مذكرات أسترالية عن الحرب والحب المحرم

بيروت – في روايته السادسة “الدرب الضيق إلى مجاهل الشمال” التي اقتبس عنوانها من قصيدة هايكو للشاعر الياباني الشهير ماتسوو باشو، يبدو الروائي الأسترالي ريتشارد فلاناغان مدركا لخيوط الحياة بأسرها، فالرواية نوع من التقدير والامتنان لأبيه الذي أجبر على العمل في مد خطوط سكك الحديد.

أمضى فلاناغان، اثني عشر عاما لاستكمال روايته التي أمنت له الفوز بجائزة «مان بوكر» الأدبية لعام 2014، وهو يقول إنه ألف خمس مسودات مختلفة منها، وعزل نفسه كليا داخل كوخ على جزيرة خارج مسقط رأسه «تسمانيا» لمدة ستة أشهر لإنهائها. وقد صدرت الرواية أخيرا في نسختها العربية عن منشورات الجمل ببيروت بترجمة خالد الجبيلي.

استوحى الكاتب أحداث روايته من تجربة والده كأسير خلال الحرب العالمية الثانية لدى الجيش الياباني، إنها قصة دوريغو إيفانز مع الحرب والاعتقال وحبه لإيمي. إيفانز الطبيب الجراح الذي يعتقل في مخيّم للعمل على خط السكك الحديدية بين تايلاند وبورما، المعروف بـ”سكة الموت”، ويحاول مساعدة الرجال الذين يواجهون الجوع والموت والكوليرا والضرب هناك.

وقد وصف رئيس لجنة تحكيم البوكر أنطوني جرايلينج الرواية المتوجة بـ”العمل العظيم حول اثنين من أهم مواضيع الأدب في العالم.. الحب والحرب”، مضيفا أن “هذا هو الكتاب الذي ولد ريتشارد فلاناغان من أجل كتابته”.

“الدرب الضيق إلى مجاهل الشمال” رواية “شخصية جدا وأليمة”، كما يقول ريتشارد فلاناغان الذي أكد أنه كتبها ليتجاوز حجر عثرة بداخله، وكانت هدية لوالده الذي توفي.

كما يؤكد الكاتب أنه في اليوم الذي انتهى فيه من كتابتها لم يكن متأكدا مما إذا كان بإمكانه تأليف كتاب آخر، لو لم يكتب هذه الرواية، لذا كان ينبغي عليه التعامل مع الأشياء التي يمكن أن تصبح حاجزا أمامه، ويعمل على تحديدها.

إن الظروف الأليمة التي عاشها والد الكاتب، السجين رقم 335، والذي نجا من قسوة الاعتقال، كانت مصدر كرب لفلاناغان نفسه، وهو يقول «شعرت بأنني أحمل في داخلي شيئا ما نتيجة لنشأتي كطفل تأثر بتجربة سكة حديد الموت. فالناس تفيق من الصدمة الكونية، لكن الجرح لا يندمل عنهم، بل يمرر للآخرين». وأمضى بذلك وقتا طويلا مع والده قبل وفاته، متحدثا عن التفاصيل الأدق لتجربته في معسكر الاعتقال، وهو يقول «كنت مهتما بالأمور الصغيرة، رائحة الجلد المتعفن، وطعم الأرز الفاسد عند الإفطار، والإحساس بالوحل».

وهذه التفاصيل صاغها بمهارة في عمله السردي المبني على أحداث حقيقية تبين بشاعة الحرب والاعتقال، كما تسرد تفاصيل أيام الاعتقال وما عاناه المعتقلون من تعذيب وقتل، هناك حيث تصبح حياة الإنسان بلا معنى ويصبح مجرد رقم في حياته، ومجرد جثة عند موته.

الموت لم يكن الأمر الأشد قسوة في يوميات المعتقل والحرب، بل ما كان مؤلما هو الحياة المتعفنة حتى آخر تفاصيلها، الأجساد النحيلة والجائعة والعفنة، والأصوات المتداخلة والمختنقة والحرب التي لا تهدأ والأحلام والحيوات المفقودة والتي صار أغلبها هباء، لا طمع للشخوص بشيء هناك حيث تتوقف عجلة الحياة.

لكن على نقيض هذا المكان الجهنمي، فإن الرواية تتكشف عن كونها قصة حب محرم على شاطئ أديلايد. فالبطل الجراح الأسترالي دوريغو إيفانز، تطارده علاقة حب مع زوجة عمه التي تصغره في السن، كانت قد بدأت منذ سنتين، لكنه يسترجعها ويرويها بينما يتولى أمر عدد من الرجال في معسكر الاعتقال في الأدغال الآسيوية، ويخوض صراعا يوميا لإنقاذ حياتهم.

في الرواية مذكرات عن المعتقل يكتبها البطل دوريغو إيفانز المغرم بالأدب، لا سيما بقصيدة «عوليس» لتنسيون، ومذكرات عن طفولته في تسمانيا، وحياته في ملبورن، وتمركزه في أيدلايد، كما نجد حديثا شجاعا وعميقا عن الحب في علاقته المحكوم عليها بالفشل مع زوجة عمه أيمي، على الرغم من خطوبته لفتاة أخرى.

كل هذه الأحداث التي يسردها البطل بسلاسة وصدق عميقين جعلت من الرواية عملا سرديا مؤثرا خاصة في جمعه لشهادات عن تجارب مروعة لمجموعة من أسرى الحرب في علاقتهم بجلاديهم. وكتب فلاناغان عن دوريغو «على مدى عقود بعد الحرب، شعر بأن روحه نائمة، وعلى الرغم من محاولاته جاهدا لإنهاضها بالصدمات والمخاطر والخيانات المتتالية وحتى المتزامنة، والثوران.. والعمليات الجراحية المتهورة، فإن ذلك لم ينفع».

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *