الواقعية المفرطة… وريثة اللوحة التشكيلية الحديثة؟

*نزار عثمان

الواقعية المفرطة “الهايبررياليزم” وعلى عكس ما يظن انها نكوص وارتكاس باتجاه لوحات عصر النهضة، فهي وليدة أوائل النصف الثاني من القرن العشرين بهمة رواد مثل تشاك كلوز ودون إدي وريتشارد ماكلين، ومن بعدهم دينيس بيترسون وغيرهم. وعنوانها انجاز عمل فني كلوحة او منحوتة، بواقعية مفرطة، تتحدى مقدرات الكاميرا بجودتها العالية.

تاريخ الفن بدأ بالتحرر من تقليدية اللوحة مع الانطباعية، بعدها تشعبت التيارات الفنية وتوسعت، لتشمل مدارس كان لها روادها وأتباعها الذين طوروا العمل الفني بشكل تراكمي. وسيطرت بعض تلك التيارات على حقبات معينة من الزمن، إلى حين نشوب الحربين العالميتين، حيث لم يعد على الفنان ان يلتزم بمدرسة واحدة، او ان يمارس عمله الفني مقيدا بأطرها وحدودها، بل بات ينعم بمساحة من الحرية. ثم دخل الفن المفاهيمي والتجهيزي ليطورا آليات عمل الفنان مع قطعته، ويردما هوة من التقنيات التي شكلت حائلاً فيما مضى امام انجاز اعمال تشكيلية، ويقربا المساحة بين الذهن والملموس في انجاز الرائع والمريع، غير المطروقين مسبقاً في تكوين العمل الفني.

بدا الفن المفاهيمي أشبه بالثورة على التقنيات التقليدية المستخدمة في انجاز اللوحة، إذ يمكن له ان يستخدم كل ما يخطر على بال الفنان لخلق الدهشة والغرائبية، بهذا أضحى هذا الفن يخاطب الذهن والنفس وردود الافعال أكثر من رعايته وعنايته بالعمل الفني بذاته. فمن الممكن استخدام أمور بسيطة من حياتنا اليومية وعبر المزج المتناغم بين المتناقضات تتحول الى عمل فني ناجح عند طرحها في غير مسارها الاول. فبعد ان كان الفنان يعمل بجد واجتهاد لإنجاز عمل فني يساوق المظاهر الطبيعية المحيطة، او النفسية التي تعتمل في داخله، يخلق من خلاله الدهشة بالتقنية أولا ثم بالتقاط الموضوع او الفكرة، أضحى لا يكلف نفسه كثير العناء في العمل على قطعته الفنية، بل يعمد لما خف حمله في توظيف واضح لفكرة ما تطرح وتكون ملبية للرسالة التي يود نشرها.
435 (1)
من الملفت في النصف الثاني من القرن العشرين وصولا الى بدايات الالفية الثانية، ان التيارات الفنية على تعددها لم تمت، بل استمرت تخبو في مكان من العالم وتظهر في مكان آخر. غير ان الذائقة الفنية مع الثورة التكنولوجية والرقمية وظهور وسائل التواصل الاجتماعي في السنوات القليلة المنصرمة أضحت أكثر تطلبا، وأشد تحكيما وتحكما، وأقوى مراسا عما قبل، فقد انفتحت العوالم التشكيلية على مستوى العالم، وباتت التجارب المختلفة بمتناول اليد، مما صعّب من آلية انتاج الفرادة والبصمة الخاصة، وأكثر من التأثر والتماهي بل واحيانا النقل في اوساط بعض الفنانين.

وفي عصر باتت التقنية هي المتحكمة، والالات هي الرائدة في تحقيق ما يعجز عنه البشر بذات المستوى من الدقة والتميز، ظهرت الواقعية المفرطة، لتعطي للانسان أولوية السبق على ما انتج وخلق من آلات أضحت تهدد وجوده المعنوي وربما بالمستقبل المادي، هذا أولا. ثم وكرد فعل على الفن المفاهيمي القائم على الفكرة أولا، وغير المهتم بالتقنية ثانيا –ما يشكل بطريقة ما تهديدا غير مباشر على وجود اللوحة كلوحة– أظهر “الهايبررياليزم” ان الدهشة بالمريع او الرائع يمكن لها ان تتجلى بالتقنية ايضا، وباللوحة، وبالاهتمام بالجودة العالية للمنجز. وعلى الرغم مما يراه البعض من ان “الهايبررياليزم” مجرد تقليد للواقع يمكن الاستعاضة عنه بالكاميرا، ولا يوجد أي رسالة من خلاله للعمل الفني، يظهر امامنا ان عصر التقانة الذي بتنا أسرى له، يشكل الهايبررياليزم نوعا من الانعتاق منه بهمة بشرية صرفة. وهل هناك من رسالة أبلغ من هذه؟ بهذا فلعل كل لوحة هايبررياليزم تحمل في ذاتها أسبقية البشري على الآلة على الرغم من اختلاف موضوعها وهيئتها. ثم ان كان المقصود من العمل الفني تقليديا كان او مفاهيميا او غير ذلك إثارة الدهشة، فهي متوافرة في هذا التيار من خلال الجودة العالية للمنجز.

وهنا نقطة تجدر الاشارة اليها، فالكاميرا بحد ذاتها قد دخلت في حرم الفنون عبر التصوير الضوئي، وغالبا ما تكون الصورة مواكبة لفكرة ما تعكسها مع معالجات معينة من الفنان/ المصور، غير ان الهايبررياليزم في بعض تجلياته يظهر لنا الصورة دون فكرة محددة، بل يكتفي احيانا بالعمل على منظر عادي ينقله كما هو إلى اللوحة، أليس هذا تقصير في ماهية الهايبررياليزم وتحجيم لدوره؟ يبدو ان الهايبررياليزم قد نشأ كرد فعل على التيارات الفنية ما بعد الانطباعية التي حورت الشكل وبلورته واعادت صياغته وفقا لرؤية الفنان، وهذا لا يعني بالضرورة نكوصا باتجاه لوحات عصر النهضة كما أشرنا سالفا، فعمر الهايبررياليزم صغير نسبيا إن قسناه على بقية المدارس الفنية، وكان جهد رواد الهايبررياليزم منصبا أساسا على مواجهة الزعم الذاهب إلى أولوية الفكرة على التقنية والتنفيذ من جهة اولى، وعلى تحدي صبغة العصر الحالي في تسلط الاجهزة الالكترونية والآلات على حياة البشر، من هنا وان نظرنا الى الدهشة كمقوم لنجاح العمل الفني لظهر معنا انها متوافرة جدا في الهايبررياليزم بعكس كثير من اللوحات المنتمية الى تيارات ومدارس أخرى باتت تقليدية تجتر نفسها وتعيد ذاتها بأكثر من وجه. ثم وعلى صغر عمر الهايبررياليزم نجد أن الفكرة بدأت تأخذ مجراها الى ذلك العمل الفني في تجارب جديدة تظهر على مستوى العالم.

وفي النهاية نشير إلى أن للهايبررياليزم غاليريات خاصة منتشرة في أوروبا وأميركا، فضلا عن غاليريات أخرى تعنى بهذا الصنف من الفن مع أصناف أخرى، الا انه في عالمنا العربي ما زال يتقدم ببطء، ولا يوجد الكثير من التجارب التي تعنى فيه وتتقنه.
______
*المدن

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *