‘الأمير الصغير’.. درس في الحفاظ على النضارة والدهشة

*ممدوح فرّاج النّابي

تأتي حكاية “الأمير الصغير” للفرنسي أنطوان دوسانت أكسوبيري، التي ترجمها عن الفرنسية مؤخرا الشاعر والمترجم عاطف محمد عبدالمجيد، لتساوي بين الكبار والصغار باعتبارها مرويّة لهم. فالحكاية التي تبدو أنّها موجهة للصغار، يبدو أنها صالحة للكبار أيضا، حتى مع الرسومات التوضيحية التي كانت برفقة النصّ الأصلي المترجم عنه العمل.

حكمة الصغار

الرواية، الصّادرة في طبعة جديدة ضمن سلسلة “المئة كتاب” عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، تتوازى في خيطها الرئيسي مع حادثة وقعت للمؤلف أكسوبيري، حيث سقطت طائرته في الصحراء الكبرى ولم يتمكن سوى بدوي من إنقاذه، وإذ تتعطل طائرة هذا البطل الذي يمتهن الطيران مرة أخرى في الصحراء الأفريقية الكبرى على بعد ألف ميل من أي منطقة مأهولة وأثناء محاولته إصلاح العطب يخرج له طفل في السادسة من عمره، لا يعرف من أين أتى، فيبدأ عالم من الخيال الخصب في رحلة يتشاركها الطيار مع الطفل. فيعرف أن الطفل قادم من كوكب لا يزيد حجمه عن حجم بيت عادي يُدعى “النجيمة ب ـ 602”.

واعتمدت العلاقة بين الطرفين، في تَناميها على توالي الأيام التي جمعت بينهما، قبل أن يخوض الطفل الأشقر، وكأنه عوليس، رحلته الاستكشافية إلى بقية الكواكب في طابع من التعليم والاكتشاف. والغريب أن هذا الطفل هو طرف مباشر وفي أحيان كثيرة يلعب دور الوسيط للتعلّم، فعندما رفض الطفل أن يُخبَر الطيّار أين يسكن؟ استطاع الأخير أن يصل إليه بالاستدلال، وبالمثل يدرك أيضا بحكم علاقته وتعلُّقه بالطفل أن الكبار يحبون الأعداد، ولا يهتمون بالأوصاف بقدر ما يهتمون بسعر المنزل الذي تصفه لهم، كما تعلَّم أشياء كثيرة عن أشجار الباوبات، وعن غروب الشمس وغيرها من العوالم.

وتكشف الرواية في أحد محاورها عن التباين الشاسع بين عالم الكبار والصِّغار في الواقع وأيضا في التخيّلات والقدرة على التصوّر لما هو خارج المألوف، فالمشهد الأوَّل خاص بتذكّر الراوي عندما كان في سن السّادسة ورأى صورة ثعبان البوا في كتاب عن الغابة العذراء وهو يهضم فيلا وعندما عرضها على الكبار كان تفسيرهم للصّورة متناقضا مع ما تخيّله الطفل، فهم رأوها على أنها قبعة لا تخيف. ومنذ ذلك المشهد يَبني الكاتب روايته ويمهّد لما هو قادم، بأنّ ثمّة تناقضا في رؤية الطفل، وما يقابلها من رؤية عالم الكبار لذات الشيء، وهو ما كان سببا في إحباط الطّيار وتخلِّيه عن هواية الرَّسم التي يُحبّها إلى حد الاهتمام بالجغرافيا والرياضيات، ومن ثمّ اختار مهنة أخرى فتعلَّم الطيران.

كما بدأ هذا الطفل يعي جيدا كيف يتعامل مع عالم الكبار، فبعدما اختبر الكثير من الأصدقاء الجادّين وثاقبي الفكر في الرسم الذي كان سببا في إحباطه من عالم الكبار، يكتشف أنهم جميعا يتساوون معه في رؤيته كبقعة، ولذلك بدأ بالنزول إلى مستواهم العقلي فلم يعد يحدثهم عن ثعابين البوا أو غابات العذراء ولا عن النجوم وإنما بات يحدثهم عن “البريدج، عن الغولف، عن السياسة، وعن ربطات العنق”، ورغم ما يلوح من سخرية في تعامل الطفل معهم، إلا أن الأمر كان يسعد الكبار لأنهم تعرّفوا على شخص رشيد.

_147403997213
الاكتشاف والهدم

يفرد الراوي لرحلة الاكتشاف منذ ترك الطفل الصبي كوكبه بحثا عن مكان يقيم فيه، مساحة كبيرة منذ الفصل العاشر إلى السادس والعشرين، أما الفصل الأخير فيأتي بعد مرور عام على اللقاء واختفاء الطفل واحتمال عودته إلى كوكبه وزهرته، وتساؤل الطيار عمّا حدث لزهرته بعدما نسي أن يصنع للكمامة حزاما جلديّا؟

وفي فصول الرحلة يبدأ الطفل رحلة استكشافه لعوالم الكواكب الأخرى وتباين حجمها وسكَّانها، والغريب أن هذا التنوّع الذي يرصده البطل/ الطفل الصغير في الكواكب الأخرى، هو أشبه بسخرية من واقع عالم الكبار الذي تهيمن وتسيطر عليه هذه الكواكب بحكم مواقعها المختلفة، فهناك الملك الذي يهوى السيطرة فقط ويتوّهم أنَّ كلَّ الناس له رعايا وعلى النجوم أنْ تطيعه أيضا، كما يُمارس سلطويته ودكتاتوريته على الرعية المتوهّمة حتى أن الطفل لم يجد مكانا مِن فرط المعطف الفخم المصنوع من الفرو، وهناك الرجل المغرور المُعجب بنفسه على الرغم من أنه وحده على الكوكب، إلى الرجل السكّير الذي يشرب من أجل أن ينسى خزيّ سكره، وهكذا دواليك، حيث يصف لنا الطفل أحوال الكواكب الأخرى التي يبحث فيها عن مكان وعن سكانها، وهناك أيضا رجل الأعمال الذي لا هم له سوى جمع المال حتى من توهّمات امتلاك النجوم وبيعها، وهناك مشعل المصباح في كوكب صغير، وهو الذي يرمز للإنسان الذي ينفذ الأوامر دون إدراك لما يفعل، فالكوكب صغير يصل إلى منتهاه في ظرف ثلاث خطوات، ثم يلتقي بالجغرافيّ الذي يعيش وهم جمع المعرفة، لكنها معرفة ناقصة، وهو ما يكتشفه الطفل في رحلاته لاستكشاف الأماكن، في حين يفضِّل الجغرافي الاستماع إلى المستكشفين ويسجِّل ما يروونه له من وقائع، وصولا إلى كوكب الأرض الذي هو خال من البشر على اتساعه، فلا يصادف عليه إلا الثعبان ثم يعبر الصحراء فلا يعثر إلا على زهرة بثلاث بتلات.

Littleprince

وفي الكواكب السابقة خرج الطفل بحكمة رددها كثيرا “إن الكبار عالمهم بالغ الغرابة”، أما في كوكب الأرض فقد التقى الثعبان والزهرة والثعلب وعامل التحويلة وبائع الوهم (بائع أقراص تهدئة العطش) فكانت الحكمة مختلفة تماما، فعن الثعلب يأخذ “الجوهر مختلف عن العين”، وعامل التحويلة يلخّص حالة السعي واللهاث التي يرى عليها المسافرون والعائدون، ومع هذا “فلا أحد سعيد حيثما هو كائن”. أما بائع الوهم فكان طريقه أن يُلقِّن الطيَّار الذي أوشك ماؤه على النفاد درسا مهمّا، فيرشده إلى نبع من الماء لا إلى أقراص تهدئة العطش، وفي طريقه إلى رحلة البحث عن الماء في الصحراء، حتى اكتشافه مع بزوغ نور الصباح يهتدي إلى حكمة مفادها “أن ما يجمِّل الصحراء أنها تخبئ بئرا في مكان ما”، وهي أشبه بفعل تحريض على الاكتشاف والاستمتاع بلذة الرحلة وأسرارها.

ويذكر المترجم في مقدمته القيّمة التي تعدُّ دراسة متكاملة عن الرواية وسرِّ خلودها معلومات عن المؤلف وحياته الشخصية والأدبية، وكذلك مظاهر احتفاء النقاد بالعمل، وإن كانوا رأوا فيه حالة عصية على التصنيف وهو ما يعدّ ميزته الرئيسية، كما يقف عند مؤلفها أنطوان دوسانت أكسوبيري وانتمائه إلى الطبقة الأرستقراطية الفرنسية وأعماله الأدبيّة وعشقه للهو والرسم والغناء بحسب ما يقول أصدقاؤه، لكن الرِّسالة التي تسعى هذه الرواية إلى إيصالها، على حدّ قول الناقد المتخصِّص في أدب دوسانت أكسوبيري جان بيار جينو مفادها “ألا ننسى أبدا طفولتنا، وليس معنى هذا ألا ننمو ونكبر، بل المقصود هو القدرة على الحفاظ على نضارتنا وأسئلتنا ودهشتنا بالأشياء الجميلة من حولنا”. وهو الأمر الذي سيلفت قارئ هذه الرواية، سواء أكان من الصغار أم من الكبار، وهو ما يجعلها تتربع على عرش أعلى الكتب مبيعا بعد القرآن والإنجيل وكتاب كارل ماركس عن رأس المال، ويكفي أن يعرف قبل القراءة أنها تُرجمت إلى 270 لغة كما يقول المترجم، ليتأكد القارئ من أنه يقرأ عملا فارقا يحوي من الرموز والدلالات التي لا يزال الكثير منها عصيّا على فك شيفرته رغم المحاولات المتعددة من قبل النقاد.
________
*العرب

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *