انْسَ الفلسفة.. تعلّمها وأخرج منها إلى الحياة

*سعيد ناشيد

ليس كل تفكير في الفلسفة تفكيرا فلسفيا. التفكير في الفلسفة شيء، والتفكير الفلسفي شيء آخر. مثلما أن التفكير في العلوم شيء والتفكير العلمي شيء آخر. ومثلما أن التفكير في الأسطورة شيء والتفكير الأسطوري شيء آخر. التفكير في الفلسفة تفكير نستدعي من خلاله النصوص والمفاهيم التي أنتجتها الفلسفة لكي نتكلم عنها شرحاً وتحليلاً، فهماً وتأويلاً. أما التفكير الفلسفي فهو تفكير تصبح فيه النصوص والمفاهيم التي أنتجتها الفلسفة جزءاً من عملية التفكير نفسها، بمعنى أننا نفكر بالفلسفة أكثر ما نفكر في الفلسفة، أي نتفلسف. عبر عملية التفلسف قد نصادف الفلاسفة تباعاً دون أن نقصد استدعاءهم. كيف؟ يقال، الثقافة ما يبقى بعد أن ننسى كل شيء. باستعمال نوع من القياس نقول: التفلسف ما يبقى بعد أن ننسى الفلسفة (لكن ليس قبل أن نَدرس الفلسفة أوّلا). وأمامنا اختيار توضيحي:

لننس الآن كل ما تعلمناه عن الفلسفة. ولنحاول التفلسف بمعزل عن نصوص الفلاسفة ومفاهيمهم. ما يعني أننا سنمسح الطاولة على طريقة ديكارت –ولعلها مصادفة قبل البدء!- الآن، ليس أمامنا من مسار مرسوم طالما أن التفكير يشبه النقش الحر على الصخر، بالأظافر أحياناً، فلا يخضع لأي خطة مسبقة -وهنا حدود ديكارت- لهذا السبب تحدّث هيدجر –ولعلها مصادفة أخرى!- عن الطريق الغابوي، حيث لكل سالك متاهته والتواءاته. دعنا نلتمس متاهتنا ببطء وحذر شديدين، ولنبدأ بالشيء الأكثر بداهة في عملية التفلسف: الشعور بأن الحياة غير آمنة. طيب، كل واحد منا هو ذات واعية بذاتها، كما يقول كانط. وهذا بصرف النظر عن قوى اللاوعي التي لا نغفلها –فليهدأ فرويد- غير أن الوعي بالذات يضعنا وجها لوجه أمام ذات معرضة للألم، للمرض، للشيخوخة، للهشاشة، لفقد الأحبة، لخسارة الأصدقاء، لسوء الفهم، للإقصاء، للخذلان، للموت، لليتم، للترمل، للعنف، وللفناء في أي لحظة أو في الحساب الأخير. لذلك نحتاج إلى شيء من المواساة. لكننا نحتاج بالأحرى إلى مواساة تحترم عقولنا. أليس كذلك؟. هذه المواساة قد نجدها في الأديان، قد نجدها في الفنون الجميلة، قد نجدها في الحب، قد نجدها في التفلسف ذاته، كما أحاول أن أفعل الآن. لهذا السبب لربما تحدث جاك ديريدا –وهي مصادفة أخرى- عن الحق في الفلسفة. في كل الأحوال، حين نشعر بأن الحياة غير آمنة، فنحن على الأرجح قد نصادف نيتشه. مصادفة من العيار الثقيل، كيف نبررها؟

تدبير القلق
تمنحنا الحياة شعوراً عميقا بالقلق. هو قلق إذا لم نحسن تدبيره فقد يقودنا إلى أحضان العدميات أو الأصوليات أو الهمجيات. كيف نُحسن تدبيره؟ خلاصة درس نيتشه: الحياة بطبعها غير آمنة، والبحث عن الأمان عمل ضدّ الحياة. الأمان يعني النوم والترهل، يعني الجمود والتجمّد، يعني الشيخوخة المبكرة، يعني الموت قبل الأوان. ماذا يجب علينا أن نفعل؟ بكل بساطة، علينا أن نستجيب لنداء الحياة. هو صوت طبيعي نابع من داخل أنفسنا، غير أنه مخنوق بفعل رواسب ثقافية شاحبة. مضمون هذا الصوت يقول: علينا أن نتقبل في كل لحظة من لحظات الحياة عنصر المفاجأة والغرابة والمخاطرة والمجازفة والاندفاع نحو اقتحام عتمات المجهول. غير أننا –وهذا داء عضال- نفضل العبودية الآمنة على الحرية التي تعرضنا للمخاطرة. يتحدث لابويسيه عن «العبودية المختارة». لكن، أليس هذا ما نرجوه غريزيا لأبنائنا: الابتعاد عن روح المخاطرة طلباً للأمن والأمان؟ بهذا المعنى تكون غريزة الأبوة بمثابة العدو الأكبر للحياة. ولهذا السبب كانت النتشوية فلسفة الأبناء بامتياز.

لكن، هل تكون الحياة مجرّد سلسلة من المخاطر بلا أمل نهائي في الحساب الأخير؟ وهل بوسعنا أن نبدع أملا إنسانيا عظيما، يستنفر الخيال دون أن يعطل العقل، من قبيل عشبة جلجامش، أو الهجرة الجماعية إلى ما وراء النجوم، أو خلود النوع البشري..؟ لا يقين الآن، لا يقين في المستقبل، لا ضمانات الآن، لا ضمانات في المستقبل. بالأحرى، أصبحنا على حين غرة بلا عناية، بلا رعاية، بلا وصاية، بلا خطة كاملة أو تصميم متكامل، كما أننا لم نعد جزءا من سردية كونية كتلك التي تمتد من سفر التكوين إلى سفر الرؤيا على منوال السردية الإنجيلية، أو تلك التي تمتد من المشاعية البدائية إلى المجتمع الشيوعي على منوال السردية الماركسية. هذا ما يمنحنا اليوم شعوراً بالخسارة. لكن الخسارة لها وجه آخر، إنها فرصة لتحرير الإنسان من ثقافة الحِجر والوصاية. ماذا يعني هذا الكلام؟ يعني أن رسالة التنوير لا تزال تمثل أفق الحضارة الإنسانية حتى حين نكون مدعوين إلى نقدها، كما نوه جاك ديريدا في مداخلاته الأخيرة.

أكثر من ذلك، وأبعد ما يكون عن التشاؤم، فإن انعدام اليقين هو بالذات ما يجعل الواقع مفتوحا والتفكير ممكناً. عندما نفكر في الماضي مثلا فنحن لا نفكر في ماض أصبح معطى بنحو نهائي ومغلق، رغم أنه مضى وانقضى، لكننا نفكر في ماض لا يزال مفتوحا: نفكر في الفرص الضائعة، المشاريع المجهضة، الأفكار غير المكتملة، الثورات المغدورة، المعالم المبتورة، الأحلام المغمورة. ذلك أن التفكير في الماضي ليس توصيفا لما كان، لكنه استذكار للمنسي، استنطاق للصامت، واستحضار للغائب والمغيّب. التفكير في المستقبل هو أيضاً كذلك، استطلاع قبْلي للممكنات، أملاً في توسيع دائرة حرية الحركة. غير أن اليقين عندما يلغي الممكنات فإنه يغلق باب التفكير أيضا. الخلاصة أن اليقين عدو التفكير. لذلك يقال، العاقل يتروى والجاهل يؤكد. لكن، ثمة خلاصة أخرى، اليقين ينتج العنف، ولذلك فهو عدو السلام أيضا. وهذا معروف. العنف الإيديولوجي عنف باسم حقيقة مطلقة، وباسم وعد مستقبلي يقيني. هنا جوهر النقد الذي يوجهه الكثيرون لكل من هيجل وماركس –ولعلمنا نصادف ضمن هذا النقد كارل بوبر مثلا- لكن، ثمة اعتراض آخر، يتعلق هذه المرّة بمعنى الحياة. ماذا لو كنا نملك اليقين حول ما سيحدث غدا؟ ماذا لو كان اليقين حول الغد موجودا منذ الآن في أحد أبعاد المكان والزمان، ألن تغدو الحياة رتيبة ومملة في آخر المطاف؟ ألا تكمن متعة العيش في أننا لا نملك أيّ يقين حول ما سيحدث لنا بعد بضع لحظات من الآن؟ ألا تكمن متعة اللعب في اللعب المفتوح؟ أليس هذا ما يجعلنا نفضل البث المباشر لمباريات كرة القدم على البث المسجل أو الإعادة؟

والآن، حتى لا نبتعد عن قارعة الحياة، ماذا عن درس نيتشه؟ في كل الأحوال، لا يقصد نيتشه بإرادة الحياة مجرد البقاء على قيد الحياة. إذ أن البقاء على قيد الحياة بأي ثمن هو أصل طبقة العبيد عند هيجل –وهذه مصادفة أخرى!- العبيد في أصلهم أسرى حروب لم يقاتلوا حتى الموت، بل آثروا الاستسلام ومن ثمة العبودية على الموت. فصار الأسرى عبيدا، وشكّل العبيد طبقة تتوارث العبودية وتتوارث ثقافة وقيم العبودية. أما الحياة بالمعنى النيتشوي فإنها تحيل إلى تلك الطاقة الحيوية التي تدفع الإنسان إلى اقتحام أدغال الحياة والذهاب فيها إلى أبعد مدى ممكن. غير أن طاقة الحياة، على خلاف الطاقة في العالم الفزيائي، فإن لها خاصية دراماتيكية: الفناء. الإنسان كائن من أجل الفناء، يقول هيدجر. ما معنى هذا الكلام؟ معناه أن المرء لا يملك الكثير من الوقت لكي يحقق ذاته، لكي يدفع بإرادته إلى أبعد مدى ممكن، ولكي يصنع حكايته الخاصة.

درس إرادة الحياة نحتاجه اليوم أكثر من أي وقت مضى. لا نحتاجه فقط لمواجهة ثقافة الموت الجاثمة على أنفاسنا، ولكن أيضاً لأجل الانخراط في الحضارة المعاصرة التي يبدو أنها دخلت مرحلة بالغة الحساسية والتعقيد.

هذه الحضارة المعاصرة جعلتنا نربح أشياء كثيرة: سرعة المواصلات، تقنيات التواصل، الهندسة الوراثية، غزو الفضاء، إلخ، لكنها جعلتنا نخسر في المقابل ثلاثة أمور أساسية: البساطة والرتابة واليقين:

بدءا من نمط الإنتاج الجديد –وهنا قد نصادف ماركس في القول بتأثير البنية الإنتاجية- بدل العمل التسلسلي التكراري وفق نمط كينز وفورد في اقتصاديات بداية القرن العشرين، هناك اليوم تحول إنتاجي نحو مرونة الشغل، وتعقد العمل، وتقلب المهام، وشخصنة الإنتاج. وبدل الوظيفة القارة وفق عقود عمل دائمة ثمة تحول نحو عقود العمل المؤقتة، بما يستتبع ذلك من تغيير دائم في المنصب والمسكن، وتوافد المهاجرين على حساب السكان المحليين، وعلاقات اجتماعية عرضية، في الزمالة، والصداقة، والجوار، بل حتى في الحب. غير أن أفول أسطورة «إلى الأبد» لا يعني اختفاء الحب وإنما يعني العكس تماما، أن نعيشه كتجربة متقلبة بفعل قوة الأشياء. يقال، وهذا للناطقين باللغة العربية، سمي القلب قلبا لأنه يتقلب.

هشاشة وجوديّة

إذا انتقلنا إلى المستوى الكوسمولوجي، فسنشعر بأننا في وضعية بالغة الهشاشة. الأرض التي نقف عليها لم تفقد سكونها وحسب، وهو السكون الذي كان يمنح لإنسان العالم القديم الشعور بنوع من السكينة الكوسمولوجية، وإنما اكتشفنا بأنها تتحرك بسرعة خارقة. حقيقة المشهد هي على النحو التالي: إننا نقف فوق كتلة صخرية، تتدحرج بنا، وتتحرك مثل القذيفة بمعدل سرعة يقارب 30 كلم في الثانية. فوق ذلك، ليس مستبعداً وفق بعض الفرضيات أن المجموعة الشمسية بأكملها تتحرك في اتجاه غير معلوم. وهذا ما قد يزيد من حجم الشعور بالهشاشة الكوسمولوجية.

أما إذا انتقلنا إلى مفهوم الحياة، فهنا مسألتان بالغتا الخطورة: أوّلاً، لم يعد الشخص منا يتصور نفسه موجودا بفعل الضرورة الأنطولوجية، كما كان تصور القدامى، بل يدرك بأنه موجود جراء احتمال بيولوجي، يقترب في مجمله من واحد على ما لانهاية. ثانيا، بفعل تطور تقنيات الطب لم يعد جدار الفصل بين لحظة الحياة ولحظة الموت مسألة بديهية. فقد اتّسعت مساحة التّداخل والالتباس المسماة طبيا بالموت السريري. لذلك، كثيراً ما يكون قرار رفع الأجهزة الطبية الداعمة للحياة، ومن ثمة الإعلان الرسمي عن الوفاة، مجرد قرار اعتباطي لا يستند إلى يقين مطلق، سواء اتخذه الأطباء أو اتخذته العائلة.

في المقابل، ليس يخفى أن العقل التقني ميال بحكم طبيعة تكوينه إلى البساطة واليقين. وهو ما يدفعه في الأخير إلى الاصطدام بالحضارة التي أنجبته. هذا بالذات ما يفسر سهولة انزلاق العديد من التقنيين والمهندسين الشباب إلى معاقل التطرف الديني. المطروح إذاً هو استيعاب مفاهيم الشك والتعقيد والارتياب. ما يعني الانفتاح على آليات العقل التواصلي، والفكر المركب، والرؤية التفكيكية، والمجتمع المفتوح، حيث نصادف فلاسفة من قبيل هابرماس، وإدغار موران، وجاك ديريدا، وكارل بوبر، وغيرهم.

ما الذي نتعلمه من هذه المصادفات النظرية؟ نتعلم أن نفكر بلا يقين، بمعنى أن نفكر، نتعلم أن نعيش بلا ضمانات، بمعنى أن نعيش، ونتعلم أن نستمتع بموسيقى الأشياء، وهي في حالة انسياب دافق، تماماً مثلما نستمتع بقبلة عميقة في لحظة وداع بمطار أو ميناء العودة، بلا حاجة إلى أمل كاذب. هل خضتم التجربة؟ في تجربة كهذه ستصادفون الحياة.

درس نيتشه

لا يقصد نيتشه بإرادة الحياة مجرد البقاء على قيد الحياة. إذ أن البقاء على قيد الحياة بأي ثمن هو أصل طبقة العبيد عند هيجل. العبيد في أصلهم أسرى حروب لم يقاتلوا حتى الموت، بل آثروا الاستسلام ومن ثمة العبودية على الموت. فصار الأسرى عبيداً، وشكّل العبيد طبقة تتوارث العبودية وتتوارث ثقافة وقيم العبودية. أما الحياة بالمعنى النيتشوي فإنها تحيل إلى تلك الطاقة الحيوية التي تدفع الإنسان إلى اقتحام أدغال الحياة والذهاب فيها إلى أبعد مدى ممكن. غير أن طاقة الحياة، على خلاف الطاقة في العالم الفيزيائي، لها خاصية دراماتيكية: الفناء. الإنسان كائن من أجل الفناء، يقول هيدجر. ما معنى هذا الكلام؟ معناه أن المرء لا يملك الكثير من الوقت لكي يحقق ذاته، لكي يدفع بإرادته إلى أبعد مدى ممكن، ولكي يصنع حكايته الخاصة.

درس إرادة الحياة نحتاجه اليوم أكثر من أي وقت مضى. لا نحتاجه فقط لمواجهة ثقافة الموت الجاثمة على أنفاسنا، ولكن أيضاً لأجل الانخراط في الحضارة المعاصرة التي يبدو أنها دخلت مرحلة بالغة الحساسية والتعقيد.

___
*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *