مي وجبران.. هل كانت الأديبة الحسناء تكذب على «النبيّ» في رسائلها معه؟

*عبد اللطيف الوراري

رغم ما قيل بأنّ الثق افة العربية في تاريخها ثقافة حجب وستر، إلا أن آدابها تكشف عن كونها أُمّة بوح واعتراف، سواء في شعرها أو في نثرها. ولعل أدب الرسائل أو فنّ الترسل من بين هذه الآداب التي لا تخلو من سرد الاعترافات وكشف الأمور الشخصية بين المترسّلين ممن ملكوا البلاغة وقلّبوها على وجوهها للتعبير والتأثير. فكان من الرسائل ما جاء في الشوق، أو الاستعطاف والاعتذار، أو النصح والمشورة، أو الملامة والعتاب، أو الشكوى، أو العيادة، أو التهاني، أو التعازي والتأبين، إلخ. وقد قيل إن الرسائل هي «مخاطبة الغائب بلسان القلم»، وإنّها «ترجمان الجنان، ونائب الغائب في قضاء أوطاره، ورباط الوداد مع تباعد البلاد».

مي وجبران

في العصر الحديث، شرع الأدباء في عرض قصصهم والبوح بتجاربهم في الكتابة والحياة ضمن رسائل شخصية كانوا يتبادلونها بينهم ومع مجايلي عصرهم. وكانت الرسائل المتبادلة بين مي زيادة وجبران خليل جبران هي أشهر هذه الرسائل على الإطلاق، كما حققتها سلمى الحفار الكزبري وسهيل بشروني تحت عنوان «الشعلة الزرقاء» الذي استوحياه من تعبير جبران عن حضوره الذاتي المفارق في العالم، والموزّع بين ما هو عليه وما يصبو إليه بأشواقه وانتفاضة روحه، إذ كتب يقول «.. هل بإمكان الذات المقتبسة، وهي من الأرض، أن تحور وتغير الذات الوضعية، وهي من السماء؟ إنّ تلك الشعلة الزرقاء تنير ولا تغير، وتحول ولا تتحول، وتأمر ولا تأتمر». فقد كان يتوق، من الهناك، إلى «الشعلة المقدسة» التي هي جوهر النفس الإنسانية في أسمى درجات صفائها وسعيها للفناء في الآخر.

الأنا الغنائي وضبابيّته:

في الرسائل التي كان يبعث بها جبران خليل جبران إلى مي زيادة، يكشف عن طفولته، وارتباطه بأمّه، وأحلامه، وميوله وذكرياته، وصحّته، وأسرار نفسيته، ومشاريعه وآرائه في الأدب والروح والفنّ. وقد كان يخاطب ميّ التي شُغف بها حُبّاً، كمن يخاطب نفسه بصدق وبساطة وعفوية. والأغرب أن العلاقة «الرسائلية» بينهما توطّدت بشكل غريب ودامت زهاء عشرين عامًا من دون أن يلتقيا إلا في الضباب، وبينهما «سبعة آلاف ميل» كما قال جبران، أو «البحار المنبسطة» بتعبير ميّ.
في إحداها مؤرخة بتاريخ 28 كانون الثاني/ يناير 1920، يكتب جبران بخصوص نسبة تمثيل عمليه «المجنون» و«المواكب» لأناه الغنائية التي ينظر إليها متوتّرًا بين الشخصي واللاشخصي، قائلاً: «وإذا صح ظنّي أكون أول ضحايا ذلك الكتاب لأن المجنون ليس أنا بكلّيتي». فأنا الكتابة تختلف من جهة التلفُّظ عن المؤلف المرجعي ويعرض عن صيغ حضوره كما هو، وذلك بسبب ما تنطوي عليه الكتابة نفسها من أصداء وتواريخ ومشاهدات هي نتاج بحث مأمول فيه، وليس توثيق حالات وأسماء فحسب. بيد أن جبران، والحالة هاته، يجد نفسه في «فتى الغاب» داخل المواكب، الذي يبعث بنفثات نايه الساحرة شكل حياة بديلة لإنسان نافر من قيم المدينة الجاهلة، أكثر مما يجد في «المجنون» وصراخه. وفي هذا الصدد يقول جبران: «ولكن إذا كان لا بدّ من الوصول إلى حقيقتي بواسطة ما كتبتُه فما عسى يمنعك عن اتّخاذ فتى الغاب في كتاب «المواكب» لهذه الغاية بدلاً من «المجنون»؟ إن روحي يا ميّ أقرب بما لا يقاس إلى «فتى الغاب» ونغمة نايه منها إلى ‘المجنون’ وصراخه» .
يعترف جبران على نحو يرتقي بذاته تخييليًّا، بأنّ حياته مضاعفة موزّعةٌ بين حياة بشرية عادية وحياة خيالية يصرفها «في مكان قصيّ هادئ مهيب مسحور لا يحدّه مكان ولا زمان»؛ إذ يعود منه شخصاً آخر، غريباً، «شاعراً بيدٍ شبيهةٍ بالضباب». هنا، يميّز جبران بين الخيال والكذب، أو بالأحرى لا يشتطُّ في التخيُّل إلى حد الكذب على النفس، بل هو نتاج لخبرة الحياة التي تُغذّي التجربة الذاتية حسّياً وكيانيّاً على نحو قد تتراسل معه الحواس بما يُشبه «نشيداً غنائيّاً».
لكن رؤية جبران تتأثّر، بشكل لا يتعافى منه، من هذه الحدّية المفارقة التي تأخذ شكل تشظٍّ للذات يتحوّل إلى ضبابٍ يرى فيه حقيقته، وغيريّته الملتبسة، فيظلّ الوجود لُغْزاً هُلاميّاً غير لفظي: «أنا ضبابٌ يا مي. أنا ضباب يغمر الأشياء ولكنه لا يتحد وإياها (…) ومصيبتي أن هذا الضباب، وهو حقيقتي، يشوق إلى لقاء ضباب آخر في الفضاء. يشوق إلى استماع قائلٍ يقول: لست وحدك. نحن اثنان. أنا أعرف من أنت».
هذه «الضبابية» قد تلبّست حياة جبران، وداخلت خطاباته التي كتبها إلى ميّ؛ فلم يصرح بحبّه لها أو يتخذ نحوها قراراً جادّاً، وهو ما أثمر «سوء التفاهم» بينهما، وأشعر ميّ نفسها مع الوقت بالإحباط والانتظار القاتل.
كلما أمعنا في مضمون الرسائل وصيغه التلفُّظية من وقت لآخر، ازددنا اقتناعًا بأن جبران كان واقعًا تحت نزعة صوفية؛ إذ كيف يمكن للمرء أن يظلَّ خلال هذه الفترة كُلّها يتحرق نحو امرأةٍ لم يرها ويشغف بها حُبًّا، ويتخطى من أجلها حدود الزمان والمكان والحواس إلى عالم آخر تتحد فيه قوة الوجود، بل إنّه كان يجد في هذا الشغف الذي تحمّله فوق ما تطيقه جارحته، عزاءً له عن لقيا «الهناك» المستحيلة وترياقًا لروحه المعذبة: «… الأفضل أن نبقى هنا، هنا في هذه السكينة العذبة. هنا نستطيع أن نتشوّق حتى يُدنينا الشوق من قلب الله».
عدا هذه النزعة التي تبحث عن حقيقة الذات في عالمٍ ضبابيٍّ، قد يكون التكوين النفساني لجبران، والمتأثر باعتلال صحته منذ مطلع شبابه وابتلائه بموت أمّه ورفض ماري هاسكل الزواج منه وبعاده عن الشرق، سببًا آخر في أن يصبغ الرسائل بصبغة صوفية يكتنفها الكثير من الضباب.

هل أحبت ميّ «المجنون»؟

ولكن هل أحبّت مي صاحبها جبران الذي لم تَلْتَقِهِ ولو مرّةً واحدة؟ أم أنّها كانت تداري عاطفته الصادقة وتُجيّشها بكبريائها وتغنُّجها الباهر،

ومن ثمّة قد تكون تكذب عليه؟
إذا علمنا بأنّ مي صارت لها شهرة واسعة بعد افتتاح صالونها الأدبي، وكان لجاذبيّة شخصيتها سطوة أكبر، ولها رسائل أخرى مع مشاهير أدباء عصرها، بمن فيهم أمين الريحاني وعباس محمود العقاد ومصطفى صادق الرافعي، فإنّ افتراضاً يقول بأنّ مي كانت تبحث عن شهرة مأمولة وذيوع صيت شخصي من وراء هؤلاء المشاهير الذين صار بذكرهم الشرق والغرب، يمكن أن يفرض نفسه؛ إلا أن هذا الافتراض مردود عليه بافتراضٍ آخر هو أن ميّ حرصت على إخفاء علاقتها بجبران إلا من بعض المقرَّبين منها، وأبقتها سرًّا دفينًا حتى يوم موته.
وإذا عدنا إلى كرونولوجيا العلاقة بين جبران ومي، فإنها لم تنشأ دفعة واحدة، بل توثّقت مع الوقت وتطورت من التحفظ إلى التودد. فجبران نفسه تدرجت لهجة رسائله من الإعجاب إلى بوح الصداقة الحميمة فالحبّ، وكانت هذه الرسائل تستحوذ عليها لغة التلميح والتورية، بحيث لم يكن يسمي الأسماء والمشاعر بأسمائها. كما أن مي بدت في رسائلها له متحفّظةً كما يظهر من لغتها ولهجة أسلوبها؛ إذ تردّدت في الإعراب عن مشاعرها المكبوتة، وكانت لا تطلق قلمها يجري على سجيّته، فحصرت موضوعاتها في ما هو فكري وأدبي يتخلله الإعجاب بشخصيته وإنتاجه الأدبي والفني. ولم يكن جبران ينظر إلى ما تكتبه بعين الرضا، حتى كتب إليها: «أهو الخجل أم الكبرياء أم الاصطلاحات الاجتماعية». إلا أنّه في ما بعد، أي بعد حوالي إثنتي عشرة سنة، وبعد الذي لامسته من شغف جبران وتعلُّقه بها على نحو صادق وشفّاف نتلمسه من مناداته إيّاها بقوله: «صغيرتي المباركة، صغيرتي المحبوبة». أخذت مي ترتاح له، وتبدد شكوكها في عواطفه نحوها، وتعلن بعاطفة الحب له وخشيتها على اعتلال صحته، كما أخذت تحدثه عن أمور شخصية كقصّ شَعرها مثلًا.
بيد أنها، مع ذلك، كانت تعلن حُبّها بخوف غير مفهوم. ففي إحدى هذه الرسائل المؤرخة بـ(15/1/1924)، كتبت مي: «ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به، ولكني أعرف أنّك محبوبي، وأني أخاف من الحب». وقد يرجع الأمر إلى إسراف مي في كبت مشاعرها ونزوعها إلى التشاؤم والاكتئاب، وهو ما سبب لها الشقاء في حُبّها لجبران، أو بالأحرى في حُبّه لها، أكثر من الفرح الظاهر به. حتى أنّ هذه الرسائل نفسها لم تنشأ على وتيرة واحدة، فقد تخللتها سلسلة جفاء وفتور وقطيعة تدوم العامين، وكان أكثرها من طرف ميّ «الخائفة» في مقابل جبران «المسترسل» ولكن بضبابيّة مخيفة. ولكن، مرة أخرى، هل أحبت مي جبران؟ كان أنور المعداوي قد كتب في مجلة الآداب (نيسان/ أبريل 1953) ناعتًا ميّ بـ(الشاذّة)، وشاكًّا في أن تكون قد أحبت جبران، إذ قال: «والحقيقة التي قتلها الدارسون المسرعون هي أن عاطفة ‘الأنوثة في ميّ لم تتجه يوماً إلى جبران». ففي نظره، ظلت مي محايدة لا تحرّكها «شهية» الأنوثة ليس مع جبران فحسب، بل مع غيره ممن لم تنقصهم الرجولة؛ لأنها ببساطة لم «تتذوّق» الحب.
وأيًّا يكن، فإنّنا اليوم لا يمكن أن نقرأ العلاقة بين جبران ومي إلا في ضوء الرسائل التي تبادلاها، بما تنطوي عليه من تلفُّظات في غاية الخطورة بلغ شرَرُها روحيهما معًا، مع ما في هذه التلفُّظات من أوجه الشعر والبلاغة وفنون التواصل أو الكياسة وخلافها. وربّما كان الرسالة أخطر من الواقع الذي لم يتمَّ لهما ولو مرّةً واحدة، فمات جبران على أسرار «الضباب». وأما ميّ فإنّها لما علمت بموته (1931)، ألمَّ بها انهيار عصبي ودخلت مستشفى الأمراض العقلية غرقت كهولة مقيتة قبل الأوان، وعاشت بلا زواج إخلاصًا لحبها الوحيد الضائع، فكانت السنوات العشر التي أعقبت موته أسوأ سنين حياتها على الإطلاق؛ إذ قضتها الآنسة مي امرأةً مفجوعة ويائسة حتى ذوى جمالها تمامًا. ولكن يكفي أنّ حبّ مي قد ألهم جبران البدائع في أخصب مراحل عطائه الأدبي والفني من جهة، وأن يكشف لقرائه الكثيرين عبر كل الأزمنة معطيات نفيسة عن طفولته وذكرياته ومشاريعه ونزعاته وآرائه الأدبية والفكرية في هذه الرسائل، بل ويودعها ريشة رسوماته الفريدة.
_______
*القدس العربي

 

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *