“ابنة الحظ” لإيزابيل الليندي

*هدية حسين

منذ السطور الأولى تعطيك إيزابيل الليندي مفتاح روايتها، وما عليك سوى الدخول الى البيت العجائبي وعالم “ابنة الحظ“، ذلك العالم الساحر الغامض المفتوح على العديد من الاحتمالات، والمسكون بكل ما هو غريب وعجيب.. فإلزا سوميرز اكتشفت منذ وقت مبكر أن لديها موهبتين هما، حاسة شم تشبه حاسة كلب صيد، وذاكرة قوية سيكون لها الأثر الكبير في تشكيل شخصيتها، وعلى هاتين الموهبتين وجملة حكايات ومغامرات يتأسس عالم رواية “ابنة الحظ” بكل ما فيه من أحداث كبيرة وتفاصيل صغيرة عن الحب والصداقة والجشع والعنف.

إلزا سوميرز هي الابنة غير الشرعية التي وجدها “جيرمي سوميرز” على باب الشركة البريطانية التي يعمل فيها، فتبنتها شقيقته روز وأعطتها اسم أخيها برغم اعتراضه، ومنذ الصغر ألقموها حكاية أنهم وجدوها في سلة عند باب الشركة، وتلك السلة مصنوعة من قشور خيزران طويلة جداً، ومبطنة بقماش قطني ناعم، وكان قميصها مطرزاً بغرزة النحلة، والملاءة مزينة بإطار من الدانتيلا المخرمة، وكانت الوليدة مدثرة بدثار من فرو النمس المسكي.. وبمرور الوقت صارت الحكاية تتجمّل وتضاف إليها “ست قطع نقد ذهبية ملفوفة بمنديل حريري، وملاحظة مكتوبة بالانكليزية توضح أنه على الرغم من كون الطفلة غير شرعية الا أنها من سلالة طيبة”

أما “مايا فريسيا” طاهية المنزل فتدحض تلك الحكاية من وراء ظهر السيدة روز، وتصر على أنهم وجدوها “عارية في علبة صابون.. لم يكن هناك أي دثار من فرو النمس أو أية قطع نقود ذهبية.. بل إنهم لم يضعوا لكِ حفاظة” وكان هذا القول أقرب شبهاً بذكريات إلزا، لكنها لم تشغل نفسها بالبحث عن الحقيقة طالما كانت تعيش في كنف أسرة تحبها وترعاها “فالمهم ما يفعله المرء في هذه الدنيا وليس كيف جاء إليها” وهذا ما يتناقض مع ما يؤمن به صديقها الحكيم الصيني تاوتشين الذي ستربطها به علاقة طويلة.

زمن الرواية يمتد لعشر سنوات (1843 – 1853) بالرجوع عند الضرورة الى أبعد من ذلك، وتقع الأحداث قبل وأثناء وبعد فترة البحث عن الذهب في العالم الجديد، وتبدأ الرواية من بيت آل سوميرز قرب ميناء بالباريسو على المحيط الهادي، ذلك الميناء الذي يعج بالناس والحكايات واللصوص والأحلام، وكما عودتنا إيزابيل الليندي في أعمالها السابقة، فإن “ابنة الحظ” لا تخلو من رحلات جريئة ومصائر عجيبة لأبطالها المسكونين بالترحال والمغامرات والأهوال وقصص الحب والبحث عن الحرية في أقصى مدن العالم.

كان عمر روز عشرين عاماً حينما تبنت إلزا، لقد تدنّت احتمالات زواجها لأنها امرأة ذات ماضٍ، فاقتنعت أن الزواج سيكون صفقة مشؤومة بالنسبة إليها، واكتفت باستقلاليتها ولم تستسلم للخوف من وصمة العانسات، وعلى الرغم من معارضة جيرمي للتبني إلا أنه لم يتجرأ على المعارضة برغم الأقاويل التي انتشرت على أن إلزا هيى ابنة غير شرعية لجيرمي، ولم يشأ أحد إلصاق التهمة بروز لأنهم يرونها بخصرها النحيل كل يوم أحد تغني في القداس.

في تلك الأجواء عاشت إلزا، ومن ذلك البيت بدأت قصة حبها لخوان مورييتا الذي يعيش مع أمه في بيت بائس ويحلم بحياة تنقله الى حياة الناس المحترمين، لكن مورييتا لم يكن على مستوى ذلك الحب الجارف فيهرب لمصير مجهول تاركاً في أحشاء إلزا ثمرة تلك العلاقة، وتبدأ إلزا رحلة البحث عنه غير عابئة بما تتركه تلك الرحلة في قلب أسرتها، رحلة طويلة خطرة عبر المحيط، من مدينة الى أخرى، محشورة داخل عنبر السفينة لئلا يتعرف عليها أحد، عاشت الوحدة وأحست بأنها مدفونة بين روائح السمك ومحتويات الطرود والصناديق، في رحلة ستطول أكثر مما كانت تعتقد، هكذا أخبرها تاوتشين الذي كان يعمل في السفينة قبل أن يصبح صديقاً لها وعوناً على ما سيواجهها من متاعب، وفي ذلك العنبر أجهضت إلزا بعد معاناة مع المرض، وغرقت في هذيان الحمى، ولأن تاوتشين ورث عن عائلته معرفة التداوي بالأعشاب فقد قدم ما بوسعه ليعيد إليها الحياة.

مثل إبرة في قش ضاع حبيبها، عبث كل ما تفعله للوصول إليه، كان الحكيم تاوتشين دليلها الروحي لئلا تسقط في أنياب سماسرة الغواية، ومع ذلك تمضي إلزا بعناد غريب في البحث عن خوان مورييتا، تبحث دون كلل عن رجل أصبح فيما بعد أسطورة، وكتب عنه بابلو نيرودا مسرحيته المعروفة “تألق خوان مورييتا ومصرعه” والذي تكتشف بعد طول عذاب بأنه مطلوب للعدالة لأنه ليس أكثر من قاطع طريق.

بين بدء هروب إلزا ورحلتها الطويلة، ومصرع خوان مورييتا، ثمة مغامرات وحكايات لا تعد ومصاعب لا تحصى، وأناس من كل صنف ونوع، وقصص حب زائفة، وموت مجاني، وبحث محموم عن الذهب.. آلاف المغامرين عن الذهب، لصوص وبائعات هوى ومرض الكوليرا الذي فتك بالكثيرين، عربات وخيول ومتاجر مرتجلة، ضوضاء وشجارات ومعاول تدق الصخر، رصاص طائش لا تدري من أين ينطلق والى أين يمضي، صالات قمار مزينة بصور نساء عاريات، خمور وأسلحة، أحلام مبتورة وأقدار محددة.. كل شيء يباع وكل شيء تحت الطلب في جميع المدن التي تصلها إلزا.. وفي كل مدينة يمارس تاوتشين مهنة الطبابة، تساعده إلزا التي استعادت عافيتها وتخلصت من خوفها، عالج الملدوغين بالأفاعي والمصابين بالكوليرا، لقد جاء هؤلاء بوهم الثراء بعد اكتشاف الذهب، وكانوا يهيمون على وجوههم مع نسائهم المتعبات وأطفالهم الجائعين.

تلك الحياة المرتبكة القلقة أدارتها إصابع إيزابيل الليندي بمهارة، على الرغم من تشابك العلاقات وكثرة الشخصيات واختلاف المآرب والسبل والمصائر، أخرجت النوايا من ظلمات القلوب، وصاغت الحكايات بخيال خصب، ب 438 صفحة من الحب والخيبة والتشويق، والتي تنتهي بعبارة تقولها إلزا بعد أن شاهدت وتأكدت من الرأس المقطوع لخوان مورييتا “إنني الآن حرة”..حرة من العاطفة التي كبلتها وأجبرتها على الترحال من أجل رجل لم يصن عهدها، وحرة حين اختارت طريقها مع الحكيم تاوتشين، ترى، أكانت إلزا محظوظة وهي تعبر المحيط والبحار وتمر بما مرت به لتصل الى ما صارت عليه؟ أم أن الحظ خانها وألقى بها الى المصير الذي آلت اليه حياتها فيما بعد؟

أياً كان الجواب فإن إيزابيل الليندي قدمت لنا عملاً كبيراً أتقن ترجمته صالح علماني وصدرت طبعته الأولى بالعربية عن دار المدى للثقافة والنشر. دمشق عام 2000.
________

*المدى

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

تعليق واحد

  1. الرواية من أعمق الوايات التي طالعتها ، سالمة وعميقة و مؤثرة وتضيء الأمربكتين بكل تفاصيل الحياة فيهما

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *