النـفـق!

*سعد الحميدين

“كيف على الرواية أن تكون؟: بيسكولوجية أم اجتماعية أم ذاتية، وهل عليها أن تكون رواية الواقع أم الأفكار؟ ومثل هذا المفهوم المتكامل والكلي يتجاوب مع الحاجة إلى استخدام جميع التقنيات”

( إرنستو سباتو )


الانتقال من العلوم البحتة، والمختبرات، وما يندرج منها في مسار الهندسة والمقاييس والأرقام إلى عالم الخيال، أمر وارد عند بعض الشخصيات، ولكنه ليس عاماً بل يأتي على وحدات متباعدات، وقطرات متقطعات، فكاتب مثل إرنستوسباتوا كان في بداياته يمارس الفلسفة التي درسها، والرياضيات التي حصل على درجة الدكتوراه فيها، وعمل في المختبرات العلمية في باريس، وقد أصدر أبحاثاً في الإنسانية مثل (الفرد والعالمية) و(دفاع ورفض)، ولكنه أحب الأدب واستهوته عوالمه فهجر المختبرات والمعامل، والفلسفة، وأخذ في توجهه للخيال عن طريق كتابة الرواية فأصدر عدداً من الروايات منها (النفق) و (أبطال وقبور)، و (أبدون).

تأتي رويات هذا الكاتب الأرجنتيني محملة بالصور التي استمدها من ا لواقع، ولكن حسب منظوره الخاص، فمنظوره يحوي خليطاً من العلم والفلسفة المعجون بالخيال، وفي روايته (النفق) كتعريف الناشر :” في قراءتها على المستوى الأول ليست سوى اعترافات رسام أصيب بالجنون وارتكب جريمة قتل بدافع الغيرة، لكنها في مستوى أعمق مأساة الوحدة، ومأساة التواصل، ومأساة البحث عبثاً عن المطلق”، فالرسام المنعزل المنهمك في مزج ألوانه ورسم مشاعره على لوحات يتحدث معها كما يتحدث مع شخص مقابل يشاركه العزلة التي يرى فيها العالم كما يجب أن يتصوره، عالمه الخاص، إفلاطوني، أو نتشوي، أو كافكاوي، فالناس في ما يرى ليس من حق لهم عليه، ليس له من حق عليهم، يريد خلوة. والوحدة تمتد أمامه كخريطة لا نهاية لها فنهاية تقود لنهاية أخرى ولكنها تخدعه فوراءها (نهااااياااات) من غير المدرك التوصل إليها مهما كان من تعقب وتعب ولهاث فاللا مدرك يمتد ويطور، ومع هذا هناك إصرار على بلوغ نهاية لن تكون.

أحب، من اقتحمت عزلته(إيما)، ولكنه لم يصدق نفسه، كيف يصور حبه روحياً أو حسياً، ولكنه يدعي أنه يحب ولا بد على من أحبها أن تعلن له عن حبها، وتدلل وتبرهن على ذلك، فهو يردد هل تحبينني؟ فتجيبه بالمراوغة، فحبها لعمله وليس لشخصه وتضمر ذلك، مثلت الحب، وجارته لكي ترضي غروره، ولكنه في صراع داخلي يرى من خلاله أن الناس لا يستحقون منه أيما التفاتة، ولكن في نفس الوقت يريد منها أن تقول بملء فمها (أحبك) تُلَمِّحُ وتقول، ولكن شكه كما الشبكة يكبر ويكبر كلما أضاف إليها شيئا جديدا، هي متزوجة من كفيف، ولها أقارب في خارج المدينة في الريف، ولها ابن عم تقدره، فهي لم تفصح له عن ذلك ظلت معه تستمتع بما ينتج، تتسلى معه بالأحاديث والرحلات والسمر، حسب الأوقات التي ترى أنها بإمكانها أن تقضيها معه وقد أولته الاهتمام، لكن المصادفات تكشف له أنها متزوجة من (أعمى)، وأنها تستلطف ابن العم، وربما غيرهم، فتكون القشة التي قصمت ظهر البعير، والخطوة التي قادت إلى (الغيرة) فاللا مبالي والناظر للناس دون اهتمام اشتعلت نيران الغيرة في قلبه، وأصبح يراقب، ويتابع تحركات محبوبته، ويقرر أنها (خائنة / عاهرة) حسب تصوره، فيلجأ إلى أن يعبر عن غيرته بأن يقدم على (قتلها) وفي التحريات والتحقيقات يتضح أنه مجنون، ولكن جنونه من نوع يصعب تفسيره يتحدث بعقل، ويتصرف بتهور، ولا شيء يهم.

سباتوا جسد الصورة لرجل غريب الأطوار، وفي الحوارات والموقف، ينقلك بين الْحِكَم، والمعارف، والأخيلة بأسلوب سلس خلاب، وهو يوظف المعلومة مع الخاطرة، والواقع في فسيفساء صاغها مبدع قدير.
______
*الرياض

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *