تعال نستعين بالشاعر فرناندو بيسوا لنكتب القصص

*فيصل عبدالحسن

تنهل قصص مجموعة “الباب وقصص أخرى” للشاعر البرتغالي الراحل فرناندو بيسوا من واقع تخيلي فلسفي عُرف به الكاتب في الكثير من دواوين شعره وقصصه.

والمتأمل في هذه المجموعة يشعر كأن بيسوا قد بدأ بها عصر الحداثة القصصية في العالم، حيث اتسمت بأفكار فلسفية ورؤى حداثية بدت كأنها كتبت لقارىء اليوم، وأرّخت للانتقال القصصي من القص الواقعي إلى قص بدايات الحداثة، التي مهد لها إدغار آلان بو، ووالت ويتمان وغيرهما. وقد تأثر بيسوا بالكاتب آلان بو كثيراً سواء في شعره أو في نثره. قصص المجموعة تعلمك كيف تُكتب القصة القصيرة الحَداثَيّة؟

تداعي الأشياء

من جهة أخرى كتبت قصص المجموعة، الصادرة عن المركز الثقافي العربي بالدار البيضاء، بلغة شعرية، وترجمها سعيد بنعبد الواحد ترجمة ممتازة، وأضاف إليها مقدمة تعريفية بالكاتب. وبالرغم من أن البعض من القصص كانت مخطوطة وتم تحقيقها، وتركت البعض من الفراغات التي لم يستطع المحققون فك حروفها فإن المترجم نبه إلى المواضع تلك، لكي يعرف القارئ سبب عثرات القراءة.

تنقل بيسوا بين عدة مهن ليعيل نفسه. وجعله هذا يفهم الحياة بشكل أفضل، وبقي يتساءل في كل ما كتبه من شعر ونثرعن دوره ومعنى أنْ يعيش. وقد انعكست تجارب حياته في هذه المجموعة. وهي قصص اعتمد فيها كاتبها على عدة تقنيات، منها استخدام تداعي الأشياء والأفكار، وبناء الحبكة البوليسية، واستخدام الحوارات مع الذات والتعليقات.

ويطرح بيسوا في قصته “الباب” الجنون البشري، وعالج موضوعه بطروحات فلسفية، فهو يقول فيها ” حينما يخاف مهووس مسكين من مقبض باب، وحين يغمى على آخر عندما يسمع كلمة معينة أو يراها مكتوبة، أو عندما يشم رائحة ما، من يدري أنَّه ربما يرى أكثر من بقية الناس”.

والكاتب في قصته يمارس مطاردة لهوية المجنون، وكذلك فعل في بقية قصصه. فهو يطارد هويات حقيقية أو مفترضة ولا يتورع عن مطاردة ذاته ككاتب.

أما قصته “عشاء جد مميز” فمثلت أنموذجاً لكتاباته عن النفس الإنسانية وخوفها من المجهول، ويدور موضوعها حول الخوف والفانتاستك، ليكشف أسرار الانحراف السلوكي الذي يؤدي بشخصياته إلى الجنون.

يقول عن بطلها ” يقال عن بْروزيت كان إنساناً مرحاً، لأنَّ ما يثير الانتباه أكثر عنده هو الضجيج الذي يُحدثه عندما يظهر بَشاشته، وصخب مرحه”.

فكاك الرموز

أما قصة السَّالك القريبة من الشعر، فيضع عليها بصماته ككاتب تخييلي من الصنف الأول. فيروي قصة بطله الذي كان راضياً عن حياته في كنف أبوين غنيين. ويمضي وقته في سعادة وهناء ولكن ذلك يتوقف حالما يرى رجلاً يمر بجواره مرتدياً رداء أسود. ويقول له شيئاً لم يفهمه، ويمضي في طريقه. لكنه يخلف لبطله فراغاً في روحه وحبه للحياة. يقول “لم أشعر بعد ذلك مرة أخرى بالطمأنينة ولا بالراحة. لقد أصبحت حياتي، منذ تلك الساعة جوفاء وشاحبة”.

وفي قصة “سرقة في مزرعة فِنْياش” التي تنتمي إلى القصة البوليسية، يخلق بيسوا شخصية المحقِّق كواريشما الملقَّب بـ”فكاك الرموز”. وقد كرر الشخصية في الكثير من قصصه البوليسية التي كتبها بعدئذ.

وجاءت قصة “البنكي الفوضوي” -وهي أهم وأطول قصصه- كنص تجريدي خال من الحبكة لأنها مكتوبة عن القضايا الاجتماعية والسياسية المعاصرة. وغلبت عليها حوارات فلسفية وأيديولوجية كانت تدور بين شخصيتين، وقد جاء في حوار يدور بين فوضوي ورأسمالي:

“- لقد أخبروني أنَّك كنت فوضوياً فيما مضى .. هل هذا صحيح؟

ــ نعم، كنت فوضوياً وما أزال. لم أتغير بهذا الخصوص. إنني فوضوي”.

احذروا الدموع

قصة “خمس حكايات ذات مغزى” هي خمسة نصوص قصيرة، تشبه ما نطلق عليه اليوم القصة قصيرة جداً. ويختم كل حكاية منها بتعليق يحمل عنوان مغزى الحكاية، وتنمّ هذه النصوص عن روح الفكاهة لديه.

كانت الأولى بعنوان “سر روما” ويصف فيها دموع القيصر عندما يرى رأس صديقه بومبيو معلقاً على الرمح، بعد أن فشلت ثورته. وجاء في مغزى الحكاية “احذروا الدموع، عندما تسيل من عيون رجال السياسة”.

ضمت المجموعة قصصاً لبيسوا لم تترجم من قبل إلى العربية كـ”الباب”، و”عشاء جد مميز”، و”السّالك”، و”سرقة في مزرعة فِنْياش”، و”البنكي الفوضوي”، و”خمس حكايات ذات مغزى”.

ويعد بيسوا ( 1888 ــ 1935) من أهم الشخصيّات الأدبيّة في القرن العشرين. وقد عرفه القارىء العربي من خلال ديوانه الشعري “دكان التبغ” الذي صدر عام 1933 وترجم في الخمسينات.

ويعتبر من الدواوين الشعرية التي أثرت كثيراً في شعراء القرن العشرين بسبب الطرح السوريالي، وصعوبة تصنيف شعره، وبحثه الدائم عن ذاته في شعره ونثره. وبيسوا شاعر وناقد أدبي ومترجم وفيلسوف ومخترع ومفكر اقتصاديّ ومنجِّم.

وهذا نابع من حياته القصيرة التي عاشها (47 عاماً). وبقي شعره ونثره صورة لطفولته التي عاشها في جنوب أفريقيا حين اِنتقل مع أمه بعد وفاة أبيه وزواج أمه.
________
*العرب

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *