قرابة 50 في المئة من الأميركيين ممن يتردّدون على اختصاصيي الصحة العقليّة، يعانون أعراضاً مرتبطة بالقلق. ويضاف إلى ذلك، أنّ قرابة 20 مليون أميركي يعانون اضطرابات متّصلة بالقلق، تترتب عليها تكاليف اقتصادية تقدر بما يزيد على 50 بليون دولار سنوياً.

وتأتي تلك الكلفة من قصور في إنتاجيّة أولئك الأشخاص، وتغيّبهم عن العـمل، والــرعاية الصحيّة، وأيام المكوث في المستشفيات وغيرها.

ويثير كتاب «القلق» سؤالاً مهمّاً: كيف تتسنى معرفة إذا كان القلق لدى شخص ما هو أمر طبيعي (ثمة قلق طبيعي غير مَرَضي، وهو جزء من التركيب النفسي الطبيعي للبشر)، أو أنّ الأمر بلغ مستوى القلق المرضي؟ وتأتي الإجابة بالتشديد على أن معاناة درجة ما من القلق هي أمر طبيعي، بمعنى أن يكون له سياق واضح. ومثلاً، من البديهي أن يظهر القلق في سياق مواجهة مواقف ضاغطة أو مهددة. ويرى الكتاب أن ذلك «القلق السياقي» يعتبر عادياً، بل أنّه مفيد، ويساعد الإنسان على التكيّف مع المتغيّرات. ألا يشحذ القلق همم الطلبة قبيل الامتحانات؟ أليس بديهيّاً أن نقلق على من نحب، خصوصاً عندما يواجهون أوضاعاً صعبة؟

وكذلك يفيد التنبّه إلى ذلك النوع من «القلق السياقي» في الاكتشاف المبكّر للقلق المرضي، ما يمكّن أيضاً من الوقاية من اضطرابات القلق، والاستعداد لمواجهتها والتعامل معها بطريقة مجدية.

ويرى مؤلفا كتاب «القلق» أنّه من الإنصاف القول إن القلق كأشياء كثيرة في الحياة، ربما يكون جيداً عند معاناته بمقادير صغيرة أو متوسطة، بيد أنه يصبح سيئاً ولا يستطيع الشخص التكيّف معه عندما يكون بمقادير تتجاوز حدود التحمّل والمرونة والتكيّف.

وفي الوقت نفسه، حاول باحثون التمييز بين القلق الطبيعي والقلق المرضي باستخدام عدد من المؤشّرات التي تشمل شدّة رد الفعل، وملاءمة مستوى القلق مع مقدار التهديد، ومدى معقوليّة الاستجابة للتهديد، ومدة الحال الانفعاليّة ومقدار تكرارها، ودرجة المعاناة من القلق، والقابلية للتحكّم الواعي بمشاعر القلق وعلاماته، ومدى المعرفة بالقلق، وأساليب التعامل معه وغيرها.
____
*الحياة

شاهد أيضاً

ابن ملكا البغدادي.. سبق غاليليو ونيوتن باكتشافاته

ابن ملكا البغدادي.. سبق غاليليو ونيوتن باكتشافاته يقطان مصطفى منذ منتصف القرن الحادي عشر وحتى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *