حفيد “أبو يسرى”

خاص- ثقافات

*محمود الباتع

لم يجد “أبو يسرَى” متسعاً له في الدنيا بأسرها يوم أن رزقت وحيدته “يسرى” بمولودها الأول بعد عامين من زواجها، ليصبح بذلك جداً لأول مرة في حياته وهو في السادسة والأربعين لا غير. سيطرت عليه وراقت له كثيراً فكرة الجد الشاب الذي أصبحه، بما ضاعف عليه فرحته ضعفين، ورغب في إشراك كل من حوله في هذه الفرحة العارمة، فقام بصناعة صينية نمورة باللوز بنفسه، وجلس بها عند مدخل العمارة مزوداً بمنضدة صغيرة ومقعد أصغر إلى جانب صدر الحلوى وعدد من الأطباق البلاستيكية إلى جانبه. ائتزر بمريلة المطبخ وارتدى قفازين من المطاط متخذاً هيئة بائعي الحلوى الجوالين، فراح ينادي على كل داخل وخارج من السكان داعياً إياهم لتذوق حلوان حفيده الوليد. كان من الإلحاح عليهم بحيث لا يترك مجالاً لأيهم للاعتذار ..،

تفضل يا جار ..

عقبال عند أنجالكم ..

حلاوة حفيدي يا حلوين

تفضلي جارتنا .. حلوان سلامة “يسرى”

إيدي ع راسك تجابرنا بلقمة ..

أقسمت عليك لتتحلى يا أبو فلان ..

اليوم ببلاش .. بكرة بمصاري .. هههه

وما هي إلا دقائق حتى تحلق جمع من الجيران وبعض العابرين حول “أبي يسرى”، وكل قد أمسك بصحنه بينما يمضغون قطع النمورة اللذيذة واحدة تلو أخرى، مطلقين ألسنتهم بآيات التبريك والتهاني مشفوعة بالدعاء للوليد القادم بالصحة والسعادة والصلاح، قبل أن يستزيد بعضهم من صدر النمورة قطعة أخرى أو أكثر.

كان قد تبقى من الصدر العرمرم أقل قليلاً من ربعه عندما مر داخلاً إلى العمارة “أبو سليم”، وهو جار انعزالي في أواسط العمر، قليل الكلام والاختلاط والتعاطي مع الجيران، ربما عن خجل أو عن كبر ربما .. وهذا ما أثار حول شخصيته نظريات متعددة بين السكان.

ألقى “أبو سليم” السلام على الجمع بعينين مصوبتان نحو الأرض وصوت خافت سريع النبرة لم يكد يميزها من كان على بعد خطوات .. علا صوت “أبو يسرى” مرحباً (أهلين “أبو سليم” .. حماتك بتحبك، تفضل يا جار حلوان الصبي، عقبال عند حبايبك ..)

“شكراً شكراً ..” .. تمتم “أبو سليم” بسرعة بينما قدماه تسبقانه باتجاه المصعد. لكن “أبو يسرى” ركض خلفه بصحن امتلأ بالحلوى وهو يحلف عليه أن يتحلى ويشاركه فرحته، غير أن “أبو سليم” بقي على إطراقه وانطلاقه نحو المصعد، وحتى عندما وضع “أبو يسرى” الصحن بين يديه، أخذه “أبو سليم” وأعاده بسرعة إلى المنضدة دون أن يتوقف عن ترديد ( .. شكراً شكراً ..) ثم دخل إلى المصعد واختفى.

وسط ذهول الجمع ونظراتهم الصامتة في إنكار للموقف الذي تسمرت فيه أيديهم على صحونهم وأفواههم على قطع النمورة، عاد “أبو يسرى” صوب مقعده وقد علته ابتسامة بها من الخزي أكثر من أي شيء آخر، وسرعان ما كسر حدة الوجوم بأن علّق قائلاً .. ( يا سلام .. هل رأيتم أخلاق “أبو سليم” وتربيته الراقية ؟!) ليضيف والجمع يحملق فيه مشدوهاً ..

( .. أبو سليم هذا رجل صاحب موقف وعنده كرامة عالية الجودة .. يا ريت الكل يتعلم منه كيف تكون عزة النفس …) !!!

 

 

شاهد أيضاً

قصة “الظل” لإدغار آلان بو

(ثقافات) قصة الظل[1]. إدغار آلان بو ترجمة: عبد القادر  بوطالب                أنت الذي تقرأ ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *