أمّي

خاص- ثقافات

*حازم شحادة

عندما تستيقظُ أمِّي تتناولُ أربعةَ أصنافٍ مختلفة من الدواء.
تضعُ الركوة على النار، ثمَّ تجلسُ وحيدةً على شرفةِ الزمنِ وتشربُ القهوة.
كنتُ أراها من شبّاكِ غرفتي القديمة كيفَ تلقي صباح الخيرِ على كُلِّ وردةٍ من ورداتها الحلوة.
أحملُ فنجاني وأتبعها.
أقول:
ـ دخِّني هذه السيجارة معي فلا طعم للبنِّ بلا تبغٍ صدّقيني..
تضحكُ حتى تبدو أجملَ من السماء.
ـ لم يقطعوا الماءَ هذا الصباح..
تقولُ وهي تسقي الإيكيدينا ثمّ تنثرُ الخبزَ للعصافير.
لأمِّي عندما تُطِلُّ أثرُ الحورِ في شهقةِ الريح ولها عطرُ التراب بعدَ المطر.
كانت فيما مضى أجملَ فتاةٍ في المدينة.
حينَ أنجبتني.. أصبحت أجملَ امرأة في الكون.
أمازحها أحياناً فأقول:
ـ كنتِ تستحقينَ رجلاً أفضلَ من هذا الكائنِ البائس (أشيرُ إلى أبي)..
يزورني هو.. تبتسمُ هي.
سافرت أمّي كسيدةٍ من سيداتِ الطبقة (المخملية) التي ننتمي إليها كثيراً..
من منزل والدها إلى منزل زوجها.
من منزلِ زوجها إلى دكاكين الخضار وأفرانِ الخبز.
من أفران الخبزِ إلى المستشفيات الحكومية.
قبل تسع سنواتٍ ونصف كانت توضب حقيبتي حين قالت:
ـ لا تكتفي بكونكَ ذَكَرَاً يا بني فالذكورُ في هذا العالم القبيحِ أكثر من الهمِّ على القلب.
كن رَجُلاً.
من يومها..
وقبلَ أن أرفعَ الراية البيضاء في كلِّ معركةٍ أخوضها مع هذه الحياة الخسيسة..
أذكرُ ما قالتهُ أمّي.. وأعودُ للعِراك.
أسقطُ أرضاً وفي كلِّ مرة أحاول النهوضَ من جديد.
عندما تستيقظُ أمّي تتناولُ أربعة أصنافٍ مختلفة من الدواء..
تضعُ الركوة على النار ثمَّ تجلسُ وحيدةً على شرفة الزمنِ لتشربَ القهوة..
وأنا مثلها.. أفعل.

____

*شاعرٌ وكاتبُ قصةٍ قصيرة من سوريا

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *